قراءة للمؤتمرات الشعبية في قطاع غزة =انعقاد المؤتمرات انتصار لشعب الانتفاضة
بقلم ممدوح نوفل في 03/06/1992
1)
قبل ان ينهي المجلس المركزي الفلسطيني اعمال دورته الاخيرة، شهد قطاع غزة المحتل سلسلة من المؤتمرات الشعبية الحاشدة. الأول منها عقد في مخيم جباليا يوم 9 ايار الماضي، تلاه مؤتمر في حي الشجاعية بمدينة غزة 16 /5، ولحقته مؤتمرات اخرى في مواقع اخرى. حضر كل منها بضعة آلاف من المواطنين وحشد كبير من الشخصيات الوطنية والنقابية والمهنية وممثلي المؤسسات الوطنية ورجال الفكر والجهاء والقضاة العشائريين والمخاتير. وتكلم فيها عدد كبير من الشخصيات الوطنية منها د. حيد عبد الشافي والشيخ ابراهيم ابو سالم، والمربي طلعت الصفدي، والنقابي عايش عبيد والمحامي غازي ابو وردة، والمهندس تيسير محيسن، والمختار عياد البطيخي والنقابي وليد زقوت، وطه ابوالعطا وآخرين، أجمعوا في كلماتهم على “تصحيح المسار ومراقبة السلوك حتى تستعيد الانتفاضة ديمقراطيتها وزخمها الجماهيري من اجل انتزاع حقوق شعبنا” وقيل ايضا في تلك المهرجانات “هذه المهرجانات ليست للدعاية الانتخابية او الفئوية، وهي ليست موجهة ضد اي فصيل او حركة. هدفها استنكار التعديات والتجاوزات التي ترتكب بحق المواطنين والتي يصرخ منها البعض ويهمس بها آخرون. ويجب ان نرفض دون خوف حالة الفوضى والتسيب والارتباك، وان نعدل ونصوب المسيرة نحو الافضل، وحرمان الاحتلال من تشويه الانتفاضة واضعافها.
لا شك ان هذه الكلمات الصادرة عن أبرز الشخصيات الوطنية في القطاع، تعبر عن واقع الحال الذي يعيشه الان ابناء القطاع في ظل الانتفاضة، وتثير بالتأكيد العديد من الاسئلة الهامة، في ذهن كل فلسطيني وخاصة من يعيش منهم خارج وطنه، ومن ليس على تماس مباشر مع الانتفاضة، والذين يعلقون آمالا كبيرة على مساهمة الانتفاضة وفعلها المؤثر في دفع الاحتلال الى الزوال. ولعل أبرز هذه الاسئلة وأخطرها وأكثرها حساسية هي: أين القيادة الوطنية الموحدة من هذه السلبيات؟ التي تحدث عنها اولئك الخطباء المعروفون بنزاهتهم وتفانيهم في خدمة الوطن. والمشهورون بموضوعيتهم وعدم المبالغة في تصوير الامور وطرحها. ولماذا بلغت الامور هذا الحد؟ حتى استوجب ان يقف ابناء م.ت.ف ليطرحوا هذه الامور الداخلية والانتقادات الذاتية حول المسلكيات الخاطئة بصورة علنية وفي مؤتمرات شعبية؟. وهل ما طرح في هذه المؤتمرات يشير الى اقتراب توقف الانتفاضة وانتهائها؟.
في سياق الاجابة على هذه الاسئلة الوطنية الكبيرة والمقلقة، وضمن محاولة اجراء قراءة مدققة لمدلاوت وأبعاد انعقاد هذه المؤتمرات وما طرح فيها، لا بد من الاشارة الى ان بحث ونقد الظواهر والمسلكيات السلبية في الانتفاضة بصورة علنية لا يتم لأول مرة. فقد سبق وان تم بأكثر من صيغة ومنذ ما يقرب من العامين. حيث حاول أهل الانتفاضة تقييم وتصحيح المسار وكرروا المحاولة تلو المحاولة. والكل يتذكر الندوات الموسعة التي عقدت الصيف الماضي وقبل بدء عملية السلام في مسرح الحكواتي بالقدس، وفي العديد من المراكز الفلسطينية الاخرى، وليست قليلة تلك المقالات التي كتبت حول الموضوع في صحافة الوطن المحتل. ومن يراجع البيانات العشرين الاخيرة الصادرة عن القيادة الوطنية الموحدة يجد فيها الكثير من الاشارات، والنقد الصريح المقرون بقرارات وتوجهات تتعلق بالعديد من المسلكيات الخاطئة ومن الظواهر السلبية الخطيرة. ولهذا يمكن القول ان مؤتمرات غزة هي امتداد طبيعي لكل اشكال النقد المفتوح الذي سبقها. ولا تتعارض معها بل تتلاقى وتتوحد معا في كل الاطروحات.
لكن الواضح ان هذا الامتداد يختلف نوعيا عن كل ما سبقه. ويبشرنا بالخير بالرغم من كون موضوع البحث والنقاش هو للظواهر السلبية والمسلكيات الخاطئة في الانتفاضة. فهذه المرة الاولى التي يتم فيها اشراك الجماهير وبشكل مفتوح في المناقشة وفي اشتقاق الحلول، واتخاذ القرارات المعالجة، وتشكيل الاداة المتابعة والمراقبة بصورة ديمقراطية مباشرة. وهذا كله يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلولات الهامة ايضا. بعضها يتعلق بمستقبل الانتفاضة، والبعض الاخر يمس مستقبل القيادة الوطنية الموحدة، ومستقبل علاقاتها مع شعب الانتفاضة ومع الفعاليات الوطنية غير المنتمية للفصائل والتنظيمات. ولربما كانت القراءة المتأنية، والتمعن الكامل في توصيات وقرارات واحدا من هذه المؤتمرات يساعد في الوصول الى استخلاص الدروس والعبر المستفادة.
في حي الشجاعية بمدينة غزة، وأمام العديد من مراسلي شبكات ومحطات الاذاعة والصحف والمجلات وبحضور قرابة خمسة آلاف مواطن، اختتم الاستاذ طلعت الصفدي المهرجان بتلاوة التوصيات وسط تصفيق حاد استمر عدة دقائق (حسب ما نقلته الوكالات) والتي نصت على:
1) التوقف كليا عن التحريض الذي يمارسه هذا الفصيل ضد ذاك.
2) وقف حرب الشعارات والبيانات على الجدران وسواها.
3) انتهاج اسلوب الحوار الديمقراطي لحل الاشكالات بين الجماهير وفصائلها، ووقف اي قتال داخلي.
4) وقف الاعتداءات على الممتلكات والورش والمصانع والمحال التجارية وحرق السيارات.
5) تشكيل لجنة اصلاح من حقوقيين ومشرعين ورجال عرف وعادة ومصلحين اجتماعيين معترف بها
وقراراتها ملزمة للجميع وبديلا للمحاكم المعطلة.
6) الاستمرار في الانتفاضة حتى زوال الاحتلال.
وتوصيات حي الشجاعية هذه لا تختلف في شيء عن مضمون التوصيات التي خرجت عن مؤتمر مخيم جباليا وغيره من المؤتمرات التي عقدت حتى الان. ولعل التدقيق فيها يمكن التوصل الى الاستخلاصات التالية:
أولا – الانتفاضة مستمرة حتى تحقيق الاهداف.
رغم كل الظروف والاوضاع الاقتصادية والامنية والاجتماعية والنفسية القاسية التي عاشها شعب الانتفاضة على مدى 54 شهرا من المقاومة المتواصلة والمباشرة مع الاحتلال، ورغم كل التضحيات والخسائر الجسيمة التي قدمها، فان هذا النمط من التحركات الشعبية الواسعة تحت شعار الاستمرار في الانتفاضة حتى زوال الاحتلال تبين ان شعب الانتفاضة لا زال يملك طاقات نضالية كبيرة، وأنه مستعد لتقديم المزيد من التضحيات والمزيد من العطاء من اجل بلوغ الاهداف الوطنية التي من اجلها فجر الانتفاضة.
كما يتبين ايضا استعداد هذا الشعب وحرصه على زج كل الطاقات والامكانات الوطنية في هذه المعركة وعدم تبديد أي جزء منها مهما كان صغيرا واستعداده للنزول الى الشارع بزخم كبير وضمن تحركات جماعية واسعة من اجل ضمان ذلك، ولحماية مصالحه عندما تكون مهددة وعندما تكون القضايا المطروحة قضايا اساسية تمس حياته اليومية ومشكلاته المباشرة. وتركيز المؤتمرات الشعبية على مكافحة الظواهر السلبية والمسلكيات الخاطئة تعبير عن القوة والثقة بالذات، وعن وعي جماعي متقدم لمخاطر هذه الظواهر والمسلكيات على حركة الانتفاضة ضد الاحتلال. وهي في الوقت ذاته تتضمن ارادة ذاتية وتصميم كبير على تجاوزها كخطوة باتت ضرورية لحماية الانتفاضة وضمان تواصلها وتطورها حتى تحقق أهدافها في نيل الحرية وزوال الاحتلال.
واحتشاد بضعة الاف من المواطنين في كل مهرجان على مرأى ومسمع من جيش الاحتلال تحت شعار تصحيح المسار من اجل استمرار الانتفاضة، ليس سوى مؤشر على قطع الطريق امام مساعي وجهود الاحتلال في زرع الفتنة الداخلية، واستغلال السلبيات وبث اليأس والاحباط في نفوس المنتفضين. وهو في الوقت ذاته تأكيد على حرص الانتفاضة على توفير المقومات الضرورية لاستمرارها في المواجهة على الجبهة الاساسية، جبهة مقاومة الاحتلال. وانعقاد المؤتمرات في هذا الوقت بالذات دليل عملي وملموس على قدرة الانتفاضة على تجديد ذاتها باستمرار، وعلى توفر الاجماع الشعبي على التواصل في النضال. ولا شك ان تشديد الدكتور في كلماته على ان الانتفاضة مستمرة طالما هناك احتلال لا ينطلق من فراغ ولا يدخل في باب التنميات فقط.
ثانيا – للعوامل الموضوعية دورا في وجود السلبيات
لعل من الظلم وعدم انصاف الحقائق، تجاهل وانكار الدور المباشر لبعض العوامل الموضوعية في تراجع زخم فعاليات الانتفاضة وجماهيرتها في مواجهة الاحتلال. وايضا في تأجيج بعض السلبيات الذاتية، وايجاد الارضية والمناخ المساعد على اتساع انتشارها. فمن غير الموضوعي تجاهل آثار حرب التجويع والحصار على الطاقات الصدامية للانتفاضة، وفي بروز التعديات على الممتلكات، وظهور بعض المشاكل مع اصحاب ورش العمل والمصانع والمحال التجارية. فلا يمكن انكار اثر حالة شبه المجاعة، مثلا والبطالة المتفاقمة التي تعيشها قطاعات واسعة من الشعب منذ شهور طويلة، والتي تفاقمت اكثر فاكثر منذ حرب الخليج وبعد تلاشي الدعم العربي للمنظمة والانتفضة، فمثل هذه الحالة تدفع بعض فئات الشعب نحو الغرق الذهني والزمني في البحث عن سبل تأمين لقمة العيش، ناهيك عن التوتر العصبي الذي تسببه. (الفقر كفر) . كما لا يجوز خداع النفس وتجاهل اثر المدة الزمنية الطويلة على درجة ونوعية فعل الناس ضد الاحتلال. ان 54 شهرا من النضال. المتواصل المتنوع والدامي يرهق الجسد، ويوتر الاعصاب ويزداد مفعوله السلبي اكثر فاكثر كلما تأخر تحقيق انجازات ملموسة لهذا النضال، وكلما غرق في الروتين وقل التجديد والابداع. وأظن ان كل تجاهل لاثر الاعمال والاجراءات الامنية والعسكرية الاسرائيلية على فعاليات الانتفاضة وعلى بروز بعض الظواهر السلبية يندرج في خانة المكابرة ودفن الرأس في الرمال. فاعتقال وجرح واستشهاد وتشويه عشرات الالوف من المناضلين والمناضلات افقد الانتفاضة قوة طليعية فعالة، وحرمها من خبرات وتجارب غنية راكمها هؤلاء الابطال. صحيح ان انتقالهم الى سجون الاحتلال لا يعني خروجهم من الانتفاضة، بل نقل فعلها من الشارع الى مواقع نضالية اخرى. لكن نوعية وحجم هذا الفعل الهام لا يصعب على العدو محاصرته وحصر نتائجه في حدود ضيقة. ولا يجوز التقليل من دور فرق الموت (الاسرائيلية)، وأجهزة الموساد في خلق بعض الفتن الداخلية، ونجاحها تحت مظلة السلبيات الذاتية وخاصة الصراعات الفئوية والقبلية والعشائرية في الصاق بعض اعمال القتل والتخريب والتعذيب التي ارتكبتها بابناء الانتفاضة وخاصة الفرق الضاربة والمسلحين والمطاردين منهم. وليس من المفيد ايضا القفز عن الاثر المعنوي والنتيجة السلبية التي يخلفها على الانتفاضة بقاء التضامن العربي -الرسمي والشعبي- والدولي عاجزا عن الفعل ومتفرجا على انتهاكات الاحتلال لحقوق الانسان الفلسطيني، وعلى كل صنوف اعماله الفاشية من تجويع وقتل واعتقال..الخ. صحيح ان الانتفاضة هي مشروع نضالي لطرد الاحتلال وانتزاع الاستقلال بالاعتماد على الذات. وان هذا المشروع نهض اصلا بسبب استمرار التقصير العربي والظلم الدولي للشعب الفلسطيني ولقضيته العادلة على مدى ما يقارب ال 45 عاما، لكن ذلك لا يعني ان تبقى الانتفاضة بدون هذا الدعم الى الابد او انها ليست في حاجة له على الاطلاق. لا شك ان المبادرين لعقد المؤتمرات الشعبية في قطاع غزة وكل المشاركين فيها يعرفون تماما، ويلمسون اكثر من سواهم الاثار والنتائج السلبية لهذه العوامل الموضوعية على حجم ونوعية فعاليات الانتفاضة ضد الاحتلال، لكنهم لم يتوقفوا طويلا امامها، ولم يجعلوا منها مبررا للذات في عدم النهوض بالمهمات، ولم يجعلوا منها مشجبا تعلق عليه الظواهر والمسلكيات الذاتية الخاطئة فهم بهذا الموقف الصحيح سموا الاشياء باسمائها. وميزوا بين الذي تفرضه الاقدار وبين الاعمال والمسلكيات الخاطئة للابناء من اهل الدار.
تونس –