تكتيك المفاوض الاسرائيلي في جولة روما-واشنطن
بقلم ممدوح نوفل في 20/07/1992
تجمع الساحة الفلسطينية وكل الأطراف العربية والدولية المشاركة في مؤتمر السلام، على أن نجاح حزب العمل في الانتخابات وضع المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية والعربية-الاسرائيلية على أبواب مرحلة جديدة تختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي مرت بها في عهد شامير وحكومته. ورغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على برنامج الحكومة الاسرائيلية الجديدة حسبما قدمه رابين للكنيست فالواضح أنه جاء ليثبت هذا الاستخلاص. فالكل يعرف أن المفاوضات في عهد شامير كانت هدفا بحد ذاته. وغاية اسرائيل من المشاركة فيها لم تكن تتجاوز تحقيق بعض المواقف التكتيكية والتي لا توصل الى حلول حقيقية. أبرزها تجنب الظهور امام الرأي العام العالمي بمظهر الرافض للسلام، وتجنب التصادم المباشر مع الادارة الامريكية. أما الان وفي ضوء المواقف المعروفة والمعلنة في برامج الاحزاب المؤتلفة في الحكومة الجديدة، وما تضمنه برنامج الحكومة ذاتها حول عملية السلام، يمكن القول أن الظروف باتت مهيأة لمفاوضات جدية شاقة ومعقدة تتناول القضايا الجوهرية التي كانت حكومة شامير تتهرب من بحثها امام الضغط المتواصل للمفاوض الفلسطيني عليها.
ولعل التمعن والتدقيق في تصريحات رابين عن استعداده الوصول الى اتفاق مع الوفد الفلسطيني حول المرحلة الانتقالية خلال فترة لا تتجاوز 9-12 شهرا، وفي قوله امام الكنيست “بأن على الفلسطينيين أن يدركوا سلفا بأنهم لن يحققوا كامل ما يطالبون به، وان اسرائيل قد لا تحقق هي الاخرى كامل ما تطالب به” وقرار الحكومة بتجاوز صيغة الجولات المتباعدة والدخول في مفاوضات متواصلة، يظهر بوضوح وبغض النظر عن النوايا والاهداف الحقيقية ان المفاوض الاسرائيلي سوف يتوجه الى الجولة الجديدة وبيده كل الملفات الضرورية للبحث في ما تضمنته رسائل الدعوة الى مؤتمر السلام. وهي تبين حدود واطار المفاوضات القادمة من وجهة النظر الاسرائيلية.
وليس مستبعدا من الان وحتى افتتاح الجولة القادمة، وخاصة قبل وخلال زيارة رابين القريبة لواشنطن أن يبادر رابين الى الاعلان عن بعض المواقف والخطوات العملية الايجابية (صغيرة وشكلية) اتجاه الاطراف المشاركة في المفاوضات، واتجاه مواضيع البحث بهدف اظهار بعضا من الجدية والمصداقية لاقواله ولتجميع اكبر قدر من اوراق القوة بيده قبل الدخول الى غرف المفاوضات.. ولعل تأجيله موعد الجولة الجديدة الى ما بعد زيارته لواشنطن واعلان بن يامين بن اليعازر (فؤاد) عن الغاء بعض مشاريع عقود البناء الاستيطاني والتي لم توقع أصلا تصب في هذا الاتجاه. وهو اتجاه يختلف نوعيا عن الذي كان يتبعه شامير حيث كان يتعمد الاعلان عن انشاء مستوطنة جديدة على أبواب كل لقاء امريكي اسرائيلي سواء أكان هذا اللقاء في القدس او تل أبيب أو واشنطن.
وبهذا يصبح من الطبيعي توقع حدوث بعض التطورات الهامة قبل وخلال المراحل الاولى من الجولة القادمة، وتوقع تسارعا جديدا في حركتها. ولعل رغبة الادارة الامريكية كراعية للمفاوضات في الوصول الى نتائج ملموسة قبل موعد الانتخابات الرئاسية القادمة يعزز الدفع في هذا الاتجاه وقد يعطي المفاوضات حركية جديدة. ان عرض بيكر لعقد الجولة الجديدة في واشنطن اذا لم تكن الحكومة الايطالية جاهزة لها يؤكد رغبة الادارة الامريكية في انعقاد الدورة في واشنطن وتصميمها على التوصل الى نتائج ملموسة قبل الانتخابات الاسرائيلية. وفي هذا السياق من البديهي القول أن الاطراف المشاركة في المفاوضات القادمة، سوف يتوجه كل منها الى هناك ولديه استراتيجيته وتكتيكه التفاوضي مقرونا بتصميم كبير على تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، وسيحاول توظيف المفاوضات في خدمة أهدافه المباشرة واستراتيجية بعيدة المدى. وفي هذا الاطار يمكن تصور أهداف وتكتيك المفاوض الاسرائيلي الجديد (العمالي) على النحو التالي:
1) تحسين صورة المفاوض الاسرائيلي:
يعرف المفاوض الفلسطيني انه متوجه الى الجولة الجديدة سواء عقدت في واشنطن او في روما للدخول في اشتباك متواصل يدوم شهور طويلة. وأنه سيجد أمامه مفاوضا يختلف عن المفاوض السابق. ملحاح في الحث على بحث القضايا الجوهرية. يكثر الحديث عن ضرورة تسريع المفاوضات بهدف الوصول الى اتفاق وتحقيق تقدم ملموس لانجاحها. يدعي الصراحة والوضوح ويبدي استعدادات واسعة للتجاوب مع العديد من المطالب الفلسطينية الفرعية والشكلية ويتصلب في القضايا الجوهرية. يطرح بوضوح مساومات حول كل نقاط البحث، وقد يعرض تقديم بعض القضايا المتعلقة بحقوق الانسان الفلسطيني، المعتقلين، المبعدين، الاعتقال الاداري..الخ ليطالب بما هو أهم منها، ويستثمرها في مجالات اخرى ومع جهات اخرى لها علاقة بالمفاوضات. وسيعتبرها تنازلات بينما هي حقوق طبيعية مستلبة. يجيد استخدام ورقة المعارضة الاسرائيلية بما في ذلك الاكثار من المقارنات بين مواقفه ومواقف المفاوض الليكودي، ولا يستبعد بأن يتظاهر أنه بحاجة الى مساعدة المفاوض الفلسطيني في هذا المجال. يعرف جيدا الاوضاع الفلسطينية الداخلية ومواقف القوى من العملية السياسية وسيحاول اللعب على التعارضات الفلسطينية الداخلية. هجومي غير متردد بما في ذلك قبول الاحتكام لراعي المؤتمر (الأمريكي) في تفسير نصوص الدعوة والقضايا الاخرى المختلف حولها. كل ذلك بهدف انتزاع زمام المبادرة من يد المفاوض الفلسطيني، وتغيير صورة المفاوض الاسرائيلي، وازالة كل الاثار والانطباعات السلبية التي خلفها شامير على الموقف التفاوضي الاسرائيلي وعلى علاقات اسرائيل مع الدول المشاركة في عملية السلام، وخاصة العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية.
2) مفاوضات حقيقية ومساومات صعبة:
بالتدقيق في مواقف حزب العمل ومواقف القوى المؤتلفة في الحكم. يتبين بوضوح أن مفاوضات الجولة القادمة سواء في روما أو واشنطن ستكون مفاوضات حقيقية وجدية تسعى الحكومة الاسرائيلية من خلالها تحقيق العديد من الاهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحزبية والامنية. منطلقة من قواعد ثابتة تمثل قاسما مشتركا فيما بينها. وهي تكاد تكون بمثابة خطوط حمراء سيحاول المفاوض الاسرائيلي تعطيل تقدم المفاوض الفلسطيني باتجاهها. منها الامن خلال المرحلة الانتقالية، وضع القدس، السيادة على المستوطنات والمستوطنين خلال المرحلة الانتقالية، مرجعية السلطة الفلسطينية المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية وعلاقاتها الخارجية. وسيحاول طرح التفرد في بعضها، والمشاركة في البعض الآخر. وطرح صيغة تعاون وتنسيق في مجالات أخرى كالقضايا الاقتصادية، عمالة، مشاريع انتاجية، استغلال مشترك للمياه، استثمار مشترك للكهرباء..الخ. ومن ذريعة الأمن وبدعوى التعامل بواقعية مع الوضع القائم والحاجة الى فترة اختبارية انتقالية، وبدعوى الحرص على مستقبل السلام، والحرص على نجاح سلطة الحكم الانتقالي في مهمتها وتمكينها من اكتساب الخبرات الضرورية المفقودة..الخ سوف ينطلق باتجاه تجزئة سلطات الحكم الفلسطيني الانتقالي وتقسيمها الى سلطات متنافرة ومتفرقة وتجزئة وتقسيم المرحلة الانتقالية الى مراحل متعددة وفترات متلاحقة. ليصل الى نتيجة أساسية جعل الحل المرحلي المؤقت حلا دائما. وجعل الحكم الذاتي الانتقالي المؤقت حكما غير قابل للتحول مستقبلا الى دولة مستقلة ذات سيادة كاملة على الارض والثروات الطبيعية والمياه وحق التشريع، وتكريس مشاركته في سلطات الحكم الانتقالي وخلق الوقائع والحقائق الملموسة الكفيلة بذلك والابقاء على صيغة ما من صيغ الاحتلال، مع تخفيف ظله والتقليل ما أمكن من تدخله في شؤون الحياة اليومية للسكان وللتغطية والتمويه على هذه الاهداف الاستراتيجية، فقد يبادر الى تقديم عروض تتعلق باجراء انتخابات لسلطة انتقالية ينقصها حق الشتريع في مجالات محددة. وقد يظهر سخاء في قضايا حقوق الانسان ومستوى التمثل في المفاوضات من نوع اطلاق سراح المعتقلين، وعودة بعض المبعدين ولم شمل العائلات، واشراك بعض أعضاء لجنة التوجيه في المفاوضات مباشرة. والتغاضي عن اتصالات الوفد الفلطسيني بقيادة م.ت.ف والتشاور معها. وصلاحيات البلديات، ومجالات التعليم والصحة والبيئة والقضاء، شؤون اجتماعية..الخ. وأظن ان تجاهل رابين ذكر قرارات الشرعية الدولية 242 و 338 لم يكن نتيجة هفوة وقعت عند اعداد الخطاب، وانما وقع نتيجة تجاهل مقصود، وذات الشيء فعل مع التزامات اسرائيل الواردة في اتفاقيات كامب ديفيد حول الحكم الانتقالي وحول عودة النازحين الذين اضطروا على مغادرة ديارهم بعد الخامس من حزيران 67، وحول الانسحاب الكلي لسلطة الحكم الاسرائيلي من الضفة والقطاع. فالمعروف أن حزب العمل ينطلق في معالجته للصراع الفلسطيني الاسرائيلي من الوضع القائم الان، وليس مما كان عليه قبل الخامس من حزيران 67. ومن مبدأ جزء من الارض مقابل سلام مع كل العرب، ولا يقر بمبدأ كل الارض مقابل السلام. ولعل هذا ما قصده رابين عندما قال “على الفلسطينيين ان يقتنعوا بأنهم لن يحققوا كامل ما يطالبون به”.
3) اذا كان سقوط الليكود في الانتخابات جاء بمثابة الاحياء لانعاش عملية السلام والانقاذ للمفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف، فالواضح أن نجاح رابين وحزب العمل فيها، قدم قارب الانقاذ للادارة الامريكية للخروج من المأزق المتعلق بمسؤوليتها عن عملية السلام في الشرق الاوسط والذي وجدت نفسها على وشك الغرق فيها والضياع في زواريبها المعقدة. وخاصة بعدما وصلت هذه العملية الى مأزق حقيقي وطريق مسدود، وبعدما وصلت المفاوضات الى وضع بات يتطلب تدخلها المباشر بما يعني الانحياز لصالح أسس الدعوة وضد مواقف شامير. ولا جدال حول أن نجاح رابين وحزب العمل فتح الابواب الواسعة امام الادارة الامريكية لاظهار مصداقيتها للايفاء بالتزاماتها المتنوعة التي قدمتها للاطراف الاقليمية والدولية سواء أكانت في مباحثات رسمية او في رسالة الدعوة، او كتب التطمينات، وسهل عليها ان تقوم بذلك دون مصادمات مكشوفة مع هذا الطرف او ذلك ودون الاضطرار الى أساليب زجرية قد تخلق لها بعض المتاعب والارباكات على أكثر من صعيد. ويستطيع كل مدقق بمواقف الادارة الامريكية من نتائج الانتخابات الاسرائيلية أن يتلمس بوضوح سعادتها بنتائج الانتخابات. وبالمقابل لا أعتقد أن هناك حاجة للتدقيق حتى يتم التعرف على مدى استعداد رابين للتكيف مع السياسة الامريكية الجديدة في المنطقة. فالكثير من تصريحاته ومواقفه قبل وخلال وبعد الانتخابات كانت تدور وتركز حول هذا الموضوع الحيوي والهام ليس فقط على الصعيد الرسمي الاسرائيلي بل وعند الجمهور العريض. ومن الواضح أن رابين وحزب العمل اكثر استيعابا لمدولات التطورات الدولية الجارية بتسارع شديد في أكثر من قارة، ولذا نراهم يحاولون التكيف مع وجهته الجديدة وخاصة في المسائل المتعلقة بحل النزاعات الاقليمية بالطرق السلمية، وحل النزاعات الطائفية والعرقية بخلق أسس تعايش مشترك على قاعدة الديمقراطية عمادها الأساسي الانتخابات.
وفي اطار هذا التكيف يسعى حزب العمل الى بناء وتوطيد تحالف استراتيجي اسرائيلي امريكي تكون فيه اسرائيل قاعدة قوية تعمل وفقا لمنظور الادارة الامريكية لوضع المنطقة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. أي الحفاظ على التحالف السابق والاستدارة في الوظائف والمهمات وفقا لعدد الدرجات التي تحددها الادارة الامريكية. ولن تستطيع تصريحات بيريز وسواه حول استقلالية الموقف الاسرائيلي اخفاء التبعية الكاملة للسياسة الامريكية وتسعى القيادة الاسرائيلية جاهدة لتأمينها، والحصول على كل امتيازاتها السياسية والاقتصادية والامنية.
ولعل أخطر ما قد يواجهه المفاوض الفلسطيني والعربي في جولة المفاوضات الثنائية القادمة وفي بدء جولة المتعدد الاطراف هو الاصطدام بهذا التحالف، والذي بدأ رابين التمهيد له قبل وصول بيكر وسيحاول ترسيمه في زيارته المقبلة في آب القادم لواشنطن. لأن قيام مثل هذا التحالف، وحتى لو كان في حدود التفاهم المشترك حول مسار عملية السلام بشقيها الثنائي والمتعدد الاطراف، يعني بدء تعرض المفاوض الفلسطيني والعربي الى ضغوط امريكية يتبعها ضغوط من الاطراف الدولية الاخرى المشاركة في المفاوضات. وحصول مثل هذا التطور قد يقود الى فقدان المفاوض الفلسطيني والعربي بعض المكاسب السياسية والاعلامية التي حققها على المستوى الدولي الرسمي، وفي أوساط الرأي العام العالمي المنادي بالسلام، وربما ما هو أبعد وأخطر من ذلك، كأن تتبنى الادارة الامريكية في المفاوضات القادمة مواقف وتفسيرات أقرب للمواقف والتفسيرات الاسرائيلية لرسالة الدعوة، وقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحل الصراع في المنطقة.
بعد هذا العرض لملامح تكتيك وأهداف المفاوض الاسرائيلي في المفاوضات القادمة، لعل من البديهي القول أن المرحلة الجديدة التي دخلتها المفاوضات منذ سقوط شامير تحمل في طياتها مخاطر جدية وهموم كبيرة من الظلم أن يتحملها الوفد المفاوض وحده. واذا كان من واجب الوفد انجاز كل الاستعدادات الضرورية للجولة القادمة، وفضح مناورات وألاعيب حزب العمل وقطع الطريق على مراوغاته وديماغوجيته، فمن حقه على القيادة الفلسطينية بكل اتجاهاتها ومواقفها ان تؤمن له الدعم والاسناد الضروري للانجاح في المهمة الوطنية والتاريخية التي القيت على كاهله. ولربما كانت مهمة صيانة الوحدة الوطنية، ومهمة حماية الانتفاضة وضمان تواصلها من أبرز هذه المهام.
وبنظرة استراتيجية ثاقبة لملامح وآفاق المرحلة الجديدة التي عبرتها المنطقة وعبرها النضال الوطني الفلسطيني يمكن القول بصورة مجردة بعيدة عن العواطف والامنيات ان وقت الحصاد الفلسطيني قد حان. وان هذا الحصاد مهما كان محدودا خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها منطقتنا ونضالنا الوطني الفلسطيني الا انه يؤسس لانجازات اكبر، ويضع على الارض المداميك الاساسية لنيل الحرية والاستقلال الكامل. والى واشنطن أو روما يتوجه الوفد الفلسطيني ومعه الكثير من الاوراق القوية القادرة على مواجهة تكتيك المفاوض الاسرائيلي الجديد. بيده ورقة الشرعية الدولية وقراراتها، مسندة بعدالة القضية. وبيده مبادرة بوش وورقة الضمانات الامريكية، وملف كامب ديفيد وما يحتويه من التزامات اسرائيلية. بيده الانتفاضة، وما روكم من خبرات تفاوضية، ومن انجازات هامة بفضل السياسة الواقعية التي انتهجها تيار الواقعية والتي بتواصلها خلال مفاوضات روما، سيتمكن الوفد الفلسطيني من مواصلة دوره التاريخي بنفس هجومي وبثقة كبيرة كفيلة بابقاء زمام المبادرة بيد المفاوض الفلسطيني.