المتغيرات الدولية والاقليمية والفكر السياسي الاسرائيلي
بقلم ممدوح نوفل في 10/07/1992
لعل من غير المفيد للجانب العربي عامة والفلسطيني خاصة، المرور مر الكرام على نتائج الانتخابات الاسرائيلية او تجاهل دورها المباشر واللاحق في تسريع حركة التطورات التي تشهدها منذ مدة منطقة الشرق الاوسط. وليس من حكمة استراتيجية ولا تكتيكية تبسيط وتصغير قيمة سقوط شامير وبعض القوى اليمينية ونتائج صعود حزب العمل على مسار عملية السلام التي انطلق قطارها من مدريد في اكتوبر الماضي.
فالقول ان رابين صقر متنكر في ريش حمامة، او ليكودي في لباس حزب العمل، أو ان الفروق بين الليكود والعمل بسيطة وشكلية وغير جوهرية في القضايا الاساسية يمكن فهمه اذا أدرج في خانة التفاوض عبر وسائل الاعلام أو في اطار الرد على بعض المواقف، الا أنه يصبح غير مستوعب ويلحق بعض الأضرار اذا كان يعكس احد أمرين : الهروب من مواجهة استحقاقات المرحلة الجددية التي ستدخلها المفاوضات مع بدء زيارة رابين لواشنطن في بداية آب المقبل. أو نتيجة لقراءة خاطئة لاثر ومفعول المتغيرات والتطورات الدولية والاقليمية على المجتمع الاسرائيلي، وعلى مرتكزات فكره السياسي. فاذا كان من الضروري، وهام جدا عدم المبالغة في قراءة النتائج الايجابية للانتخابات الاسرائيلية على مستقبل اوضاع المنطقة، فمن الخطأ أيضا ان يحصر المفكرون والسياسيون العرب والفلسطينيون نظرهم في زاوية ضيقة لا تتعدى مساحتها حدود الفوارق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت خلال الحملة الانتخابية في برامج الحزبين الكبيرين. فمثل هذه النظرة تقود للتعاطي مع الموضوع ونتائجه من زاويته المحلية الاسرائيلي. ولا تظهر الترابط الوطيد بين سقوط الليكود في الانتخابات، وعناد شامير ومقاومته “الباسلة” لرياح التغيير التي هبت على المنطقة بعد سقوط سور برلين وانتهاء الحرب الباردة وتعطيله لاي تقدم في مسار عملية السلام. وعناده أيضا في مسألة الاستيطان والتصادم مع الادارة الامريكية وخسارة ضمانات القروض ولا تبين دور تواصل الانتفاضة ما يقارب الخمس سنوات، وفعل الخطاب السياسي الفلطسيني الواقعي، والموقف البراجماتي المرن الذي انتهجته م.ت.ف وبعض العرب على خيارات الناخب الاسرائيلي.
وخطورة محاكمة الانتخابات الاسرائيلية من زاويتها المحلية الضيقة لا تكمن فقط في تقييم الماضي القريب والذي سيتحول مع الايام الى تاريخ. وانما على ما ستشتقه وما ستفعله القيادات السياسية الفلسطينية والعربية خلال الاسابيع والاشهر القليلة القادمة. فالعمل بهدى هذه النظرة الاحادية والجزئية يقود الى حسابات خاطئة لا تساعد في رسم المواقف السياسية الصحيحة وخاصة في مجال مفاوضات السلام. لأنها تصور رابين وحزب العمل كأنه حر طليق في سياسته وتسقط من الحساب قدرة الادارة الامريكية على التأثير راهنا في السياسة الاسرائيلية خاصة في ظل العلاقة الحميمة القائمة بين رابين وحزب العمل مع الادارة الامريكية، ولا تلحظ مصالح اسرائيل الاستراتيجية والمباشرة التي تفرض عليها التجاوب والانسجام مع متطلبات السياسة الامريكية في المنطقة.
وبعيدا عن نظرات التفاؤل او التشاؤم ولأن المسألة ليست أمنيات، فلعل ما يجب البحث والتمعن فيه هو مدلولات التغيير الذي حصل على صعيد منطلقات الفكر السياسي الاسرائيلي، ومستقبل هذه المنطلقات في ظل الوضع الجديد في اسرائيل وما سينشأ من تطورات في المنطقة. وفي هذا السياق لعل من الضروري رؤية المدلولات التالية:
أولا- ان التغيير الذي طرأ في المجتمع الاسرائيلي هو تعبير عن بداية تكيف وانسجام أغلبية المجتمع الاسرائيلي مع الوضع الدولي الجديد. وبداية ميل نحو الواقعية في التعاطي مع قضايا الصراع في المنطقة. وبداية وعي وادراك ان رياح التغيير اقوى من اوتاد العقيدة الجامدة، وان الاستمرار في التمترس خلق المعتقدات الايديولوجية وخاصة الغيبية منها، قد يريح الضمير، ويشبع رغباته الروحانية، لكنه يحرم الجسم من حاجاته اليومية التي لا غنى عنها. لقد رفض الليكود استيعاب حقائق الوضع الدولي الجديد، ورفض التجاوب مع رغبات ومصالح القيمين على اعادة ترتيب اوضاع المنطقة في اطاره ووفقا لمصالحهم الخاصة. فدفعت اسرائيل ثمن ذلك، بفرض العزلة عليها، وعوقبت اقتصاديا بسبب تمردها.
ولا مجازفة في القول ان الاستعداد العالي الذي يبديه رابين للتكيف والانسجام مع الوضع الدولي الجديد، واستعداده للتعامل بواقعية أكبر مع مقتضياته على صعيد المنطقة، سوف يقود مهما طالت وتعقدت المفاوضات الى خلق حقائق جديدة في المنطقة، وهي بديناميكيتها وميكانزمها الذاتي سوف تسهم في تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي اكثر فاكثر، دافعة القناعات الايديولوجية والمعتقدات الغيبية المثالية الى الوراء. تاركة لمن يشاء الحق في الاحتفاظ بها في اعماق الضمير.
ثانيا – لم يتأخر شامير في تقديم اعترافه بأن “شعب اسرائيل تعب من النضال من اجل ارض اسرائيل التوراتية” ولم يتردد ارينز في الافصاح عن بعض قناعاته التي اخفاها سنين طويلة عن الاخرين حيث قال “لم أكن في أي يوم من الايام مقتنعا بفكرة ارض اسرائيل الكبرى”، ولم يتردد شارون في مقالة كتبها مؤخرا عن تحميل الديمقراطية الاسرائيلية المسؤولية لانها تعطي لعرب اسرائيل الحق في الانتخابات. ان التمعن في أقوال اركان الليكود الثلاثة يكشف بوضوع عن الاهتزاز الكبير الحاصل في احد المرتكزات الاساسية التي قام عليها الفكر السياسي الاسرائيلي منذ ما قبل قيام دولة اسرائيل وحتى الان. صحيح ان هذه الاعترافات جاءت متأخرة، وبسبب تأخرها دفعت شعوب المنطقة ثمن ذلك آلاف الضحايا، لكن الواضح أن هذه الاعترافات المجزوءة تساعد على ادانته ومحاكمته وهي ليست الا بداية “اعتراف الحرامي بمحتويات خرجه”. ان القاء شامير اللوم على شعب اسرائيل واتهامه بقصر النفس النضالي، وتردد أرينز عن اظهار قناعاته وتحميل المسؤولية لجمود شامير، وبحث شارون كعادته عن عدو خارجي محاولات يائسة للهروب من استكمال الاعتراف بأن العلة تكمن في تداعي مقولة ارض اسرائيل الكبرى احد الاعمدة الاساسية التي قام عليها الفكر السياسي للحركة الصهيونية، وفي رفض هذه الحركة العمل على تجديد هذا المرتكز العقائدي المشتق من فكرة تاريخية مثالية عمرها آلاف السنين.
ثالثا – بالتدقيق في مسار قطار مؤتمر السلام الذي انطلق من مدريد، وبتفحص مسار هويات ركابه بغض النظر عن مواقعهم في عرباته، يتبين بوضوح ان قطار السلام تحرك وسار متجاوزا مبدأ نفي الاغيار الذي مثل مرتكزا آخر من مرتكزات الفكر السياسي الاسرائيلي المستوحى من مباديء العقيدة الصهيونية. فقطار مؤتمر السلام يحمل في عرباته ممثلين عن الشعب الفلسطيني الذي طالما انكرت اسرائيل وجوده وعملت المستحيل على مدى نصف قرن تقريبا، من اجل تبديد ارضه، وطمس هويته وانهاء وجوده. ان قبول شامير بوجود مسار فلسطيني اسرائيلي في مفاوضات السلام وقبوله الجلوس وجها لوجه مع ممثلين عن الشعب الفلسطيني هو اقرار غير معلن بسقوط مبدأ نفي وجود الغير (الفلسطيني). ومما لا شك فيه أن شامير في قرارة نفسه يعرف أكثر من سواه معاني وأبعاد سقوط هذا المرتكز الثاني للفكر السياسي الاسرائيلي، ولذا نراه يكابر ويخدع شعبه ويرفض تقديمه في اعتراف ثاني.
لكن رفضه الادلاء بهذا الاعتراف لا يلغي أن الازمة التي يعيشها الليكود هذه الايام هي ازمة فكرية قبل ان تكون ازمة سياسية وتنظيمية. وان مجرد الاعتراف بوجودها وبطبيعتها، والاعلان عن ماهيتها سيؤدي الى تعميقها اكثر فأكثر ويحولها من أزمة محصورة في أعلى المستويات القيادية الى أزمة تطال حزب الليكود كله. وان الدخول الجدي في معالجتها سوف يحول تجمع الليكود الى حزب آخر.
ومن المنطقي ان تواصل عملية السلام وتقدمها واجتيازها محطتها الاولى على الجبهة الفلسطينية-الاسرائيلية يفتح آفاقا اوسع لجعل مبدأ ارض اسرائيل الكبرى، ومبدأ نفي وجود الاغيار (الفلسطينيين) كادوك. فقيام سلطة فلسطينية انتقالية يرسم وجود الاغيار (الفلسطينيين) كشعب وكيان. وعندها لن تكون هناك حاجة ملحة لادلاء شامير ومن يشاركه القناعة باعتراف علني وصريح بسقوط مبدأ نفي وجود الاغيار.
واذا كان صحيحا القول ان تواصل الانتفاضة، وتواصل الخط السياسي الواقعي في عمل القيادة الفلسطينية، وتواصل عملية السلام وقيام سلطة فلسطينية انتقالية، واستمرار تفاعلات انتهاء الحرب الباردة في المنحى الذي تسير فيه في مجال حل الصراع العربي الاسرائيلي، كلها عوامل مساعدة على خلق مزيدا من التحولات البطيئة نحو الواقعية السياسية في الفكر السياسي الاسرائيلي فان من الخطأ الفاحش ابقاء الفعل الفلسطيني والعربي مجمدا عند هذه الحدود، وانتظار ما سوف يحققه الزمن ببطء شديد.
لقد أكدت نتائج الانتخابات الاسارئيلية امكانية تسريع وقوع مثل هذه التحولات داخل المجتمع الاسرائيلي. ولعل الشروع فلسطينيا وعربيا بشن هجوم سلام منظم على المجتمع الاسارئيلي عامة والشرقيون منه خاصة يسهم في اضعاف القوى الصهيونية اليمينية المتطرفة، ويقوي مواقع القوى الاسرائيلية المؤمنة بالتعايش والسلام مع العرب والمؤمنة بأن الحل العادل والدائم والشامل يقوم على أساس دولتين لشعبين على ارض فلسطين المقدسة وحل قضية اللاجئين على أساس قرارات الشرعية الدولية.