قراءة في تكتيك المفاوض الاسرائيلي
بقلم ممدوح نوفل في 01/02/1992
رغم قلة عدد الجولات والجلسات التي عقدتها الوفود العربية مع الوفد الاسرائيلي حتى الآن، الا أننا نعتقد أنها تكفي لاجراء قراءة أولية لتكتيك الوفد الاسرائيلي في مفاوضات السلام.
ولعل من الضروري الاشارة في بداية هذا المقال الى أن ما يمكن رصده عن مسار الجولات السابقة، لا يعني بقائه بالضرورة حتى نهاية المفاوضات. فالموقف التفاوضي الاسرائيلي والعربي متحرك لأنه يتأثر بعوامل خارجية بالاضافة لعوامل داخلية وبمكانيزم عملية المفاوضات ذاتها وما تخلقه من تفاعلات. وقراءة الموقف والتكتيك التفاوضي الاسرائيلي تتطلب، كما نتصور، التعرف على حقيقة موقف الحكومة الاسرائيلية من مسألة صنع سلام حقيقي يقوم على أساس قرارات الشرعية. ولعل الاجابة على السؤال الثاني تمكننا من التعرف على الاساس السياسي والعقائدي لحركة المفاوض الاسرائيلي وكذلك التعرف على حدود المساحة التي يستطيع الوفد الاسرائيلي المفاوض التحرك ضمنها. هل من مصلحة حقيقية للقيادة الاسرائيلية الحالية في الوصول بالعملية التفاوضية الجارية الى سلام عادل وشامل مع الشعب الفلسطيني والدول العربية ؟؟
لاشك ان هناك خلافات عميقة بين الاطراف العربية واسرائيل حول مفهوم السلام العادل والشامل والدائم، ولكننا نعتقد أن ليس سهلا على الطرف الاسرائيلي املاء مفهومه على الطرف العربي، أو جعله هو المفهوم المرسم دوليا. فاسرائيل تفهم وتفسر قرارات 242 و 338 على أساس السلام مقابل السلام وترفض الانسحاب من الاراضي المحتلة، في الوقت الذي تتضمن هذه القرارات نصوصا صريحة بعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، ويجمع العالم بما في ذلك الولايات المتحدة على أن السلام العادل يقوم على مبدأ الارض مقابل السلام (لا تزال الولايات المتحدة تعتقد بقوة أن السلام الشامل يجب أن يتأسس على قراري مجلس الأمن 242 و 338 ومبدأ الارض مقابل السلام “ر.تط 4).
والقيادة الاسرائيلية تتمسك بمفهومها للسلام وتصر عليه مستندة الى العديد من الاعتبارات الايديولوجية والسياسية والاقتصادية اهمها:
1) تدرك القيادة الاسرائيلية أن موازين قوى الصراع باتت مختلة لصالحها تماما خاصة بعد حرب الخليج، وتعتقد أن عامل الزمن يجري لصالحها، وأن ليس بمقدور العرب احداث تعديل نوعي في ميزان القوى العسكري على مدى عشر سنوات قادمة على أقل تقدير. وهذا الاختلال يمنحها فرصة انجاز بعض أهدافها الاستراتيجية.
2) تعتقد أن الاوضاع الدولية الراهنة هي الفترة الذهبية المناسبة لانجاز عمليات الهجرة الكبرى الثالثة. حيث تبنت الادارة الامريكية هذا الموضوع وبات ركنا أساسيا من أركان علاقاتها بالاتحاد السوفياتي (سابقا) وبدول التعاون لاحقا. ومع الهجرة تترافق دوما عمليات استيطانية واسعة، ومساعدات اقتصادية متعددة المصادر لاستيعاب المهاجرين وتوطينهم. وتعتقد القيادة الاسرائيلية أن نجاحها على هذا الصعيد يمكنها من التغلب على العقدة السكانية، ويرسي اساسا ثابتا لتنمية قدراتها وطاقاتها البشرية والاقتصادية في المستقبل، وخلق وقائع جديدة في المنطقة قبل أن يستفيق العرب من سباتهم العميق.
3) ترى القيادة الاسرائيلية في الضفة والقطاع مجالا اقتصاديا مربحا وحيويا لها في الوقت الراهن وفي المستقبل، فهي من جهة سوق لمنتوجها الاقتصادي، وفيها يد عاملة رخيصة تشغلها في الاعمال القذرة.
4) كما ويجب عدم التقليل من القناعات الايديولوجية لأركان الحكومة الاسرائيلية وتأثيرها على مفهومها للسلام. فالائتلاف الحاكم ذو لون عقائدي واحد، قاسمه المشترك التعصب والدوغمائية والتمسك بالمعتقدات التاريخية وما تحمله من أوهام وخرافات بالية. وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى أن هذا الائتلاف العقائدي يميز بين سيناء والضفة الغربية، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، فهو ينظر للضفة الغربية (تحديدا) باعتبارها أرضا توراتية لا يمكن التخلي عنها.
وبالاستناد لهذه العوامل والاعتبارات يمكن الاستخلاص أن القيادة الاسرائيلية الحالية ليس لها أي مصلحة في قيام سلام عادل وشامل وثابت وفقا للمفهوم الدولي ومنه الامريكي الذي يقول الارض مقابل السلام وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. فمثل هذا السلام ينسف لها أسس عقيدتها، ويلغي مبرر وجودها السياسي، ويكشف التزوير التاريخي الذي قامت به على مدى عقود زمنية عديدة. ولهذا فان حرصها على ذاتها وعلى عدم تضعضع العقيدة الصهيونية وبالتالي المجتمع الاسرائيلي كله، يجعلها من ألد أعداء السلام العادل. وهي تدرك أيضا أن مثل هذا السلام يفقدها الدور الاستراتيجي (الاستعماري) الذي صنعه الغير لها ورضيت به. وهي ضد استقرار اوضاع المنطقة، لأن الاستقرار القائم على السلام يحجم دورها ويحرك تركيبتها الاجتماعية والدينية وقد يحولها الى دولة صغير من دول المنطقة (دولة شرق أوسطية) تنخرها صراعات عرقية وطائفية مثلها مثل سائر دول المنطقة.
وتدرك القيادة الاسرائيلية أن من المستحيل على العرب أن يقبلوا بمبدأ السلام مقابل السلام، وتعرف أن الحركة السياسية الدولية الجارية بحثا عن خلق استقرار دائم في المنطقة لا تسير في هذا الاتجاه ولا توصل الى تنفيذ هذا المبدأ، ولذا فان موقفها الاستراتيجي والذي ينبع منه تكتيكها التفاوضي يقوم على أساس افشال الحركة السياسية وايصالها الى طريق مسدود من خلال ركوب عربتها بهدف عدم الظهور بمظهر الرافض للسلام، والعمل بنفس الوقت على منع هذه العربة من السير في أي طريق يوصل الى السلام العادل والدائم والشامل، وتعمل على دفعها وتوجيهها باستمرار للسير في طرق وعرة ومسدودة الآفاق.وبالتدقيق في مواقف الحكومة الاسرائيلية منذ بدء العملية السياسية وحتى الان يمكن رصد التالي في مسلكها التفاوضي:
أولا : دفع الجانب العربي نحو افشال العملية السياسية:
مع اعلانها عن موافقتها على الدخول في مباحثات تمهيدية مع الوزير بيكر بحثا عن امكانية صنع السلام في المنطقة، عملت الحكومة الاسرائيلية بكل ما أوتيت من قوة وحيل سياسية على استفزاز الاطراف العربية في المفاوضات غير المباشرة التي قام بها الوزير بيكر والتي دارت في حينها حول اطار العملية وأسسها والقوى المشاركة فيها. ونعتقد أن لا داعي لاستذكار مواقفها خلال فترة المفاوضات التمهيدية التي سبقت انعقاد مؤتمر مدريد. فالكل يذكر الصراع حول اسم المؤتمر، مؤتمر دولي أم مؤتمر اقليمي ام مؤتمر سلام، وكذلك الصراع حول قرارات الامم المتحدة أم 242 فقط، والصراع حول موضوع تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وحول القدس، والانسحاب…الخ من الاسس. والكل يتذكر أيضا الصراع الذي دار حول التمثيل الفلسطيني وحول مشاركة الامم المتحدة والمشاركة الاوروبية. وكان واضحا في حينها أن كل تلك المواقف الاسرائيلية لم تكن سوى محاولات لدفع الجانب العربي ككل أو كأطراف الى رفض الدخول في العملية السياسية وتحمل المسؤولية عن احباط الجهود الدولية الباحثة عن اقامة سلام في المنطقة. وبعد افشال الجانب العربي لهذه المناورة الاسرائيلية وبعد افتتاح مؤتمر السلام في مدريد، تابعت الحكومة الاسرائيلية محاولاتها بذات الاتجاه من خلال انتهاجها مسلكا تفاوضيا استفزازيا كالمماطلة والتأخر عن المواعيد..الخ، مقرونة بخطوات اكثر استفزازية من نوع تكثيف حركة الاستيطان والابعاد، وقصف جنوب لبنان، مرفقة ذلك كله بحملة اعلامية استفزازية. هذا ويتوقع أن تتابع الحكومة الاسرائيلية وتركز محاولاتها هذه خلال الشهور الستة القادمة وقبل الوصول الى استحقاق نقل السلطة، على أمل دفع أحد الاطراف العربية أو جميعها لاتخاذ مواقف منفعلة تؤدي الى تعطيل المفاوضات وتجميدها او افشالها.
ثانيا: محاولة التحكم في مسار المفاوضات:
قبل دخولها الى قاعات مؤتمر مدريد، استطاعت الحكومة الاسرائيلية تأمين شروطا تعتقد أنها كافية للقيام بالمناورات التكتيكية اللازمة لتعطيل تقدم العملية، وكفيلة بتغطية موقفها وعدم تحمل المسؤولية بشكل سافر ومكشوف عن مثل هذا التعطيل. فالمعروف أن رسالة الضمانات التي قدمتها الادارة الامريكية لاسرائيل ورسالة الدعوة لمؤتمر السلام تؤكد على ثنائية المفاوضات، وعدم تدخل راعيي المؤتمر، وأخذت الحق في عدم الجلوس مع من لا ترغب في الجلوس معه، ونجحت في تحجيم وتهميش دور الامم المتحدة والدول دائمة العضوية..الخ من القضايا التي مكنتها من التأخر عن الذهاب الى الجولة الاولى في واشنطن، وأن تقرر أيضا انهاء الجولة الثانية من المفاوضات في الوقت الذي حددته هي، وأن لا تقدم أية صيغة جديدة لجدول أعمال أي من المسارين أو لمفهومها للحكم الانتقالي، وأن ترفض مجرد الاقرار بأن الجولان والضفة والقطاع والقدس أراضي محتلة..الخ من المواقف والمناورات التفاوضية، ودون أن تجد من يحاسبها او يعتبرها خارجة عن أصول وأسس العملية السياسية. هذا ومن الواضح ان الحكومة الاسرائيلية ستواصل جهودها للاستمرار في التحكم في مسار المفاوضات في الجولات القادمة سواء أكان في جوانبها الاجرائية أو الجوهرية، وزجها في متاهات شكلية، على أمل دفع المفاوض العربي الى الانسحاب او الوصول بالعملية الى طرق مسدودة.
ثالثا: مواصلة العمل على استبعاد دور راعيي المؤتمر:
تدرك القيادة الاسرائيلية أن خلاصة موقفها حول مفهوم السلام تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية ولا تنسجم مع مواقف أي من حلفائها. فهي تعرف ان الاتحاد السوفياتي سابقا، وروسيا لاحقا مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ومع الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي العربية التي احتلت عام 67، ومع ضمان أمن جميع دول المنطقة. كما وتعرف أن الادارة الامريكية لا توافقها على موقفها القائم على أساس “السلام مقابل السلام”، والاحتفاظ بالاراضي المحتلة. ولهذا حرصت القيادة الاسرائيلية منذ بداية العملية السياسية على تحجيم وتهميش الدور الرسمي لراعيي المؤتمر، ونجحت في حصره في حدود الدور الاستشاري، وفي تغييب حضورهما على طاولة المفاوضات وذلك تجنبا لأي تصادم معهما، علما بأن مفاوضات كامب ديفيد كانت تضمن للطرف الأمريكي المشاركة المباشرة وحضور جلسات المفاوضات. وعند بدء المفاوضات حرصت القيادة الاسرائيلية على تذكير الراعي الامريكي بحدود مهامهة وصلاحياته، فقد تعمدت التأخر عدة أيام عن الذهاب الى الجولة الأولى من المفاوضات في واشنطن، وأنهت الجولة الثانية وفقا لرغبتها لتقول للادارة الامريكية أن تحديد المكان والزمان ليس من صلاحيات راعيي المؤتمر، وأن اقدامهما على ذلك يعتبر تدخلا مباشرا في المفاوضات، وهذا أمر غير منصوص عليه وغير مرغوب به. هذا ويتوقع أن تبذل القيادة الاسرائيلية مستقبلا كل جهد ممكن لابعاد راعيي المؤتمر عن التدخل في كل المراحل اللاحقة للعملية التفاوضية وتقليص دورهما الى أدنى مستوى ممكن.
رابعا: محاولة الاستفراد بالأطراف العربية:
منذ الجولة الاولى للوزير بيكر أصرت القيادة الاسرائيلية على صيغة المفاوضات الثنائية مع الاطراف العربية، ولم تكن بحاجة للصراع من أجل انتزاع هذه الصيغة، ففي حينها لم يبادر أي من الاطراف العربية لطرح صيغ بديلة، حتى أنها (الاطراف العربية) لم تنتظر الموقف الفلسطيني النهائي من مسألة المشاركة في المفاوضات، حيث راح كل منها يعلن موافقته، وظهر وكأن هناك شيء من التسابق العربي على استرضاء الادارة الامريكية. ومما لا شك فيه أن اصرار القيادة الاسرائيلية على صيغة المفاوضات الثنائية لم يكن مفاجئا لأي من الاطراف العربية، فالمعروف للجميع أن الحكومة الاسرائيلية طرحت هذه الفكرة وأصرت عليها منذ نهاية الاربعينات ولم تتراجع عنها حتى الآن. وهدفها من ذلك معروف أيضا للجميع وهو محاولة الاستفراد بالاطراف العربية طرفا بعد الاخر. ونجاحها في أواخر الاربعينات ولاحقا في أواخر السبعينات في الوصول الى اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر شجعها على التمسك بهذا الخط التفاوضي مع العرب. وتؤكد مجريات الجولات المحدودة من المفاوضات الجارية أن المفاوض الاسرائيلي يحاول اللعب على المصالح الخاصة لهذا الطرف او ذاك من الاطراف العربية. فتارة يتحدث عن استعداده للانسحاب من الجنوب اللبناني وتسوية مشكلاته مع لبنان شريطة أن يتحرر اللبناني من الارتباط بمواقف الاطراف العربية، وكثيرا ما حاول اللعب على مسألة الوفد الاردني والوفد المشترك. ونعتقد أننا لسنا بحاجة لتأكيد قيمة توحيد مواقف الوفود العربية. فقديما قالوا في الوحدة قوة، وفي الفرقة ضعف. واذا كان دخول معظم الدول العربية حظيرة المفاوضات في المتعدد الاطراف بدون أي لقاء فيما بينها يعتبر مؤشرا على مستوى تفكك العلاقات العربية، فان استمرار هذه الحالة وتواصلها في مراحل المفاوضات اللاحقة يقود حتما الى صيغ من الحلول الثنائية، والى مزيد من الصراعات العربية العربية.
خامسا : تسويق مواقفها ومحاولة قبض ثمنها:
بالرغم من كون الموقف الحقيقي للحكومة الاسرائيلية هو افشال عملية السلام، الا ان المتابع لمواقفها يلحظ انها لم تقل ولو مرة واحدة أنها ضد السلام، ولا نظن أنها ستقولها يوما ما. كما أن وفدها المفاوض لم يضطر حتى الان لاستخدام عبارات من نوع مقاطعة المفاوضات، او تعليقها او تجميدها، بل ان كل ما سمع منها حتى الان هو “ايجابية النتائج” و “الحرص على مواصلة المفاوضات” و “القضية معقدة وتحتاج الى وقت طويل”..الخ من العبارات التي لا تعكس حقيقة موقفها.
ولم تكتف الحكومة الاسرائيلية بهذا التضليل والخداع، بل راحت تسوقه لدى الرأي العام العالمي ولدى بعض الاطراف المشاركة في عملية السلام. فقد جعلت من نفسها قيما على العملية، فطالبت “السوفيات” سابقا وكذلك الصين باظهار صدق نواياهم اتجاه السلام وحيادية دورهم في العملية من خلال الاعتراف باسرائيل وتبادل العلاقات الديبلوماسية الكاملة معها وتسهيل هجرة اليهود السوفيات. وباعت للادارة الامريكية موافقتها على الدخول في العملية مقابل أثمان باهظة منها المساعدة في الهجرة، والمطالبة بضمانات القروض، والأخطر، جعل قرارات الشرعية الدولية مثل قرار 242 موضع بحث ونقاش، وانتزاع موافقة الادارة الامريكية على ان هناك أكثر من تفسير لهذا القرار. وفي الجولات التي تمت يمكن ملاحظة مساومتها حتى على أبسط القضايا الاجرائية، مثل الزمان والمكان لكل جولة من جولات المفاوضات، اضافة لمسألة الوفد المشترك والمسارين.
سادسا: محاولة التأثير على الوضع المعنوي للمفاوض العربي:
في اطار سعيها لافشال عملية السلام، وتحميل المفاوض العربي مسؤولية ذلك، يلحظ عملها المبرمج للتأثير على المفاوض الفلسطيني والعربي، ووضعه دائما في جو نفسي مضغوط بهدف تيئيسه من العملية و”تطفيشه” منها، او دفعه الى وضعية المستعد لتقديم التنازلات المتلاحقة، وذلك من خلال شن عمليات اعلامية مدروسة تقوم على اطلاق تصريحات استفزازية “لا أحد يستطيع مطالبة اسرائيل بوقف الاستيطان” تحاول من خلالها وضع المفاوض أمام طريق مسدود وقبل كل جولة من جولات المفاوضات، وأيضا تعبيء الرأي العام الفلسطيني والعربي وتحقنه ضد عملية السلام ليقوم بدوره بالضغط على المفاوض وعلى مركز صناعة القرار ودفعه باتجاه التطرف والانفعال. والى جانب ذلك تضع المواطن الفلسطيني والعربي ومعه الوفود المفاوضة أمام ممارسات عملية استفزازية متعمدة، من نوع مواصلة سياسة الابعاد، وتكثيف وتنويع عمليات مصادرة الاراضي والاستيطان، وتوسيع عمليات الاعتقال، ومواصلة قصفها للجنوب اللبناني، وسائر أشكال التنكيل والقمع الأخرى، وذلك في محاولة منها لوضع المواطن والمفاوض امام سؤال خلاصته ما قيمة مواصلة المفاوضات طالما أنها لم تغير في الممارسات الاسرائيلية على الارض؟ وكأن وقف المفاوضات هو الذي يوصل لهذا التغيير، أو كأن المفاوضات تحول دون فضح أو تعرية هذه الممارسات أو أن تواصلها يتعارض مع تصعيد النضال ضد الاحتلال وبكل الاساليب والاشكال الممكنة.
وبمراقبة سلوك المفاوض الاسرائيلي يمكن القول أنه الى جانب الشق الاعلامي والممارسات العملية، هناك أيضا سيناريو مدروس يمثله المفاوض الاسرائيلي على طاولة المفاوضات لاتمام عملية التأثير على الوضع المعنوي للمفاوض العربي، فتارة تسمعه يتحدث بلغة عنجهية استعلائية، وأخرى بلغة الاستذة، وثالثة بلغة مستهترة بالعملية التفاوضية، أو بلغة اشتراطية جازمة ومانعة. هذا الى جانب طرحه مسائل شكلية تفصيلية واستدراج المفاوض الفلسطيني الى مواقف رافض لها، ليحولها الى قضية تفاوضية أساسية يصعب التراجع فيها، واذا ما تم ذلك يصبح الامر وكأنه انتصار له وهزيمة للطرف الآخر.
بعد هذا العرض للتكتيك التفاوضي الاسرائيلي، فاننا نعتقد أن الوفد الفلسطيني المفاوض والوفود العربية الأخرى قادرة على مواجهته، بكشف ألاعيبه ومناوراته وفضحها أمام الرأي العام العالمي وأمام راعيي المؤتمر، والرد فورا على ما يقع منها على طاولة المفاوضات. وقد أحسن صنعا د.حيدر عبد الشافي والأخوة الآخرون في الوفد الفلسطيني عندما ردوا بصورة فورية ومباشرة على كلام روبنشتاين عندما حاول التطاول والاستذة. وحيث أتقنوا دورهم التفاوضي وشلوا قدرة ومحاولات المفاوض الاسرائيلي لاغراق جولة واشنطن الثانية في قضايا اجرائية، وارغموه على التسليم بالمسار الفلسطيني-الاسرائيلي، ووضعه أمام أوراق عمل تتعلق بالحكومة الانتقالية وبجدول أعمال المفاوضات. ولعل من المفيد القول أن تمسك الوفد الفلسطيني والوفود العربية الأخرى بتواصل المفاوضات والحرص على تجنب تحمل المسؤولية عن تعطيلها او فشلها كفيل ليس فقط باحباط التكتيكات والمناورات الاسرائيلية، بل وبارغام المفاوض الاسرائيلي على كشف أوراقه الحقيقية، وضعه أمام أحد خيارين، اما الانضباط لقوانين وأسس المفاوضات (اللعبة)، واما الاعلان عن الانسحاب منها، وفي كلا الحالتين سيكون هو الخاسر الوحيد. هذا اذا تذكرنا أن دخولنا حلبة المفاوضات قام على أساس أنه مسار نضالي اضافي وليس بديلا عن أي شكل من الاشكال الاخرى للنضال، وأنه مسار رديف للانتفاضة ولباقي أشكال النضال والتي لا بد من تصعيدها على الارض طيلة فترة المفاوضات.