المجلس المركزي وتوجهات العمل الفلسطيني
بقلم ممدوح نوفل في 15/04/1992
ولولا الحادث المشؤوم الذي تعرضت له طائرة الاخ ابوعمار فوق الصحراء الليبية لكان المجلس قد عقد دورته العادية في مطلع نيسان الماضي. والان بعد أن سلم القدر الاخ رئيس دولة فلسطين وأشفاه من آثار الحادث، بات في حكم المؤكد وفقا لقرار اللجنة التنفيذية وهيئة رئاسة المجلس الوطني أن يعقد المجلس المركزي دورته العادية في نهاية الاسبوع الاول من شهر أيار القادم.
ولعلنا لا نضخم الامور اذا قلنا ان هذه الدورة لها أهمية خاصة واستثنائية في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني. فهي تنعقد بعد الحادث الذي اهتز له العالم بأسره ما عدا اسرائيل، وقلة آخرين عطل الحقد تفكيرهم وأعمى ابصارهم، وكشفوا بمواقفهم من حادث الطائرة عن حقدهم على شعب فلسطين وليس فقط على شخص ياسر عرفات. فبسبب هذا الحادث حبس شعب فلسطين انفاسه طيلة خمسة عشر ساعة كاملة، لانه كان يشعر أن وقوع طائرة الاخ ابو عمار وفقدانها في الصحراء الليبية يعني في هذا الوقت بالذات وقوع قضيته في مهب عواصف عاتية متعددة الجنسيات والاتجاهات، ودخول نضاله الوطني في متاهات مظلمة. ومع العثورة على الطائرة وتيقنه من نجاة الاخ ابو عمار، تنفس شعب فلسطين الصعداء، وشكر بعدها أمهات الابطال الشهداء غسان ياسين، ومحمد درويش، والجمل الذين افتدوا رئيس دولتهم وقائد شعبهم بأنفسهم، وانقذوا قضيتهم وشعبهم من مأزق رهيب. ومع الاعلان عن نجاة الاخ ابوعمار تنبه شعب فلسطين داخل وخارج الوطن المحتل لأمور وقضايا كبيرة لم يفكر بها من قبل ولم تخطر على باله، يفترض أن تكون كلها موضع بحث ونقاش متأن في المؤسسات التشريعية والتنفيذية الفلسطينية وضمنها المجلس المركزي.
واستثنائية الدورة تأتي أيضا من كونها تعقد للبحث في وتحديد توجهات العمل الفلسطيني لفترة قادمة مليئة بالاحداث والتطورات السياسية الهامة والمؤثرة على القضية الفلسطينية، منها الانتخابات الاسرائيلية، والانتخابات الامريكية، وانعقاد الجولة الخامسة من المفاوضات الثنائية، واقتراب موعد الجولة الثانية من المفاوضات المتعددة الاطراف ومنها ايضا الاقتراب من بعض التواريخ الهامة التي تحددت في كتب التطمينات ورسائل الدعوة لمؤتمر السلام، من نوع نقل السلطة قبل 30 اكتوبر القادم، والوصول الى اتفاق فلسطيني-اسرائيلي حول مرحلة حكم الذات الانتقالية، واجراء انتخابات لسلطة الحكم الانتقالي قبل انقضاء عام على تاريخ انعقاد مؤتمر مدريد. ومنها كذلك التطورات المحتملة على الساحة الليبية واللبنانية والساحات العربية الاخرى وتأثير ذلك على مسيرة السلام ومحورها حل القضية الفلسطينية. أما خصوصية هذه الدورة فتكمن في كونها تنعقد لمناقشة أيضا اوضاع الانتفاضة وقضايا الوحدة الوطنية، بعد مرور ما يقارب ال 6 شهور على بدء مؤتمر السلام الذي تسبب في بروز خلافات سياسية حادة في مواقف القوى الوطنية الفلسطينية وبالتالي تصدعات حقيقية في الوحدة الوطنية، وبعدما راكم الشعب الفلسطيني وقيادته غلة كبيرة وحصيلة خمس جولات من المفاوضات كافية لاصدار أحكام موضوعية، مبنية على أشياء ملموسة، بشأن صحة القرار الذي اتخذه المجلس المركزي في دورته الاخيرة وبموجبه تمت المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد وفي كل ما تلاه من مفاوضات ونشاطات سياسية وديبلوماسية.
وفي ظل غياب وحدة القراءة والتحليل للتطورات والاحداث السياسية السابقة، ونظرا لطبيعة الاحداث والتطورات النوعية اللاحقة، فاننا نعتقد أن نجاح دورة أعمال المجلس المركزي مسؤولية وطنية جماعية، تتطلب الانطلاق في المناقشات من وضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل الاعتبارات الاخرى وأن التباين واختلاف الآراء أمر طبيعي، فلا يستطيع احد الادعاء بأنه يملك الحقيقة الكاملة أو أنها كلها موجودة فقط في وجهة نظره. وفي هذا السياق لعل تحرير أعضاء المجلس المركزي من القيود والمواقف السياسية والتنظيمية المسبقة يساعد في جعل النقاش أكثر موضوعية، ويوفر الارضية الملائمة لنجاح اعمال دورة المجلس المركزي وخروجها بقرارات تعكس القناعات الحقيقية للاعضاء. ولا شك أن مفهوم وضع المصلحة الوطنية الفلسطينية فوق كل الاعتبارات الاخرى، يتضمن التوفيق بين الحق في المحافظة على القناعات الخاصة والدعاية لها، وبين واجب تعزيز المكانة السياسية والتمثيلية لمنظمة التحرير. ويفرض أيضا محاكمة التطورات السياسية المتوقعة وغير والمتوقعة، من منظور وطني فلسطيني، وتحديد المواقف منها وفقا للمصالح السياسية والنضالية الفلسطينية وخاصة مصلحة الانتفاضة والمنظمة، وبمعزل عن العواطف او القناعات الفكرية النظرية المجردة والمسبقة.
وعند بحث المجلس المركزي توجهات العمل للفترة المقبلة (6 شهور) ربما يكون ضروريا تثبيت:
أ) أن التباين السياسي والخلاف حول الموقف من العملية التفاوضية الجارية، لا يلغي العمل المشترك. وأن وجود أغلبية معينة لا ينهي ولا يعطل الدور النضالي للاقلية في مواجهة الاحتلال. خاصة وأن الجميع يؤكد أن مؤتمر السلام ليس سوى ميدان من ميادين الصراع المتعددة والمتنوعة مع العدو. وأن النضال على هذا المحور يتقوى ويتعزز بمقدار ما ينال من دعم واسناد من الجبهات والميادين الأخرى وعكس ذلك صحيح أيضا.
ب) أن حماية الانتفاضة، وضمان تواصلها طيلة فترة المفاوضات وحتى طرد الاحتلال ونيل الاستقلال، لها الاولوية على سواها من المهام الاخرى. وهذا يتطلب تعزيز وتعميق الوحدة الوطنية الشاملة في أطرها التنظيمية وفي كل برامجها الكفاحية اليومية.
ج) ان الاحتكام لأسس الديمقراطية وتطويرها في العلاقات الفلسطينية الداخلية يفترض عدم التخندق خلف متاريس المواقف السياسية السابقة ولا شك أن كل موقف يتم فيه تغييب للوقائع، ولوي عنق الحقائق وتطويع الاحداث يتعارض مع الديمقراطية ولا يخدم المصلحة الوطنية بل يلحق أضرارا فادحة بالقضيتين معا.
د) ان الحادث المشؤوم الذي تعرضت له طائرة الاخ ابو عمار يفرض بالضرورة التعمق في دراسته وفي استخلاص دورسه وعبره، فالى جانب وضع الضوابط الضرورية لضمان عدم تكراره او وقوع ما يشابهه، فاننا نعتقد أن مصلحة الشعب الفلسطيني في ضمان تواصل نضاله على طريق الحرية والاستقلال السائر فيه منذ انطلاقته المعاصرة وحتى الان تتطلب اجراء دراسة تفصيلية ومدققة لبنية المؤسسة الفلسطينية وآلية عملها، وأن يتم ذلك بمسؤولية وطنية عالية وبروح ديمقراطية خالية من كل ما هو فئوي أو شخصي، ولعل تشكيل لجنة وطنية تتولى اجراء الدراسات اللازمة لهذا الموضوع الوطني وتقديم مقترحات ملموسة بشأنه يسهم في الوصول الى أرقى صيغة ممكنة، تشغل الجميع، وتطور العمل وتوفر الضمانات الكفيلة بتواصل النضال الوطني على سكته الفلسطينية التي عبدت بالدموع والدماء الغالية.
وفي هذا السياق فاننا نعتقد أن الأولوية في اعادة ترتيب وتنظيم بنيان المؤسسة الفلسطينية يجب أن تعطى للعمل نحو بناء المؤسسات القيادية المكملة (تشريعية وتنفيذية وقضائية واعلامية) داخل الوطن المحتل، ووضع صيغة تنظيمية ملزمة تضمن مشاركة الداخل في الاطر القيادية الفلسطينية المخولة بصناعة القرار. وفي هذا الاطار تبرز القيمة الوطنية والعملية لجعل قضية انتخابات سلطة الحكم الانتقالي محور عمل وطني ونضال الوفد الفلسطيني في المفاوضات، ومحور نشاط القيادة الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي ومحورا رئيسيا من محاور عمل الانتفاضة.
والى جانب ذلك كله وبالاستناد له فاننا نعتقد أن المجلس المركزي مطالب بمعالجة قضايا الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومسألة العلاقات الفلسطينية العربية ومتطلبات وسبل مراكمة مزيدا من المكاسب الفلسطينية على جبهة المفاوضات داخل وخارج غرفها المغلقة. وعلى قاعدة موضوعية المراجعة لمسار العمل على هذه الجبهات الرئيسية. والخروج بتوجهات عمل واضحة وملزمة لجميع المنضوين والملتزمين في اطار م.ت.ف ووفق قواعد الديمقراطية الفلسطينية.
وفي هذا السياق علنا لا نستبق الأمور اذا قلنا أن العوامل والظروف والأسس التي بنى عليها كل من المجلس الوطني والمجلس المركزي قراراته بصدد المشاركة في عملية السلام لا زالت قائمة. وجاءت التجربة ووقائع الصراع داخل وخارج غرف المفاوضات لتؤكد من وجهة نظرنا سلامة وصحة القرار بالمشاركة. وتبين النتائج الأولية للجولات السابقة من المفاوضات ان القيادة الاسرائيلية هي التي لا تريد السلام، وهي التي تسعى الان جاهدة لتعطيل تقدم المفاوضات بعدما تحولت الى محكمة علنية لجرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. ومن هذا المنطلق فاننا نعتقد أن توجهات العمل الفلسطيني في الشهور الستة الحرجة القادمة يفترض أن تتضمن:
1) مواصلة التعاطي الايجابي مع المساعي الدولية الرامية الى ايجاد حل للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الاسرائيلي بما يعني مواصلة المشاركة في مؤتمر السلام بشقيه الثنائي والمتعدد الاطراف. والنضال من داخله لتحسين شروط وأسس المشاركة الفلسطينية وتطوير قواعد العمل التي قام عليها المؤتمر، وتعطيل تمرير كل ما هو ضار بالقضية الفلسطينية، مع التأكيد على تمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه الوطنية الثابتة، حق العودة وحقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة وفقا لقرارات الشرعية الدولية وتأكيد أن سلطة الحكم الفلسطيني الانتقالي يجب أن تقوم على أسس ديمقراطية وقبل 30 اكتوبر القادم وبناء على انتخابات حرة ومباشرة يشارك فيها كل ابناء الشعب الفلسطيني المقيمين على الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 67 (القدس والضفة والقطاع) وكل الذين أبعدوا وارغموا على النزوح من بيوتهم منذ ذلك التاريخ وحتى الان. وان تشمل سلطات الحكم الانتقالي الارض والثروة الطبيعية والمياه والاجواء..الخ. واعتبار الوفد الفلسطيني المفاوض في الثنائي والمتعدد هو وفد الشعب الفلسطيني يفاوض باسمه ويدافع عن قضاياه، واذا كان من واجب الوفد الفلسطيني الالتزام بما تقرره قيادة م.ت.ف (وهذا ما عمل بموجبه) فان من حقه على جميع الوطنيين الفلسطينيين، قيادة ومعارضة، توفير كل مقومات الدعم والحماية له واسناده في نضاله في مواجهة العدو.
2) تأكيد التزام الجميع بالعمل على تعميق الوحدة الوطنية في اطار م.ت.ف. وخاصة وحدة الشعب في اطار الانتفاضة، ووحدة الداخل مع الخارج على اساس التساند والتكامل والعمل على تعبئة وتنظيم طاقات الجاليات الفلسطينية في بلدان المهاجر والشتات، وتوظيفها في دعم واسناد الانتفاضة وتعزيز المكانة السياسية والتمثيلية لمنظمة التحرير. ووضع كل الاسس والضوابط الملزمة لازالة الشوائب التي لحقت بالانتفاضة وتخليصها من كل العقبات والعراقيل التي تعيق الفعل الجماهيري الواسع في أطرها. وكذلك ردم كل الثغرات التي برزت في وحدة عمل فصائل م.ت.ف داخل الوطن وخارجه وخاصة داخل الانتفاضة.
3) مواصلة العمل لاستعادة ما أمكن من التضامن العربي في مواجهة التحديات التي فرضتها المتغيرات الدولية وبذلك كل جهد ممكن لتعزيز وتطوير مستوى التنسيق بين الاطراف العربية المشاركة في مؤتمر السلام بشقيه الثنائي والمتعدد الاطراف. والحرص على التوصل الى صيغة تفاهم واتفاق يربط أي تقدم في المفاوات المتعددة الاطراف والمواضيع بتحقيق تقدم جدي في المفاوضات الثنائية.
4) الحرص على تعزيز العمل الفلسطيني-الاردني المشترك في الساحة العربية والدولية وفي اطار الوفد المشترك لمؤتمر السلام بشقيه الثنائي والمتعدد الاطراف وعلى قاعدة ما ورد في نصوص الاتفاق الاردني الفلسطيني المشترك. والشروع في اجراء الدراسات اللازمة لمشروع الاتحاد الكونفدرالي الاردني الفلسطيني.
وفي ضوء ذلك كله فاننا نعتقد أن العقل والفكر السياسي والفلسطيني مقبل على امتحان رئيسي تختبر فيه قدراته وخبراته الكبيرة التي راكمها. وقرارات المجلس المركزي سوف تبين لشعبنا وللعام أجمع مستوى تقدم وتعمق الواقعية السياسية في الفكر الفلسطينين ومدى رسوخ وتجذر الديمقراطية في العلاقات الداخلية. فهل ستكون نتائج أعمال المجلس في مستوى طموحات وتطلعات شعب فلسطين ؟؟