الانتخابات الاسرائيلية ودعوات تعليق المفاوضات

بقلم ممدوح نوفل في 05/03/1992

تجمع الساحة الفلسطينية بمختلف تياراتها واتجاهاتها السياسية، الواقعية المنخرطة في عملية السلام والرافضة المقاطعة لها، وتلك التي تقف بين بين، على أن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية والعربية الاسرائيلية مرشحة للمراوحة في مكانها، ولن تحقق أي تقدم جدي من الآن وحتى موعد اجراء الانتخابات الاسرائيلية في نهاية حزيران القادم. وتجمع أيضا على أن الشيء الوحيد المتوقع خلال فترة بازار الانتخابات الاسرائيلية هو مزيدا من التطرف والمزاودة في المواقف السياسية لمعظم القوى الاسرائيلية، مصحوبة بالمزيد من التصعيد في الممارسات القمعية والارهابية ضد أبناء الشعب الفلسطيني الصادمدين تحت الاحتلال، وضد انتفاضتهم الباسلة. فليس مستبعدا أن تصعد القيادة الاسرائيلية من اعتداءاتها ضد الجنوب اللبناني، وأن تحاول انجاز عمليات ارهابية نوعية وبراقة، كاغتيال بعض القيادات الفلسطينية مثلا، أو ضرب بعض الأهداف الاستراتيجية العربية الحساسة، بهدف كسب أصوات الناخبين المتطرفين والذين لا زالوا يشكلون نسبة عالية في صفوف الرأي العام الاسرائيلي، وارباك المفاوضات واضعاف الوضع المعنوي الفلسطيني والعربي، وتذكيره بقوة اسرائيل العسكرية والاستخبارية والتأثير على الحالة النفسية للمفاوض الفلسطيني والعربي ودفعه نحو حالة من اليأس والاحباط من عملية السلام أو نحو الانفعال والخروج منها.
وفي ضوء هذه التقديرات المجمع حولها، لربما لا نذيع سرا اذا قلنا أن تباينا سياسيا وقع قبل جولة واشنطن الاخيرة داخل تيار “الواقعية السياسية” المنخرطة في العملية السياسية، وبين الأطراف العربية المشاركة في عملية السلام، تركز حول جدوى الاستمرار في المفاوضات قبل انتهاء الانتخابات الاسرائيلية. حيث برز اتجاه يدعو الى تعليق المفاوضات بمبادرة فلسطينية وعربية الى ما بعد 30 حزيران القادم. ولعل ما صدر مؤخرا من مقالات وتصريحات علنية عن العديد من الشخصيات الفلسطينية تعبر بوضوح عن مواقف وآراء هذا الاتجاه الفلسطيني. أما عربيا، فالتصريحات ومقالات الصحف السورية كانت هي المبادرة في الدعوة لذلك.
ويسوق أصحاب وجهة نظر تعليق المفاوضات حتى 30 حزيران، حجة أخرى، خلاصتها أن استمرار المفاوضات خلال هذه الفترة يخدم اليمين الاسرائيلي المتطرف في الانتخابات، حيث يمكن لشامير وشارون القول للجمهور الاسرائيلي “انتخبوا الليكود، فهو الاقدر على جلب السلام بالمفهوم الاسرائيلي، لاسرائيل مع جيرانها العرب، فهو الذي أرغمهم على التفاوض وفقا لشروط اسرائيل، وهو الذي يخوض معركة المفاوضات دون تنازلات…الخ. ويدعو أصحاب وجهة النظر هذه الى تجريد شامير والليكود من هذه الورقة، واظهاره أنه عاجز عن ضمان استمرار المفاوضات، وبالتالي اظهاره بأنه عاجز عن صنع السلام..الخ، ويعتقدون أن مقاطعة المفاوضات وتعليقها تخدم قوى السلام الاسرائيلية والاتجاهات السياسية الواقعية والأقل تطرفا في الانتخابات المقبلة، ويعتقدون أن تعثر جهود السلام يعزز تمسك الشعب بالانتفاضة وبتفعيلها.
وقبل الدخول في مناقشة وجهة النظر هذه، لربما كان من الضروري تأكيد أننا نميز بين الموقف السوري ودوافعه وخلفياته، وبين مواقف التيار الفلسطيني حتى ولو تلاقت الآراء وتقاطعت الدوافع والخلفيات. ولذا فان نقاشنا يتوجه نحو آراء الطرف الفلسطيني باعتبارها مستقلة، وضمن اطار تيار الواقعية السياسية المنخرط في المفاوضات، والمتولي مسؤولية قيادة المرحلة وتنفيذ الخط السياسي الذي اقرته الهيئات التشريعية في منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي سياق النقاش والاجتهاد لا نظن أن فلسطينيا عاقلا يمكنه توقع تحقيق مكاسب من الوفد الاسرائيلي من الآن وحتى الانتخابات. فمن يغامر بعلاقته مع الادارة الامريكية ويضع نفسه في مواجهة الشرعية الدولية والرأي العام العالمي، من السهل عليه ابقاء المفاوضات تدور في حلقة مفرغة وحول قضايا اجرائية طالما أن ذلك يخدم عقيدته ومصالحه الانتخابية والحزبية.
ولكن اذا كان من المستحيل انتزاع مكاسب من الوفد الاسرائيلي مباشرة، أفلا يمكن للطرف الفلسطيني تحقيق مكاسب معينة على الصعد الأخرى وفي مجالات عديدة متنوعة؟؟ من نوع تعميق بوادر الخلافات الامريكية-الاسرائيلية والاوروبية-الاسرائيلية، والتعريف بالقضية الفلسطينية وعدالتها، وفضح الممارسات الفاشية الاسرائيلية، وتعميق الخلافات داخل اسرائيل ذاتها وداخل الليكود نفسه..الخ. ان تجربة مسيرة المفاوضات على مدى الشهور القصيرة الماضية أكدت أنه في الوقت الذي راوحت فيه المفاوضات مكانها ودارت حول نفسها أربع دورات كاملة، كانت القضية الفلسطينية وم.ت.ف والانتفاضة تحصد مكاسب هامة في مواقع ومجالات أخرى بعيدة عن طاولة المفاوضات، كان آخرها وطبعا أهمها الاشتباك الامريكي-الاسرائيلي المحدود والذي لا زال متواصلا حتى الآن حول ضمانات القروض. ولا نظن أن مثل هذا الاشتباك كان له أن يقع لو استجابت القيادة الفلسطينية والوفد الفلسطيني لدعوات مقاطعة الجولة الأخيرة من مفاوضات واشنطن. ونعتقد أن أية استجابة لمثل هذه الدعوة سوف تخفض من حدة الاشتباكات الدائرة في نطاق معركة ضمانات القروض، وقد توقفها نهائيا، فتعليق المفاوضات يقابله تعليق معركة ضمانات القروض، وتعليق معركة الاستيطان وسواها من المعارك الأخرى المفتوحة أو التي يمكن فتحها حول العديد من القضايا العادلة والمقبولة دوليا مثل الانتخابات.
أما بشأن ربط تعليق المفاوضات بالتأثير على الانتخابات لصالح قوى السلام، فاننا نظن أن العكس هو الصحيح تماما، فتعليق المفاوضات يقدم خدمة مجانية للقوى الاسرائيلية المعادية للسلام، لأن التعليق بمبادرة فلسطينية يضعف من قدرة قوى السلام على طرح برامجها ومشاريعها المتعلقة بعملية السلام ويبطل مفعول ضمانات القروض ومسألة السلام كورقة انتخابية ويعطي لشامير وشارون مجالا واسعا لشن حملة انتخابية تحت شعار ألم نقل لكم بأن الفلسطينيين والعرب لا يريدون السلام، وأن يتهم قوى السلام الاسرائيلية باتهامات متعددة يجد بعضها آذانا صاغية وسط جمهور الناخبين الاسرائيليين خاصة اذا تحملت المنظمة مسؤولية التعليق.
ولا نظن أننا يمكن أن نختلف مع اصحاب وجهة نظر تعليق المفاوضات على أن الصراع داخل اليمين الاسرائيلي المتطرف بدأ مع بدء عملية السلام. وان وحدته قد تضعضعت عندما وافق الليكود على الدخول الى قاعات مؤتمر مدريد، وواجه انقساما محدودا عندما اضطر الوفد الاسرائيلي استلام وثيقة فلسطينية تتحدث صراحة عن نقل سلطات الاحتلال الى حكومة ذاتية فلسطينية منتخبة، وعندما أرغم المفاوض الاسرائيلي على تقديم جدول أعمال يتضمن “كلاما” عن حكم ذاتي ممسوخ. ألم يستقل كل من رفائيل ايتان زعيم حزب تسوميت، ورحبعام رئيفي زعيم حزب موليديت من زارة شامير لهذه الاسباب؟. ثم هل يستطيع أحدنا انكار أن عملية السلام وتواصل المفاوضات هي الشرارة التي أشعلت النار المتأججة الآن داخل الليكود بين أنصار ليفي من سفارديم وأنصار شامير وشارون وأرينز من الاشكناز. ومن حقنا أن نسأل هل التعليق يؤجج مثل هذه الصراعات أم يبردها؟. اننا نعتقد أن المواقف المتطرفة تخدم المتطرفين في الخندق المقابل، وعكس ذلك صحيح تماما. وعلنا لا نتجنى على أحد اذا قلنا أن المواقف الواقعية الفلسطينية والانخراط في عملية السلام كانت بمثابة الرافعة التي حركت حزب العمل وقوى السلام من حالة الجمود والسباب العميق الذي كانت غارقة فيها. ونعتقد أن المزيد من التقدم في عملية السلام السلام. والمزيد من عقد جولات المفاوضات يعطي لهذه القوى مضادات حيوية يمكنها من مقاومة أمراضها الذاتية وأمراض المجتمع الذي تعيش فيه. وهو التكتيك الأفعل لتعميق مأزق تكتل الليكود وابقائه يتخبط بين قناعاته الايديولوجية وعقيدته الرجعية المضادة للسلام وبين العصر الدولي الجديد الضاغط من أجل السلام وانهاء كل النزاعات الاقليمية، خاصة بعدما انتهاء الحرب الباردة التي كانت تؤجج نيرانها.
أما موضوع الانتفاضة وتأثير عملية السلام عليها، فاننا نعتقد أن هذه قضية كبرى تحتاج الى معالجة ونقاش معمق. ونظن أن من الخطأ القول أن تعليق المفاوضات وتعثر جهود السلام سيعزز تمسك الشعب الفلسطيني بانتفاضته. ان مجريات صراع مؤتمر السلام وجولات المفاوضات كانت بمثابة رئة اضافية ساعدت الانتفاضة على التنفيس وفتحت لها آفاقا دولية رحبة لتعريف العالم بقضاياها وأهدافها، وفضح كل صنوف الممارسات الارهابية الاسرائيلية. ولا شك أن ما يقوم به الوفد الفلسطيني في كل جولة من جولات المفاوضات من عقد مؤتمرات صحفية يومية واعداد تقرير يومي عن خروقات جيش الاحتلال لحقوق الانسان ولاتفاقيات جنيف الرابعة..الخ يعد عاملا مساعدا وداعما للانتفاضة ومربك لجيش الاحتلال.
لا شك أن تعليق المفاوضات تحول نوعي في التكتيك الفلسطيني، ومثل هذا التحول يطرح العديد من الاسئلة الاساسية منها هل مهدنا عربيا ودوليا لمثل هذه الخطوة النوعية، خاصة وأن لدينا التزامات قطعناها على أنفسنا مع راعيي المؤتمر ومع الاردن شريكنا في الوفد المشترك. أليس التعليق تراجع عن هذه الالتزامات؟ ومساس بمصداقية م.ت.ف والوفد المفاوض؟. وهل المقاطعة تعزز ما تحقق من مكاسب صغيرة أو كبيرة أم تبخرها وتعيدها الى نقطة الصفر أو ما دونه في ظل الوضع العربي القائم؟. وهل المقاطعة والتعليق تعزز وحدة الصف الفلسطيني أم أنها تشقه من جديد؟. وماذا سيكون موقفنا اذا فاز الليكود من جديد في الانتخابات؟، هل نطور التعليق الى انسحاب أم نتراجع عن التعليق؟..الخ.
ان الدعوة الى لتعليق المفاوضات قضية كبيرة، وتثير أسئلة كبيرة تفرض على اصحاب الدعوة التمعن فيها قبل طرح دعوتهم بصورة علنية. وستبقى هذه الاسئلة مطروحة طالما أن شعبنا وأصدقائه لم يعرفوا ولم يتلقوا أجوبة مقعنة. وكم كنا نتمنى أن لا يفاجيء أبناء تيار الواقعية السياسية بعضهم بعضا بمواقف كبرى، وأن لا يفاجيء أحد منهم الوفد الفلسطيني المفاوض، فمثل هذه المفاجآت لا تساعد على كسب معركة المفاوضات، وجميعا نقر بأنها ليست بديلة عن أي شكل من أشكال النضال الأخرى، وتطويرها مسؤولية جماعية يتحملها سواء المنخرطون في العملية السياسية أوالرافضون لها.

تونس