مؤتمر متعدد الأطراف ميدان لعرض القضية واحياء الحقوق الفلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 16/05/1992
التدقيق في نص قرار المجلس المركزي في دورته الأخيرة يظهر أن الاعلان عن الموافقة على المشاركة في المؤتمر المتعدد الأطراف والمواضيع جاء بلغة صريحة ومباشرة، واختفت صيغ (اللعم) التي اشتهرت بها البيانات الفلسطينية، خاصة عندما تكون القضايا المطروحة كبيرة وجوهرية. والواضح ان اندفاع تيار الواقعية السياسية نحو القرار الواضح والمباشر، بالرغم من معرفته بكل النواقص والثغرات الخطيرة في أسس وأهداف المتعدد، وفي قواعد المشاركة الفلسطينية فيه، يعكس الثقة بصحة الموقف الذي تبناه قبل عام من الآن. وثقة الواقعيون بسلامة خطهم وموقفهم تراكمت تدريجيا عبر تواصل دعم واسناد الشعب الفلسطيني له، ومن الدروس المستفادة والخبرة الثمينة التي اكتسبت من تجربة جولات المفاوضات الثنائية، والجولة الاولى للمتعدد الاطراف التي عقدت في موسكو، وأيضا من النتائج السياسية والديبلوماسية والدعاوية التي تحققت في الساحات العربية والدولية ودون أن تضطر الى تقديم تنازلات جوهرية تلحق أذى بالقضية الوطنية بأي شكل من أشكال النضال الأخرى.
ان منطلقات ودواقع الواقعيون الفلسطينيون بشأن المشاركة في المتعدد الأطراف، لا تختلف عن تلك التي بنوا عليها مشاركتهم في المفاوضات الثنائية. فهم ينظروا الى طاولة المفاوضات باعتبارها ساحة من ساحات النضال، وليست بديلة عن اي شكل من اشكال النضال الاخرى، بل مكملة لها، وتتم بعضها بعضا. ويروا في المفاوضات المتعددة الاطراف ميدانا دوليا واسعا لعرض خلفيات وأبعاد قضيتهم وبعث الحقوق التاريخية لشعبهم وخاصة “حقه في دولة عربية الى جانب دولة اسرائيل” وحق اللاجئين في العودة الى وطنهم وممتلكاتهم، واحياء كل قرارات الشرعية الدولية التي نصت على هذه الحقوق وخاصة القرارات 181 و 194 و273. ووضع الرأي العام العالمي المنادي بالسلام وممثلي ما يقارب الاربعين دولة عربية ومن دول العالم الاخرى اما مسؤولياتهم تجاه قرارات الشرعية الدولية هذه، واتجاه حقوق الانسان الفلسطيني، وتعريفهم بحجم الذنب والتقصير الذي ارتكبوه بحق الشعب الفلسطيني بسكوتهم على تمادي اسرائيل وتحديها لهم ولارادة المجتمع الدولي على مدى ما يقارب ال 45 عاما. هذا ما فعلته مجموعات العمل الفلسطينية في اللجان التي عقدت اجتماعاتها حتى الان (التنمية الاقتصادية+اللاجئين+ المياه) وهو ما ستقوم به بقية المجموعات خلال الايام والاسابيع القليلة القادمة عندما تعقد لجان البيئة و التوجيه Steering committee اجتماعاتها في طوكيو ولشبونة.
أكدت وقائع الاتصالات والمفاوضات في الثنائي والمتعدد الاطراف خطأ الاعتقاد بأن العالم على دراية تامة بكل ابعاد وخلفيات وتاريخ القضية الفلسطينية، أو على علم بما يرتكب من جرائم يومية بحق الشعب الفلسطيني على يد قوات الاحتلال. وبينت الاجتماعات التي عقدتها لجان المتعدد حتى الان حاجة العالم بما في ذلك المشاركون للمعلومات الشاملة والارقام الدقيقة حول القضايا المطروحة للبحث. لقد ذهبت مجموعات العمل الفلسطينية ومعها الملفات اللازمة لفضح الجرائم التي ارتكبت بحق اللاجئين الفلسطينيين على مدى 45 عاما، من طرد وتشريد وحرمان من الهوية ومصادرة للاراضي والممتلكات، وعذابات العيش في المخيمات.. والكشف عن حجم سرقات اسرائيل للمياه والثروات الطبيعية الفلسطينية، وحجم تخريبها لبيئة الاراضي الفلسطينية المحتلة، واظهار قساوة وصعوبة الاوضاع والظروف الاقتصادية التي يعيشها اللاجئون ؟؟؟؟؟ الصادمون فوق أرضهم من جراء التهجير والتدمير المبرمج للاقتصاد الفلسطيني على يد سلطات وجيش الاحتلال.
لا شك أن المشاركة في أعمال لجان المتعدد الأطراف تحمل في طياتها مخاطر تسهيل تطبيع بعض جوانب العلاقات العربية الاسرائيلية قبل تحقيق تقدم جوهري في المفاوضات الثنائية، ولكن الصحيح أيضا أن المقاطعة او المبالغة في مثل هذه التخوفات قد تلحق اضرارا كبيرة بالقضية الفلسطينية. وتضيع بعض الفرص الثمينة لمحاكمة اسرائيل على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني. وقد تفقدها دعم واسناد بعض الاشقاء والاصدقاء. فالمبالغة في الحديث عن مخاطر التطبيع المبكر فيه الكثير من استسهال الأمور كما اعتقد ويتضمن مفهوما تبسيطيا للصراع العربي الاسرائيلي ولمواقف الدول من القضية الفلسطينية ومن الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية عامة والقدس خاصة. كما يتضمن شيئا من بقايا عدم الثقة بالذات ويستند الى نظرة جزئية لعملية السلام مستمدة من مرحلة ما قبل سقوط سور برلين وانتهاء الحرب الباردة.
ورغم ان الاعمال الجدية للمتعدد لم تبدأ بعد، والمشاركة الفلسطينية لم تتجاوز الجولة الواحدة، فالواضح ان المشاركة قد حققت بعض النتائج الايجابية الهامة رغم كونها لا زالت نظرية وغير ملموسة. أولى هذه الانجازات ما تحقق في مجال الدعاية والاعلام وتعريف العالم بالمزيد من الحقائق التاريخية والوقائع الراهنة للقضية الفلسطينية، وازالة بعضا من تشويهات الحركة الصهيونية لها.
وثانيا تجديد التزام الادارة الامريكية وبريطانيا وفرنسا بالقرار 194 رغم الاستدراك الامريكي حول زمان ومكان بحث هذا القرار، الا أن هذا الاستدراك وما قد يليه من استدراكات أخرى لا يقلل من قيمة تجديد الاعتراف الدولي بالقرار وما سيترتب عليه في مجرى عملية المفاوضات الثنائية الفلسطينية الاسرائيلية حول المرحلة الانتقالية او الحل النهائي او القضايا الاقليمية التي ستبحث في الجولات اللاحقة من المفاوضات متعددة الاطراف والمواضع. ان نفض الغبار من قبل راعيي المؤتمر عن هذا القرار (كما قال رئيس فريق مجموعة العمل الفلسطينية في لجنة اللاجئين) قد أعطى للمفاوض الفلسطيني ورقة تفاوضية هامة تساعده في تقوية مواقفه التفاوضية في مواجهة المفاوض الاسرائيلي في كل مراحل ومجالات المفاوضات.
وثالث هذه الانجازات هو وضع اسرائيل في مواجهة العالم، وظهور حقيقة مواقفها المعادية للسلام الشامل العادل والدائم، واضطرارها على مقاطعة اعمال لجنتين من لجان المؤتمر. ويستطيع كل مراقب لعلاقات اسرائيل بدول العالم أن يتلمس ببساطة تزايد عزلتها الدولية، وبدء تعرضها لضغوط سياسية واقتصادية (ضمانات القروض) حتى من أقرب وأعز حلفائها السابقين.
ان موقف اسرائيل من القرار 194 يتصادم مع الموقف الامريكي والاوروبي ويتعارض معه بصورة جذرية وهذا يتيح للطرف الفلسطيني والعربي زج اسرائيل في اشتباك ثاني مباشر مع الامريكيين والاوروبيين ومع الشرعية الدولية بعد اشتباكها معهم حول الاستيطان وضمانات القروض.
ورابع هذه النتائج يتمثل في تعزيز المكانة السياسية والتمثيلية لمنظمة التحرير وتحسين صورتها وعلاقاتها مع العديد من دول العالم، في الوقت الذي كانت معرضة فيه للشطب والتدمير بعد حرب الخليج.
ان الحوارات التمهيدية التي اجرتها الدول المشاركة في المتعدد مع م.ت.ف مباشرة، ومشاركة الخارج في لجنتين اساسيتين، وتواجد عضو ل.ت في اوتاوا خلال جلسات لجنة اللاجئين، تؤكد صحة الرؤيا التي تقول من خلال المشاركة يمكن ليس فقط ابعاد المخاطر بل وايضا تحسين اسس وشروط العملية.
واذا كان صحيحا التقدير بأن هدف المفاوضات الثنائية هو الوصول الى ترتيبات سلام ثنائية فلسطينية-اسرائيلية، واسرائيلية-اردنية، وسورية ولبنانية، وان هدف المتعدد الاطراف هو الوصول الى ترتيبات اقليمية اوسع، فالصحيح ايضا ان لا يغيب الشعب الفلسطيني عن مثل هذه الترتيبات وان لا يسمح باتمامها في غيابه وعلى حساب حقوقه ووجوده.
ان المشاركة الفلسطينية في عملية السلام بشقيها الثنائي والمتعدد الاطراف ساهمت ولا شك مساهمة فعالة في خلق ظروف نضالية تساعد بصورة افضل في التقدم ومتابعة النضال من اجل تحقيق الاهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وبناء دولته المستقلة. والواضح ان تواصل التعامل الايجابي مع مجمل عملية السلام، وحسن ادارة الصراع داخل وخارج غرف المفاوضات ضرورات لا غنى عنها لقطف ثمار هذه الظروف.
واذا كان الحذر وعدم التسرع والاستعجال وتجنب التبسيط، امورا ضرورية لتديد كل الاوهام الضارة التي قد تبنى حول سرعة قطار التسوية وحول المسافة الوعرة التي عليه ان يقطعها، فان عدم رؤية المتغيرات الدولية المتسارعة، وعدم رؤية الانجازات التي تحققت من المشاركة الفلسطينية في مؤتمر السلام تندرج تحت بند (عنزة ولو طارت).