فوز رابين ينعش المفاوضات ويدخلها في معارك قاسية
بقلم ممدوح نوفل في 14/07/1992
لم يأت بجديد ولم يفاجيء شامير أحدا عندما قال “لو فاز الليكود في الانتخابات لاستغرقت مفاوضات الحكم الذاتي عشر سنين، يتم خلالها توطين نصف مليون مهاجر يهودي في الضفة والقطاع”. فتجربة خمس جولات من المفاوضات الثنائية، وجولتان من المفاوضات المتعددة الاطراف كانت كافية تماما للمفاوض الفلسطيني، ولكل المشاركين في مؤتمر السلام، وحتى للمواطن العادي في غزة والضفة لاستخلاص ما كشف عنه شامير بعد سقوطه في الانتخابات. فالكل يعرف أن المفاوضات وصلت في نهاية الجولة الثالثة الى مأزق حقيقي ودخلت في طريق مسدود. وفي حينها تقدم المفاوض الفلسطيني بكل الاوراق المساعدة على تحريك المفاوضات، واستجاب لبعض المقترحات الامريكية المتعلقة بتكتيك التفاوض، مراهنا على استنتاجاته من الجولة الاولى والثانية في واشنطن بأن شامير يبحث عن ذريعة لنسف المفاوضات بعدما وجد نفسه في مأزق حقيقي. حيث اصطدم بعقدة وقف الاستيطان واضطر على التفاوض في مسار فلسطيني-اسرائيلي بمظلة تحمل يافطة الوفد الاردني الفلسطيني المشترك، لكن هذه اليافطة سرعان ما بهتت خطوطها، فتركزت الانظار على المفاوضين الفلسطينيين الجالسين وجها لوجه مع المفاوض الاسرائيلي. وعندما هرب شامير من مأزقه باتجاه الانتخابات المبكرة على أمل قتل الوقت المحدد للوصول لاتفاق حول الحكم الفلسطيني الانتقالي، والتسلح بسكين الديمقراطية ومجرفة رأي الجمهور الاسرائيلي لذبح المفاوضات ودفنها الى الابد، جاءت رياح التغيير الدولية والاقليمية لتدفع بسفينة الانتخابات الاسرائيلية عكس ما تمناه شامير.
واذا كان من غير المفيد الان الاسترسال في الحديث حول المصير الاسود للمفاوضات فيما لو نجح شامير فان المصلحة الوطنية تستوجب الاستيضاح حول ما اذا كان سقوط شامير وفوز حزب العمل كاف لاقناع كل القوى الفلسطيني التي عارضت ورفضت المشاركة في مؤتمر السلام بصحة الرأي الاخر؟. وهل هذا التطور السياسي الهام سوف يدفعهم الى مراجعة مواقفهم والانضمام للاغلبية المشاركة في عملية السلام؟ ام ان ما جرى من اقتتاع على ارض قطاع غزة هو الجواب؟ سؤال مطروح على الجميع. وجوابه سيأتي حتما في الاسابيع القليلة القادمة.
فالكل يقر الان ان نجاح حزب العمل بعث الحياة من جديد في عملية السلام وانقذها من الغرق. وهذه العملية الانقاذية سوف تنعش المفاوضات. وانعاش المفاوضات لا يعني انها سوف تكون سهلة او انها ستسير بهدوء وبدون اشتباكات ومصادمات تفاوضية. فالعكس هو المتوقع. فانعاش المفاوضات يعني خلق حيوية فيها واعطائها ديناميكية. ويفتح الآفاق أمامها، ويحركها بجدية نحو الوصول الى نتائج عملية ملموسة وهذ سيولد حتما صراعات تفاوضية حادة. حيث سيحاول كل طرف دفع المفاوضات في الاتجاه الذي يمكنه من تحقيق اهدافه. واذا كان من المبكر التنبؤ سلفا بالمواقف النهائية التي سيستقر عليها الموقف التفاوضي للحكومة الاسرائيلية فالواضح ان رابين حريص وبشكل مبالغ فيه على الظهور بمظهر المتمسك بعملية السلام، والمهتم جدا بتقدمها في الطرق المرسومة لها في رسائل الدعوة وفي كتاب التطمينات الامريكية المقدم لاسرائيل.
ولعل تصريحات رابين عن تواصل المفاوضات، وضرورة تجاوز نظام المفاوضات في جولات متباعدة، يوضح مدى الحيوية وقوة الحركة التي ستكون عليها جولة روما القادمة، خاصة وان هذا الموقف كان مطلبا فلسطينيا وعربيا في عهد شامير. أما التفاوض الجاد و”الكباش” التفاوضي القوي فالواضح أنه بدأ قبل أن تبدأ الجولة الجديدة من المفاوضات في روما. وما تصريحات رابين حول الاستيطان الامني والاستيطان السياسي، وردود الفعل الفلسطينية الحادة عليها الا مقدمات أولية له. وأظن أن الاشتباك حول موضوع وقف الاستيطان مع التشديد على كلمة وقف، سيكون أخف الاشتباكات المتوقعة بين المفاوض الفلسطيني والمفاوض الاسرائيلي الجديد (العمالي). فالواضح أن قوة حجة المفاوض الفلسطيني وذخائره الاحتياطية فعالة وكافية تماما لاسكات نيران رشاشات رابين في هذا الاتجاه وكافية لتحقيق الفوز في هذا الاشتباك. وذلك بالتمسك الحازم برسائل الدعوة، وبرسالة التطمينات الامريكية، وباتفاقيات جنيف الرابعة، وبالموقف الامريكي المعلن من مسألة ربط ضمانات القروض بوقف الاستيطان. وان اتسلح الوفد الفلسطيني بقرارات المؤتمر الاخير لحزب العمل، وتصريحات رابين نفسه قبل الانتخابات، وتصريحات نصف اعضاء وزارته المسجلة (بالصوت والصورة) حول وقف الاستيطان كافية لحشر المفاوض الاسرائيلي (العمالي) ودفعه الى كشف خلفيات طرحه موضوع الاستيطان الامني والاستيطان السياسي.
لكن كسب معركة وقف الاستيطان (الامني والسياسي) لا يعني بالضرورة حسم المعركة بصورة نهائية حول موضوع الاستيطان ككل. فالواضح أن معارك تفاوضية طاحنة سوف تدور مع السلطة على المستوطنات والمستوطنين خلال المرحلة الانتقالية، وحول انتخابات سلطة الحكم الفلسطيني الانتقالي وحول مرجعية وطبيعة ونطاق سلطة الحكم الذاتي الانتقالي. وحول مسائل الامن وانسحاب الجيش الاسرائيلي وعودة النازحين الذين هجروا من ديارهم بعد الخامس من حزيران 67. وكذلك حول العلاقات الاقتصادية بين سلطة الحكم الانتقالي واسرائيل. وما تصريحات رابين قبل زيارته لواشنطن عن تواصل المفاوضات، وتجاوز نظام الجولات المتباعدة، واحاديثه الاعلامية الغامضة حول الوصول الى اتفاق حول الحكم الذاتي الانتقالي خلال عام، وعن انتخابات فلسطينية، وتصريحاته حول الاستيطان، وحول حقوق الانسان الفلسطيني، وبعض جمله المعسولة التي تضمنها خطابه في الكنيست..الخ ليست سوى مقدمات لحركة هجومية يستعد رابين لشنها على جبهة المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية، والاسرائيلية العربية. وان تأجيله بدء جولة المفاوضات المتواصلة في روما الى ما بعد زيارته المرتقبة للولايات المتحدة الامريكية يدخل في اطار محاولة الوصول الى تفاهم امريكي اسرائيلي بشأن بعض او كل هذه القضايا ومحو كل الاثار السلبية التي خلفها شامير على العلاقة الامريكية الاسرائيلية. ومحاولة ذكية لتجنيد الموقف الامريكي لجانبه، وبالحد الادنى دفع الادارة الامريكية الى رفع الحظر عن ضمانات القروض مقابل وعود وتصريحات معسولة. ويحاول رابين في هذه الفترة الاكثار من التصريحات المرنة التي تلقى آذانا صاغية لدى الاطراف الدولية المشاركة في عملية السلام على امل النجاح في اضعاف الموقف التفاوضي الفلسطيني والعربي قبل انعقاد الجولات الجديدة للمفاوضات الثنائية والمتعددة، وارباك علاقة م.ت.ف والاطراف العربية الأخرى مع الاطراف الدولية الاخرى المشاركة في المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف. وانتزاع زمام المبادرة في المفاوضات من يد المفاوض الفلسطيني الذي تمكن من الاحتفاظ بها طيلة الجولات السابقة. وبعض تصريحاته تندرج ايضا تحت بند محاولة ارباك العلاقات الفلسطينية الداخلية، ومحاولة اللعب على مصالح بعض التجمعات والقطاعات الفلسطينية ووضعها في اطار التعارض مع مصالح تجمعات وقطاعات اخرى. ومحاولة خلق صراعات فلسطينية عربية وارباك علاقة م.ت.ف مع الدول العربية المشاركة في عملية السلام على امل الاستفراد بالطراف العربية طرفا بعد آخر. وفي هذا السياق لعل من الضروري ان تبادر م.ت.ف الى توضيح موقفها، وتذكير الاطراف العربية بأن عملية السلام على المحور الفلسطيني-الاسرائيلي قامت على اساس المرحلتين، الاولى انتقالية، والثانية نهائية. وان قبول م.ت.ف بهذه الصيغة لم يكن بناء على رغبتها، وانما جاء كمحصلة لمفاوضات قاسية، ونتيجة لموازين القوى في تلك الفترة. ولهذا فان سعي م.ت.ف في المفاوضات المقبلة لانجاز أفضل صيغة ممكنة للحكم الذاتي الانتقالي المؤقت وقبل الثلاثين من اكتوبر القادم، لا يعطي الحق لأي طرف من الاطراف العربية في اتهامها بأنها تسعى لحل ثنائي اسرائيلي فلسطيني بل يفرض على كل الاطراف العربية مجتمعة ومنفردة مساعدة المفاوض الفلسطيني في انتزاع سلطة حكم ذاتي كامل يؤسس لدولة مستقلة كاملة الاستقلال، والمساعدة ايضا في احكام ربط المرحلية الانتقالية بالحل النهائي ومنع اسرائيل من تحويل الحل المؤقت الى حل نهائي. ولا أظن بأن هناك حقا ما عند اي طرف عربي بمطالبة م.ت.ف بنسف اساس الدعوة، فكل الاطراف العربية لم تدخل عملية السلام وفقا لاسسها وشروطها العربية. ومن حق م.ت.ف ان تطالب كل من يطالبها بذلك أن يبدأ بنفسه أولا. ومن حقها أيضا تذكيره بالجهود التي بذلتها من اجل توحيد الموقف العربي خلال فترة المباحثات التمهيدية التي سبقت توجيه رسائل الدعوة وتذكيره أيضا بموقفه من هذا الموضوع وسواه في تلك الفترة.
وبالتمعن في كل هذه التطورات المتوقعة يظهر بوضوح طبيعة ونوعية المعارك القاسية التي ستدخلها المفاوضات، وتلك التي قد يواجهها الشعب الفلسطيني خلال الشهور الستة القادمة. ولا مبالغة في القول أنها شهورا حاسمة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، وشهورا مصيرية في تحديد مستقبل قضيته الوطنية. وخلالها سيمتحن الفكر السياسي الفلسطيني، وفيها سيمتحن عمق الانتماء للوطن الفلسطيني، وعمق الالتزام باستقلالية القرار وباستقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية. واذا كان من حق الجميع الاجتهاد في كل القضايا المطروحة، فالالتزام بقواعد الديمقراطية واجب يكمل هذا الحق. والالتزام بوضع المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا فوق كل الاعتبارات الاخرى شرطا أساسيا لامتلاك هذا الحق وايضا للانتصار على الذات وعلى الخصوم والاعداء.