المناورات الاسرائيلية وقوانين اللعبة في المفاوضات

بقلم ممدوح نوفل في 03/02/1992

يدور حديث في بعض الأوساط السياسية الفلسطينية وفي الشارع داخل وخارج الأراضي المحتلة، عن جدوى تواصل المفاوضات الفلسطينية- الاسرائيلية، طالما هناك اتفاق وشبه اجماع على أن اسرائيل لا تتعامل بجدية مع المفاوضات، وتنظر لها باعتبارها عملية تكتيكية ومناورة تضليلية، وطالما أن ممارسات وأعمال القمع والارهاب الاسرائيلية زادت وتكثفت خلال فترة المفاوضات وطالما تكشفت الجولات الثلاث من المفاوضات التي تمت حتى الآن عن نية الوفد الاسرائيلي في المماطلة وقتل الوقت ومنع المفاوضات من التحرك على سكة الحل. وطالما أن الولايات المتحدة لم تمارس الضغط المطلوب على اسرائيل، وكلاهما مقبل على فترة انتخابات..الخ من الاسباب والحجج الموضوعية.
لا شك أن كل هذه الحجج واقعية وقد لا يختلف حولها فلسطينيان، بل ويمكن أن نضيف أنها كانت متوقعة، ولا نظن أن أي من الذين أيدوا المشاركة في العملية السلمية الجارية قد فوجيء بها. ونعتقد أن كل من كان يتوقع نتائج ملموسة خلال ثلاثة أشهر أو أربعة أو خمس جولات من المفاوضات يكون مخطئا في التقدير والحساب، ويضع الرغبات الذاتية والامنيات محل الوقائع الصعبة. كما ونعتقد أن كل مناداة الآن بوقف المفاوضات تقع في اطار الانفعال وردود الافعال، والوقوع في شباك المفاوض الاسرائيلي وأفخاخه التي نصبها للايقاع بالطرف الفلسطيني والعربي ودفعه نحو تفشيل العملية التفاوضية. فلا نأتي بجديد اذا قلنا أن القيادة الاسرائيلية الحالية لا مصلحة لها في صنع سلام عادل وشامل مع جيرانها. فمثل هذا السلام يتعارض مع مصالحها السياسية والاقتصادية ومع منطلقاتها الايديولوجية. ويكون من باب التكرار اذا قلنا أن شامير قد دخل العملية السلمية مكرها، وركب قطارها ليضلل الرأي العام العالمي وليصون تحالفاته وعلاقاته الدولية وخاصة مع الولايات المتحدة، وليعمل من داخل عربات القطار على حرف مساره ودفعه نحو طرق مقفلة لا توصل لأي حل عادل.
ونعتقد أن السؤال المطروح ليس أن نستمر أو ننسحب من المفاوضات، بل هو هل القيادة الاسرائيلية مطلقة الحرية في اتخاذ ما تريد من مواقف تعطيلية وتطفيشية ؟؟ أم ان هناك ضوابط للعملية تلزمها على التقيد بقوانين اللعبة وأسس المفاوضات ؟؟. ففي ضوء الاجابة الموضوعية والهادئة لهذا السؤال يمكن للقيادة الفلسطينية أن تحدد موقفها من الاستمرار او الانسحاب، الآن أو في أية فترة لاحقة.
ولعله من المفيد وقبل الدخول في الاجابة التذكير بأن دخول الطرف الفلسطيني في مفاوضات السلام لم ولا تعني اطلاقا تجميد او الغاء او تعطيل أي شكل من اشكال النضال المتوفرة والتي كانت متبعة قبل المشاركة في عملية السلام. والكل يعرف ان المشاركة الفلسطينية تمت دون أية شروط او التزامات رسمية او غير رسمية تعطل او تؤثر على متابعة اشكال النضال الاخرى. واذا كان هناك خلل في العمل بأشكال النضال الاخرى فهذا يندرج في خانة التقصير الذاتي ولا علاقة له بعملية السلام من قريب أو بعيد، ونظن أن كل تعليق لمثل هذه القصورات على مشجب المفاوضات، ليس سوى هروب من مواجهة الذات ومحاسبتها على هكذا نواقص وثغرات. ولعل من المفيد التذكير أيضا بأن مناقشات القيادة الفلسطينية في المؤسسات التشريعية والتنفيذية قد أكدت على أن المشاركة الفلسطينية في مؤتمر السلام تفرض بالضرورة تصعيد وتطوير أشكال النضال الاخرى وخاصة حركة الانتفاضة، لتقديم الدعم والاسناد الضروريين للمفاوض الفلسطيني، وتدعيم وتقوية موقفه على طاولة المفاوضات بمواقف صلبة وقوية على الأرض.
أما بشأن المناورات الاسرائيلية، وقوانين اللعبة، فان أي تدقيق فيها يظهر ان مناورات وتكتيكات الوفد الاسرائيلي المفاوض لا زالت تدور (شكليا) حتى الان على ارض الملعب، وضمن قوانين وأسس مؤتمر السلام وليس خارجها. وحتى الان لا نستطيع القول انها تجاوزت ما ورد في رسالة الدعوة لمؤتمر مدريد، ولجولة واشنطن الاولى. وعندما حاولت ذلك في الجولة الاولى من مفاوضات واشنطن (محاولة شطب المسارين، تغير وظيفة الوفد المشترك) لمسنا انها عادت او اعيدت في الجولة الثانية للانضباط لقوانين وأسس العملية كما حددت في رسائل الدعوة.
وسلفا نقول ان ذلك لا يعني انها سوف تبقى ملتزمة ومنضبطة (ولو بالشكل)، فدراسة نصوص ومضمون ما ورد في رسالة الدعوة التي على اساسها انطلقت عملية السلام في مدريد ورسالة التطمينات التي قدمها الوزير بيكر للطرف الفلسطيني واللتين اطلعت عليهما اسرائيل قبل بدء المؤتمر، توصل لاستنتاجات اخرى، حيث أكدتا على عدد من الامور الجوهرية التي يصعب، كما نعتقد، على القيادة الاسرائيلية هضمها وتنفيذها بارادة ورغبة ذاتية. منها على سبيل المثال:
1) فهم طبيعة السلام: فقد نصت رسالة الدعوة ورسالة التطمينات على ان السلام المنشود بين العرب والاسرائيليين هو سلام شامل ودائم، يقوم على مبدأ الارض مقابل السلام. (“لا تزال الولايات المتحدة تعتقد بقوة ان السلام الشامل يجب ان يتأسس على قراري مجلس الامن 242 و 338 ومبدأ الارض مقابل السلام”… ر.تط 4) و (“هذه العملية وحدها هي التي يمكن من خلالها تحقيق السلام والمصالحة بين الدول العربية واسرائيل والفلسطينيين، ويمكن لشعوب الشرق الاوسط ان تنال الامن والسلام الذي تستحقه”.. د.مد).
2) تحديد واضح لاهداف العملية، حيث نصتا على نهاية الاحتلال والامن للجميع وسيطرة الفلسطينيين سريعا على القرارات التي تمس حياتهم ومصيرهم (“تعتقد الولايات المتحدة بانه يجب ان يكون هناك نهاية للاحتلال الاسرائيلي، وهذا يمكن ان يتم فقط عبر المفاوضات الصادقة” ر.تط) (يحتاج الفلسطينيون لتحقيق السيطرة السريعة على القرارات السياسية والاقتصادية التي تمس حياتهم، وللتكيف مع وضع جديد يمارس فيه الفلسطينيون السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة” ر.تط) (فاننا لا نستثني الكونفدرالية كنتيجة ممكنةللمفاوضات حول الوضع النهائي” ر.تط).
3) تحديد وتيرة وسقف زمني للمفاوضات، فقدت نصت الوثيقتان على سنة واحدة للوصول الى اتفاق حول الحكم الذاتي وخمس سنوات كحد أقصى للحل النهائي (“يوجد اتفاق على ان المرحلة الاولى ستركز على حكم الذات الانتقالية” د.و) (ستعقد هذه المباحثات بهدف التوصل على اتفاق خلال عام واحد” د.مد) (“تستمر ترتيبات حكم الذات الانتقالية لفترة خمس سنوات”د.مد)، (“مع بداية العام الثالث لفترة ترتيبات حكم الذات الانتقالية ستبدأ المفاوضات حول الوضع الدائم” د.مد).
4) مسؤولية الراعيين تجاه العملية: أشارت النصوص الى مسؤوليات محددة للراعيين تجاه ميكانيزم المفاوضات والالتزام بنجاحها حيث نصت: (“وسعيا نحو تسوية شاملة يجب أن تتقدم جميع المفاوضات بأسرع ما يمكن نحو الاتفاق” ر.تط)، (“سوف تعمل الولايات المتحدة من أجل مفاوضات جادة وسوف تسعى أيضا لتجنب التطويل والتلكؤ من جانب أي طرف” ر.تط)، (“وتمثل نيتنا ونية الاتحاد السوفياتي في لعب دور القوة الدافعة في هذه العملية لمساعدة الاطراف على التقدم في اتجاه سلام شامل” ر.تط)، (“ان الراعيين ملتزمان بانجاح هذه العملية” د.مد).
وفي ضوء ذلك كله يمكننا القول والاستنتاج أن القيادة الاسرائيلية الحالية ستواجه في حال التزام الادارة الامريكية وروسيا بمواقفها المعلنة وبالتزاماتها (التي أشرنا اليها والواردة في رسالة الدعوة وكتاب التطمينات) وفي حال تواصل المفاوضات أحد خيارين خلال التسع شهور القادمة، اما التصادم مع الموقف الدولي وخاصة الامريكي والانسحاب من العملية، أو الخضوع لارادة المجتمع الدولي ولقرارات الشرعية الدولية وبالتالي الوصول مع الفلسطينيين والدول العربية الى حل ما تحدده نتائج المفاوضات، حده الأدنى تسوية مؤقتة، أما سقفه الاعلى فهو السلام العادل والشامل والدائم. ونعتقد أن أي حل قد يتم التوصل له خلال المفاوضات لن ينقل الشعب الفلسطيني الى أوضاع أصعب من التي يعيشها الان، بل سيكون أفضل من الوضع القائم. وكلا الاحتمالين يؤكدان كما نعتقد سلامة قرار المشاركة فيها.
واذا كانت هذه الاستنتاجات صحيحة لربما يصبح مطلوبا من صناع القرار السياسي الفلسطيني ومن الوفد المفاوض الحرص على تواصل المفاوضات وعدم تسهيل خروج القيادة الاسرائيلية من القفص الذي حشرتها فيه عملية السلام، والعمل بكل السبل لوضع راعيي المؤتمر وخاصة الراعي الامريكي امام مسؤولياته والتزاماته المنصوص عليها في رسالة الدعوة وفي كتاب التطمينات وتذكيره دائما بهذه الالتزامات وبكل ما أضيف لها في محاضر اللقاءات الثنائية أو بصورة شفوية. والى جانب ذلك كله لا نعتقد أننا بحاجة الى تذكير الوفد الفلسطيني بضرورة التمسك الحازم بالثوابت الوطنية الفلسطينية، وعدم القبول بأي حل مرحلي أو مؤقت يتعارض مع هذه الاهداف أو يقفل الطريق أمام متابعة النضال لتحقيقها.
لقد صبر شعبنا 44 عاما كاملة تحمل خلالها كل صنوف الآلام والعذاب، ونعتقد أن بامكان وفدنا ومرجعيته السياسية أن تصبر 9 شهور على مماحكات واستفزازات روبنشتاين وأعضاء الوفد الاسرائيلي المفاوض. وبعدها يصبح من حق المعارضة الفلسطينية وكل الذين استفزتهم سياسات وممارسات الوفد الاسرائيلي وحكومته أن يطالبوا القيادة الفلسطينية باجراء مراجعة شاملة، وتقييم دقيق لنتائج قرارها بالمشاركة في عملية السلام. ونظن أن القيادة الفلسطينية ستكون في وضع المستجيب ان لم تكن مبادرة في ذلك. أما الالحاح الان على وقف المفاوضات، فاننا نعتقد أنه موقف انفعالي، دوافعه وطنية، تستحق الاحترام والتقدير، مع تأجيل بحثها. وحتى ذلك الحين فاننا نعتقد أن المصلحة الوطنية العليا يجب أن تبقى فوق كل اعتبار حزبي أو سواه، وتفرض بالضرورة أن تتوحد جهود الجميع ضد الاحتلال ولدعم الوفد الفلسطيني المفاوض وتمكينه من مواجهة كل مناورات وتكتيكات الوفد الاسرائيلي. ونعتقد أن كل مسلك مخالف لذلك يسيء للديمقراطية الفلسطينية.

تونس