القسم الثاني: مسيرة المفاوضات في الجولات السابقة
بقلم ممدوح نوفل في 25/09/1992
القسم الثاني
مسيرة المفاوضات في الجولات السابقة
أولا – م.ت.ف ودورها في المفاوضات:
لعل من الضروري قبل الدخول في البحث في استراتيجيات التفاوض التي اتبعتها الاطراف منذ بدء عملية السلام وحتى الان التأكيد على أن المفاوض الفعلي عن الطرف الفلسطيني كان ولا زال م.ت.ف. ولا نذيع سرا اذا قلنا أن قيادة م.ت.ف اشرفت على كل جلسات المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وقبلها المفاوضات التمهيدية الامريكية الفلسطينية من ألفها الى يائها. وهي بالتالي المسؤولة راهنا ولاحقا وتاريخيا عن كل النتائج التي سوف تسفر عنها المفاوضات، وعن كل خطط واستراتيجيات التفاوض التي عمل بموجبها الوفد الفلسطيني الى مفاوضات السلام منذ الجولة الاولى وحتى الان.
فبيكر يعرف وشامير كان يعرف ان كل اللقاءات التمهيدية الفلسطينية الامريكية التي تمت في مرحلة المفاوضات التمهيدية تمت بموافقة م.ت.ف وان كل ما تمخض عن تلك المفاوضات من رسالة الدعوة مرورا برسالة التطمينات وصولا الى تشكيل وفد مدريد تم بقرارات رسمية من قيادة م.ت.ف. ولا نظن أننا بحاجة لتوكيد هذه الحقيقة باستحضار شواهدها المتعددة والمتنوعة بدءا من سفر الوفد من مدريد مرتين الى تونس والجزائر خلال فترة أعمال المؤتمر والتي لم تتجاوز الاسبوع وصولا الى آخر زيارة علنية قام بها بتاريخ 10 ايلول الجاري د. حيدر عبد الشافي الى تونس مع عدد من اعضاء الوفد حيث شاركوا في اجتماعات رسمية للقيادة الفلسطينية وعادوا الى واشنطن حاملين معهم توجيهات محددة من القيادة الفلسطينية. وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى أن موقف الراعي الامريكي من هذه المسألة قد تراوح بين الموافقة الصامتة، والتشيجع في بعض الاحيان، وتقديم التغطية اللازمة لها وبين محاولة فرملتها واعتبارها عملا لا يساعد في تقدم عملية السلام، كما ورد في تصريح ناطق رسمي امريكي تعليقا على لقاء الوفد بصورة علنية ومصورة مع رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في عمان بتاريخ …. اما شامير فقد تعامل مع المسألة وفقا للشكليات القانونية. ولم يشأ أن يجعل منها قضية تفجيرية. وأغلب الظن أن موقفه هذا كان نتيجة للتدخلات الامريكية واستجابة لطلبها.
ونظرا لخصوصية دور م.ت.ف في المفاوضات من المفيد القول ايضا ان القيادة الاسرائيلية السابقة والحالية تعرف ان عددا من اعضاء الوفد الرسميين هم اعضاء قياديين في فصائل اساسية في م.ت.ف (حركة فتح، الجبهة الديمقراطية/التجديد، حزب الشعب الفلسطيني/الشيوعي سابقا). ولفهم مسار الموقف التفاوضي الفلسطيني لربما كان ضروريا توضيح آلية وميكانيزم العلاقة بين الوفد والقيادة الفلسطينية، وايضا الكيفية التي ادارت بها م.ت.ف المفاوضات.
قبل سفره الى مدريد طالب الوفد الفلسطيني قيادة م.ت.ف اصدار قرارات رسمية وكتب تكليف رسمية لكل عضو من اعضاء الوفد. انطلاقا من فهمهم لطبيعة المهمة الموكلة لهم، وشعورهم بثقل المسؤوليةعنها. أما قيادة م.ت.ف فقد تعاملت مع المفاوضات باعتبارها (معركة مصيرية وحاسمة) أصعب واخطر من كل المعارك السابقة التي خاضها شعب فلسطين. وانطلاقا من هذا الفهم حرصت قيادة م.ت.ف على العودة الى المؤسسات التشريعية (مجلس وطني، مجلس مركزي) لاتخاذ القرارات الاساسية. كما حرصت ايضا على عقد العديد من الاجتماعات الموسعة للقيادة الفلسطينية (10) لمناقشة مسار المفاوضات. وشكلت لجنة عليا لمتابعة المفاوضات (11) بصورة يومية ودائمة. كما شكلت لجان(12) قيادية تشرف على عمل الوفود في مواقع التفاوض وتنظم صلتها مع اللجنة العليا للمفاوضات. ومن خلال هذا التنظيم تمكنت قيادة م.ت.ف من احكام اشرافها وقيادتها المباشرة لكل العملية التفاوضية بما في ذلك تقرير أدق وأصغر التعديلات في خطط وأوراق التفاوض.
ثانيا – تقييم المفاوضات في مراحلها الثلاث:
بمراجعة وثائق المفاوضات الاسرائيلية العربية والفلسطينية الاسرائيلية يتبين انها مرت في ثلاث مراحل اساسية. الاولى يمكن وصفها بالتمهيدية وهي تلك التي تمت بصورة غير مباشرة وعبر الوسيط الامريكي بيكر. ويمكن تأريخها من أول جولة قام بها الوزير بيكر لدول المنطقة وحتى افتتاح مؤتمر السلام في مدريد في 30 اكتوبر 91. أما المرحلة الثانية فيمكن وصفها بمرحلة حوار الطرشان، عقدت خلالها الوفود العربية الاسرائيلية والفلسطينية الاسرائيلي خمس جولات كاملة من المفاوضات دون نتيجة ملموسة تذكر. ويمكن تثبيت تاريخها منذ ما بعد افتتاح مؤتمر مدريد وحتى الانتخابات الاسرائيلية وخروج الليكود من الحكم. اما المرحلة الثالثة فهي التي بدأت مع صعود حزب العمل بزعامة رابين للسلطة وبدء دخول الاطراف في المفاوضات الجدية.
وبدراسة مواقف الاطراف في المراحل الثلاث يتبين ان لكل مرحلة منها سماتها وميزاتها الخاصة التي اكتسبتها من المنطلقات والاهداف الخاصة التي حددتها الاطراف لذاتها، وسعت لتحقيقها عبر خطط واستراتيجيات تفاوضية خاصة بالمرحلة. وفي هذا الاطار يمكن رصد سلوك ومواقف الاطراف في كل مرحلة من المراحل الثلاث على النحو التالي:
أ- المرحلة التمهيدية (الأولى):
1. الموقف الامريكي: ليس سهلا الاجابة الان على سؤال هل كان الوزير بيكر واثقا من نجاح مبادرته في جمع الاطراف على مائدة المفاوضات مدة عام كامل؟ ام ان شكوكا معينة ساورته خلال تحركاته التمهيدية؟. وبغض النظر عن الجواب فالمؤكد لنا ان الجهود التمهيدية التي بذلها الوزير بيكر قد أسست لعملية سلام سارت في مساريها اللذين حددا لها، وعقدت جولاتها بتواصل وانتظام وحسب التوقيتات الامنية التي حددت لها. ولا مغامرة في القول أنها قابلة للتواصل والتعمير فترة أطول. وبمراجعة مواقف الادارة الامريكية في تلك المرحلة يمكن تسجيل التالي:
– كان الهم الاساسي والهدف الرئيسي للوزير بيكر هو ايصال واستدراج كل اطراف الصراع الى غرف وطاولات المفاوضات، مراهنا على Process العملية ذاتها في تطوير وتقريب المواقف المتنافرة للاطراف. ورغم تقديمه لنفسه كوسيط أمين الا أنه لم يتورع من اجل هذا الهدف في الضغط على الطرف الضعيف (الفلسطيني) وارغامه على تقديم التنازلات. ألزمه بحضور ناقص عن الاخرين واعتباره جزء من وفد مشترك اردني فلسطيني. وفرض عليه الدخول في مفاوضات هدفها الوصول الى حل على مرحلتين الاولى تدوم سنتين والثانية تدوم ثلاث سنوات من المفاوضات. وفي المرحلة الاولى لا تبحث مسألة القدس، ولا يشارك ممثلين عنها على طاولات المفاوضات..الخ من الشروط والاسس المجحفة(13) التي تضمنتها رسالة الدعوة وكل ذلك بهدف اقناع شامير واستدراجه الى طاولة المفاوضات.
– منذ البداية حرص الوزير بيكر على افهام كافة الاطراف بأنه ليس مسموحا لأحد سواه التحكم في مسار العملية، وثبت في وثائقها الاساسية ما يؤكد ضرورة امتناع المشاركين عن القيام بأية اعمال خلال المفاوضات تؤثر على سيرها او على نتائجها النهائية. وفي نص آخر ألزم نفسه بانجاح العملية(14). وثبت نيته وحددها بصورة رسمية وحاسمة (نيتنا ونية الاتحاد السوفياتي في لعب دور القوة الدافعة في هذه العملية لمساعدة الاطراف على التقدم في اتجاه سلام شامل رتط). ولعل مشاركة الرئيس بوش شخصيا مع الوزير بيكر والرئيس السوفياتي (السابق) ميخائيل غورباتشوف كان بمثابة رسالة تأكيد من الادارة الامريكية على التزامها بهذا الدور المسؤول عن توجيه عملية السلام.
صحيح ان الوزير بيكر لم يستطع فرض حضور الادارة الامريكية على طاولة المفاوضات كما كان حاصلا في المفاوضات المصرية الاسرائيلية في كامب ديفيد، لكن مسار المفاوضات اكد ان غياب الراعي الامريكي عن طاولة المفاوضات لم يقلل من دوره في التأثير فيها.
2. الموقف الاسرائيلي: عندما أطلق الرئيس بوش مبادرته في 6/3/91 وبدأ الوزير بيكر حركته كانت اسرائيل من الناحية الاستراتيجية في أفضل الاوضاع والمواقف الامنية والسياسية وفي مجال الطاقة البشرية. فأعدائها العرب مهزومين ومنهكين من حرب الخليج، مفككين متصارعين فيما بينهم. وخصمها حليف أعدائها (الاتحاد السوفياتي) يعيش حالة تفكك وانهيار دراماتيكي. ومئات الالوف من لمهاجرين الروس والاثيوبيين ينتظرون رحلات اساطيل الطيران للرحيل الى اسرائيل. ولذا يمكن القول ان شامير لم يكن في وارد المشاركة ناهيك عن المبادرة في التحرك نحو صنع سلام لا مع العرب ولا مع الفلسطينيين. ولهذا استقبل شامير مبادرة الرئيس بوش والزيارات الاولى للوزير بيكر بكثير من البرودة والفتور. واستغل تلك اللقاءات للحصول على ثمن سكوته ابان حرب الخليج وثمن الاذى الذي ألحقه صدام بهيبة وسمعة اسرائيل.. وبوضعها المعنوي، مركزا على مسألة هجرة اليهود السوفيات ودور الولايات المتحدة في نقلهم وفي تأمين مستلزمات حياتهم في اسرائيل. ولم يبخل الوزير بيكر في التجاوب مع طلبات شامير، ليس فقط لاستدراجه للدخول في عملية السلام بل باعتبار ذلك جزءا من التزامات الادارة الامريكية تجاه اسرائيل حليفها الاستراتيجي في المنطقة. اما ازاء موضوع المفاوضات فقد انتهج شامير منذ البداية سياسة تقوم على وضع العرب والفلسطينيين امام احد خيارين اما الخضوع والرضوخ لشروطه والدخول في المفاوضات وفقا لاسس وقواعد يرضى عنها، او رفض المشاركة وافشال محاولة الوزير بيكر مع تحمل نتائج وتبعات ذلك. وأغلب الظن انه كان يفضل دفع العرب نحو الخيار الثاني عملا بالحكمة القائلة “الباب الذي يجلب الريح سده واستريح”.
وبمراجعة رسالة الدعوة وكتاب التطمينات الامريكية الذي قدمه الوزير بيكر يمكن القول ان شامير حصل على ما يريد، وانتزع أقصى قدر ممكن من الشروط (ورد ذكر بعضها سابقا) بما في ذلك تقليص دور أوروبا الى أبعد حد ممكن، واستبعاد دور الامم المتحدة كليا. ووعود امريكية بالعمل على دفع بعض الدول الاساسية لاعادة علاقاتها الديبلوماسية مع اسرائيل مثل الصين والهند وسواها. ولعل قول شامير نفسه بعد فشله في الانتخابات الاسرائيلية (لو نجح الليكود في الانتخابات لاستمرت مفاوضات الحكم الذاتي عشر سنين وتم خلالها توطين مليون مهاجر يهودي في الضفةو القدس والقطاع) يكشف بوضوح حقيقة موقف شامير خلال المرحلة المفاوضات التمهيدية وما تلاها من مراحل لاحقة.
3) الموقف الفلسطيني في المفاوضات التمهيدية:
مع بداية المفاوضات وعلى العكس من شامير، ابدى الجانب الفلسطيني موقفا ايجابيا من رغبة الادارة الامريكية حل قضايا المنطقة وفي الوصول الى استقرار دائم فيها. فقد رحبت م.ت.ف رسميا بمبادرة الرئيس بوش(15). ورغم التباين الفلسطيني الداخلي حول اللقاء مع الوزير بيكر الا أن تعليمات القيادة (16) الفلسطينية للاخوة المعنيين داخل الاراضي المحتلة كانت ايجابية، حملت الموافقة على اللقاء ومعها الموقف المطلوب طرحه على الوزير بيكر. وقبل اللقاء كان الجانب الفلطسيني يدرك أنه الطرف الأضعف بين كل الاطراف المطلوبة للمشاركة في عملية السلام التي دعت لها الادارة الامريكية. لكنه كان يعرف في الوقت ذاته ان لا مصلحة لعدوه في الدخول في عملية السلام. وكان يلمس ويرى ضخامة خطر سرطان الاستيطان خاصة بعدما فشل في اقناع الاتحاد السوفياتي (سابقا) بوقفها او الحد منها. وكان يرى بعينيه ويلمس بيده حالة التفكك العربي وتراجع الدفاع عن القضية الفلسطينية. في ظل هذا الوعي والادراك دخل الجانب الفلسطيني المفاوضات التمهيدية، واستجمع كل اوراق قوته للتقليل من تأثير نقاطه الضعيفة على موقفه التفاوضي في تلك الفترة. استرجع وأحيا ورقة قرارات الشرعية الدولية وتمسك بها وطالب الادارة الامريكية وكل المجتمع الدولي بتنفيذ قرارات الامم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية وخاصة القرارين 242 و 338. وطالبها بالكيل بمكيال واحد لا مكيالين في التعامل مع قرارات الشرعية الدولية مستفيدا من “الدفاع الباسل” والتنفيذ الشجاع الذي أبدته الادارة الامريكية في الدفاع عن القرارات التي أصدرها مجلس الامن ضد العراق.
والى جانب ورقة الشرعية الدولية أبرز الجانب الفلسطيني ورقة عدالة قضيته، وورقة الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني على مدى نصف قرن من الزمن تحت بصر وسمع الادارة الامريكية وكل دول العالم. واستثمر بصورة جيدة ارتفاع وتيرة الحديث الدولي بضرورة الدفاع عن الديمقراطية وعن حقوق الانسان، وطالب كل المدافعين عنها او المنادين بذلك بأن يقوموا بالحد الأدنى من واجباتهم في مواجهة الارهاب الفاشي الاسرائيلي الذي يمارسه جيش الاحتلال ضد الاطفال والشيوخ والنساء. وأن يبذلوا كل جهد ممكن ومستطاع لمساعدة الشعب الفلسطيني في انتزاع حقوقه مثله مثل بقية بني الانسان. والى جانب هاتين الورقتين حول الطرف الفلسطيني رغبة الادارة الامريكية في الوصول الى استقرار دائم في المنطقة الى ورقة قوة استثمرها في مفاوضاته مع الوزير بيكر. موضحا له ان مفتاح الامن والسلام والاستقرار في المنطقة هو حل القضية الفلطسينية حلا عادلا ودائما وشاملا. مبينا وبالوقائع القريبة والبعيدة ان الحلول الاخرى لن تكون سوى مسكنات مؤقتة لاتنهي آلام شعوب المنطقة ولا تصنع الاستقرار. ولم ينسى الجانب الفلسطيني اشهار سيف الانتفاضة وتواصلها شهور وسنوات طويلة، مستثمرا هذه الورقة القوية وبقية الاوراق المذكورة في انتزاع ما يمكن انتزاعه من أسس وشروط تخدم موقفه في المفاوضات. وأيضا رفض قبول كل ما يمس حقوقه وأهدافه المباشرة أو اللاحقة، أو يؤثر سلبا على مسيرته النضالية الراهنة او اللاحقة من أجل الوصول لها. أي مالم يستطع أخذه الآن تعليق البت به وتأجيل بحثه لفترة لاحقة. مع الاحتفاظ بكامل الحقوق ومن ضمنها حق المطالبة اللاحقة بها.
حقا لقد خاض المفاوضون الفلسطينيون معركة التمهيد لمؤتمر السلام ببسالة، واظهروا جانبا كبيرا من الكفاءة، وكانوا محامين أقوياء لقضية محقة وعادلة. ومن باب ذكر الحقيقة والانصاف يسجل لهم أنهم استطاعوا تعريف الوزير بيكر بكثير من أبعاد وحقائق قضيتهم التي لم يكن على اطلاع كامل عليها. واستخلصوا بتواضع درسا مفاده يخطيء كل من يعتقد أن العالم على اطلاع ومعرفة كاملة بأبعاد وجذور القضية الفلسطينية بما في ذلك أعلى المستويات المقررة. وان جهودا جبارة لا بد من بذلها من قبل أصحاب القضية أنفسهم لتعريف العالم بعدالة قضيتهم. وتجدر الاشارة ايضا الى أن أية نواقص أو ثغرات قد تبرز اليوم أو غدا في أسس الدعوة وقواعدها كما وردت في رسالة الدعوة وكتاب التطمينات لا يتحمل مسؤوليتها المفاوضون الذين التقوا الوزير بيكر وانما قيادة م.ت.ف. فكل المفاوضات التمهيدية تمت باشراف مباشر من قبلها وكل الأوراق والمستندات استلمت بعد موافقتها عليها.
وفي اطار الحديث عن ما تمكن مفاوضوا المرحلة التمهيدية من تثبيته وما عجزوا عن تثبيته يمكن ادراج التالي: اضطروا للقبول بأن يكون الحل على مرحلتين(17)، لكنهم ثبتوا ترابطهما وتكاملهما. قبلوا مكرهين بالعمل ضمن صيغة الوفد المشترك، لكنهم ثبتوا حقهم في تسمية الوفد دون تدخل من أحد وثبتوا أيضا مسارا فلسطينيا مستقلا. قبلوا أن تسير العملية في مسارين ثنائي ومتعدد الأطراف لكنهم ثبتوا ترابط وتكامل مسيرة المسارين من بداية العملية وحتى نهايتها. قبلوا سلطة انتقالية، مؤقتة لكنهم ثبتوا انتخابها وثبتوا حقهم (في السيطرة على قراراتهم السياسية والاقتصادية وغيرها من القرارات التي تمس حياتهم ومصيرهم رتط). لم يستطيعوا انتزاع موقفا واضحا بوقف الاستيطان خلال المفاوضات(18) لكنهم ثبتوا موقفا أمريكيا يعتبر الاستيطان عملا يعرقل مسيرة السلام، وموقفا امريكيا يقول بأنها ضد قيام أي طرف بأعمال تؤثر على النتيجة النهائية للمفاوضات.
ب- المرحلة الثانية : حوار الطرشان
1) الموقف الاسرائيلي:
بعد سقوطه في الانتخابات كشف شامير بكل وضوح عن السر والاسباب التي جعلت خمس جولات من المفاوضات تبقى تراوح في مكانها، ووصولها في نهاية الجولة الخامسة الى طريق مسدود. حيث قال شامير لجريدة معاريف انه كان يخطط لأن تستمر مفاوضات الحكم الذاتي عشر سنين، ويخطط لاسكان مليون مهاجر في اراضي الضفة والقطاع خلال ذات الفترة. وربما كان يخطط أيضا لتهجير مليون فلسطيني وهذا ما لم يفصح عنه. ومن باب الامانة لا بد من تقديم شهادة لروبنشتاين (رئيس الوفد الاسرائيلي في المفاوضات مع الوفد الفلسطيني والوفد الاردني) بأنه كان ناجحا بل وبارعا في ترجمة نوايا شامير داخل غرف المفاوضات، وتقديم شهادة اخرى ايضا للسيد يوسي بن أهارون رئيس الوفد الاسرائيلي (السابق) في المفاوضات مع الوفد السوري بأنه لم يكن اقل براعة ونجاح من زميله روبنشتاين. وفي سياق ترجمته الامينة لنوايا ورغبات شامير استحضر روبنشتاين كل خبراته التفاوضية العريقة وخاصة تلك التي اكتسبها في كامبد ديفيد واستنفر كل ملكاته وبراعته باتجاه:
– دفع المفاوض الفلسطيني والمفاوض الاردني الى الانسحاب من العملية وتحمل مسؤولية ذلك امام راعيي المؤتمر وامام الرأي العام العالمي المنادي بالسلام العادل في الشرق الاوسط، وأمام كل الاطراف المشاركة في المفاوضات. وفي محاولته تحقيق هذا الهدف لم يتورع روبنشتاين الخروج عن اللياقة وعن أصول الحديث في المفاوضات، بل وحاول التواقح في الكلام أكثر من مرة وفي أكثر من جولة على أمل استفزاز المفاوض الفلسطيني والاردني ودفعهما للوقوح في فخ الانسحاب او تعليق المفاوضات. وفي السياق ذاته أبدع واكثر روبنشتاين من تقديم الاوراق والمشاريع الشكلية التي لا تتضمن الحد الاقصى في الموقف الاسرائيلي وحسب بل وبلغة استفزازية وعنجهية وبمضامين لا تترك مجالا للحور والنقاش. ولا أظن أن من الضروري مراجعة تلك الاوراق التي تقدم بها روبنشتاين في الجولات السابقة بعدما أصبحت جزءا من أرشيف تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وشاهدا على رفض حزب الليكود للسلام. ولدفش المفاوض الفلسطيني نحو اليأس والاحباط والخروج من المفاوضات تعمد روبنشتاين التطاول على أسس الدعوة وقواعدها المثبتة في رسالة رسمية. فسر بعض نصوصها الواضحة وفقا لمزاجه وبصورة لا تمت للمنطق بصلة. وحاول في أكثر من جلسة وجولة أن يظهر عجز الراعي عن التدخل. ولعل اغراق الجولة الاولى والثانية من المفاوضات في مناقشات عقيمة حول وجود مسار فلسطيني مستقل خير نموذج على كل ذلك.
– بعد فشله في دفش الوفد الفلسطيني والاردني نحو الانسحاب واصل روبنشتاين تكتيكه واضاف عليه اساليب وتكيكات جديدة نجحت في تضييع الوقت وقتله. وفي هذا السياق اكثر من ثرثرته واطال خطبه الخالية من كل شيء له علاقة بالمفاوضات. تفنن في اغراق المفاوضات في قضايا فقهية وتاريخية، أجاد النطنطة وعطل كل محاولة لتركيز البحث والنقاط حول اية قضية محددة. وبهذا الاسلوب نجح في قضم تسع شهور كاملة من المفاوضات وفي أكل خمس جولات كاملة من المفاوضات وابقاها تدور في حلقة مفرغة وحولها الى مفاوضات من اجل المفاوضات.
– ومع محاولاته دفع المفاوضين الفلسطينيين والاردنيين الى الخروج والانسحاب من العملية، ومحاولات قتل الوقت حرص المفاوض الاسرائيلي في كل جولات المرحلة الثانية على اظهار التزامه وتمسكه برسائل الدعوة والتطمينات المقدمة لاسرائيل. وحرص اكثر على كسب ود ورضى الراعي الامريكي والظهور بمظهر الجاد في المفاوضات والحريص على دفعها خطوات الى الامام. الا أن فجاجة مواقفه ولا موضوعيتها لم تساعده في اخفاء نواياه الحقيقية في شل وتعطيل المفاوضات. وبسبب من جموده العقائدي وتحجر مواقفه التفاوضية لم يستطع المفاوض الاسرائيلي في أواخر هذه المرحلة من المفاوضات التكيف او الانسجام مع نصوص الدعوة وبعض الاسس الواردة فيها. ولم يستطع ايضا قبول بعض آراء ومقترحات الراعي الامريكي، مما أدى الى اضطراره على مقاطعة لجنتين من لجان المؤتمر المتعدد الاطراف، والى التصادم المكشوف مع الراعي الامريكي حول مسألة الاستيطان وضمانات القروض.
2) الموقف الفلسطيني في المرحلة الثانية:
لعل من الضروري قبل مراجعة الموقف الفلسطيني في هذه المرحلة الاشارة الى مسألتين ربما كان لهما بعض الاثر على الموقف التفاوضي الفلسطيني:
أ. ان المفاوض الفلسطيني دخل المفاوضات المباشرة مع عدوه وهو لا يملك أية خبرة تفاوضية سابقة. ولا يستند الى أي تراث فلسطيني في مجال المفاوضات. فتاريخ الشعب الفلسطيني يخلو من ذلك، فقد حرم الفلسطينيين على امتداد سبعين عاما من الصراع مع الحركة الصهيونية من بناء كيانهم المستقل ولم تسمح لهم الدول العربية لا تمثيل انفسهم ولا مفاوضة عدوهم، فاوضوا نيابة عنهم وقرروا بدون وكالة منهم.
ب. دخل المفاوضات وهو مدرك للغبن الكبير الذي ألحقته رسالة الدعوة بتمثيله. وهو شاعر ايضا بأنه يدخلها ليواجه المحقق والسجان الذي لا زال يعتقل شعبه. فهو يفاوض والاحتلال يطارده ويضايقه وقائم فوق ارضه. ولعل ابرز ما تميز به الموقف التفاوضي الفلسطيني في هذه المرحلة:
– مواجهة المواقف الاسرائيلية المتطرفة والمتعنتة بمواقف مشابهة بل واكثر تطرفا وتعنتا منها في بعض الاحيان مما أظهره في الجولة الاولى والثانية من مفاوضات واشنطن بأنه الاكثر خروجا على رسالة الدعوة وعلى اسس مؤتمر السلام. خاصة عندما رفض الدخول الى قاعة المافوضات لمجرد احساسه بمحاولة روبنشتاين المس بالمسار الفلسطيني-الاسرائيلي. تمترس في ممرات مبنى وزارة الخارجية الامريكية في محاولة لتثبيت الوفد الفلسطيني كوفد مستقل عن الوفد الاردني الفلسطيني المشترك. ولتثبيت المسار الفلسطيني-الاسرائيلي كمسار مستقل تماما عن المسار الاردني الفلسطيني-الاسرائيلي.
– حرص على الاكثار من تقديم المشاريع والمقترحات ولم يكتف بطرح الحد الاقصى بل حرص على تضمينها كلها جميع الثوابت والاهداف (19) الفلسطينية بدءا من حق العودة وقرار التقسيم رقم 181 لعام 47 مرورا بالدولة المستقلة وانتهاء بال PISGA. ولم يتردد في وضع شروط مسبقة والمطالبة بتنفيذها قبل الدخول في اية مناقشات وخاصة بعدما قرأ المواقف المتطرفة والقصوى في الاوراق الاسرائيلية ولمس تهرب الجانب الاسرائيلي من الدخول في مفاوضات جدية.
– تسلح بالصبر والصمود في مواجهة الاستفزازات والابتزازات التي تعرض لها داخل وخارج غرف المفاوضات على الجسور عند الدخول والخروج. وأتقن الاستعانة براعي المؤتمر وطالبه بالايفاء بالتزاماته(20) وبقي متمرسا خلف المواقف التي نصت عليها رسالة التطمينات الامريكية خاصة ما يتعلق منها بمسألة وقف الاستيطان وقضايا حقوق الانسان. ولعل أبرز ما تميز به الموقف التفاوضي الفلسطيني في هذه المرحلة هو الحرص على خوضه المعركة وكسب الرأي العام العالمي بكل أبعادها. وحرصه على ضبط ايقاع حركته داخل وخارج غرف المفاوضات وفقا لحركة الشارع الفلسطيني داخل وخارج الاراضي المحتلة.
– لم يستسلم لنصوص رسالة الدعوة الخاصة بعلاقته مع م.ت.ف وبقي يحاول اختراقها تحت شعار “ما لم تستطع تثبيته في النص افرضه في الواقع”. حرص على حصر علاقته بالوفود العربية الاخرى في حدود التنسيق وتشدد في ابراز استقلالية موقفه واستقلالية قراره، فشارك في لجان المتعدد الاطراف رغم مقاطعة سوريا لها. وقلص دور الوفد المشترك الاردني الفلسطيني الى أبعد الحدود الممكنة.
3) الموقف الامريكي في المرحلة الثانية:
بعد اجتياز المرحلة الاولى، ونجاح في جمع الاطراف حول طاولة المفاوضات، حرص الوزير بيكر على متابعة مفاوضات المرحلة الثانية بصورة شخصية ومباشرة، ولهذا جعل من واشنطن مقرا لجولاتها الخمس. ولعل دافعه في ذلك قناعته وادراكه بأن ما تأسس في المرحلة الاولى لا يوفر ضمانة كافية لتواصل العملية. وان امكانية تعرضها للانتكاس وحتى للانهيار لا زالت قائمة. لا سيما وانه كان “سيد العارفين” بأن معظم الاطراف المتورطة في الصراع المباشر وخاصة اسرائيل دخلت العملية شبه مكرهة. ويعرف أن بعضها لن يتورع عن تحين الفرصة للهروب منها اذا استطاع الى ذلك سبيلا.
وبمراجعة مسيرة المفاوضات في مرحلتها الثانية يمكن رصد الموقف الامريكي خلالها على النحو التالي:
– ركز جهوده باتجاه تواصل المفاوضات ومنع أي من الاطراف من الانسحاب او التجميد او التعليق. ولتحقيق هذا الهدف لجأ في كثير من الاحيان الى فرض مواعيد واماكن الجولات عندما وقعت خلافات حولها. وأظهر للاطراف كافة وباساليب وطرق متعددة بأن الانسحاب ممنوع، واستعان بضغط اصدقاء ها الطرف او ذاك عندما اضطر لذلك. هذا على الاقل وقع مع م.ت.ف. كما حرص على اظهار اصراره على تواصل العملية في مساراتها المحددة بأي ثمن وبمن حضر، ولهذا عقد المؤتمر المتعدد في الزمان والمكان المحدد له بالرغم من المقاطعة الكاملة لسوريا ولبنان. ومقاطعة اسرائيل للجنة التنمية الاقتصادية واللاجئين بسبب مشاركة الخارج الفلسطيني فيها.
– حرص على عدم لتدخل العلني والمباشر في المفاوضات، لكنه كان الغائب شكلا والحاضر فعلا في كل جلسة من جلساتها مؤمنا ذلك من خلال تكثيف اللقاءات الرسمية وغير الرسمية قبل وبعد الجلسات ومع كل الوفود. ويمكن القول ان الدعوة لجولة واشنطن الاولى(21) هي المرة الوحيدة التي تقدم فيها الجانب الامريكي بمقترحات خطية تفصيلية ومحددة. وكل ما عدا ذلك كان يقدم بطريقة غير رسمية وفي صورة آراء ونصائح شفوية في اللقاءات المتعددة والمتنوعة التي عقدها مع الاطراف. ولاستكمال الصورة عن موقف الادارة الامريكية وفهمها لكيفية التفاوض ولكيفية تناول الاطراف لقضايا الخلاف لا بد من القاء نظرة سريعة على بعض ما ورد من نصوص رسالة الدعوة لجولة واشنطن الاولى واعتقد ان التدقيق في نصوصها يساعد ايضا في فهم بعض ما يجري الان او قد يجري لاحقا على طاولة المفاوضات. فدعوة واشنطن كانت اقرب الى جداول اعمال مقترحة من الادارة الامريكية لكل مفاوضة من المفاوضات.
فحول تصنيف قضايا المفاوضات بين اسرائيل والوفد الفلسطيني الاردني المشترك نصت على (في المفاوضات بين اسرائيل والوفد الاردني الفلسطيني توجد مجموعتان متميزتان من القضايا تحتاج الى المناقشة د.واش) وفي نص آخر ورد (ان مصلحة جميع الاطراف خلق قوة دافعة لاثبات ان المباحثات الثنائية المباشرة بامكانها ان تباشر بالانكباب على القضايا الاكثر اهمية لكم د.واش). وبشأن تناول بعض القضايا في المفاوضات الاردنية الاسرائيلية اقترحت الدعوة (لقد قامت الاردن بتبليغنا وكذلك من المفترح تبليغ اسرائيل بأن هناك عددا من القضايا الحدودية غير المتعلقة بقرار مجلس الامن 242 تحتاج الى المناقشة. نحن لا نرى ان سبب لعدم اثارة هذه القضايا مبكرا في المفاوضات لكي يتمكن الخبراء من مباشرة العمل لفحص مطالب كل طرف والخلفية التاريخية د.واش). وفي نص آخر قالت (تستطيع اسرائيل والاردن ان تبحث بشكل مجدي عددا من القضايا الثنائية الاخرى مثل طبيعة السلام، تسوية المشاكل المائية في خليج العقبة، الادارة المشتركة لمشاريع تطهير المياه الملوثة، الانتاج المشترك للبوتاس، السياحة، الطيران المدني وما شابه).
أما بشأن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وقضاياها فقد ورد في دعوة واشنطن (في هذه المفاوضات يوجد اتفاق مشترك على ان المرحلة الاولى ستركز على ترتيبات حكم الذات الانتقالية د.واش). ونصت في مكان آخر (فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالضفة وغزة فنحن ايضا نفهم ان الفلسطينيين سيتصدرون ولكن سيرافقهم اردنيون كجزء من الوفد الاردني الفلسطيني المشترك د.واش). وفي مكان آخر تقترح تجنب مناقشة مطولة لبعض القضايا (نحن نرتأي بأن كل من اسرائيل والفلسطينيين يجب ان يتفاديا بقدر المستطاع نقاشا مطولا حول مباديء من نوع مصدر السلطة وطبيعة سلطة الحكم الذاتي الانتقالي د.واش). وفي موقع آخر قدمت الادارة مقترحات محددة بما يمكن ان تبادر الاطراف لتقديمه وتبادله في المفاوضات حيث نصت (يمكن ان توافق اسرائيل والفلسطينيين على ان يقدم كل منهما في هذه الجلسة او الجلسة المقبلة نموذجا مقترحا لسلطة الحك الذاتي الانتقالية د.واش). ولم تكتف الادارة الامريكية بتقديم المقترحات والتصورات حول قضايا النقاش وطريقة تناولها، بل مضت الى ما هو ابعد من ذلك، فقدمت في دعوة واشنطن تقييما لدور الوفد الفلسطيني في مدريد ونصيحة مجانية (ان الاختراق الذي حققتموه في مدريد قبل عدة اسابيع لا يجب السماح بتبديده د.واش).
– على قاعدة رسالة الدعوة وكتب التطمينات التي قدمها لمختلف الاطراف، حاول الجانب الامريكي على امتداد المرحلة الثانية من المفاوضات اظهار شيئا من الحزم وبعضا من التوازن وعدم الانحياز لاي طرف من الاطراف. محتفظا لنفسه بزمام المبادرة، ولم يتورع عن اتخاذ مواقف رسمية وتوجيه ملاحظات نقدية رسمية وبصورة علنية لخرق هذا الطرف او ذاك لرسالة الدعوة، وعندما كان خرقه ذو تأثير على استمرار العملية وتواصل المفاوضات. فعل ذلك مع اسرائيل عندما صعدت وكثفت من عملية بناء المستوطنات. وفعله ايضا مع الجانب الفلسطيني عندما لاحظ انه يهتم ويدير مسائل الاعلام على حساب قضايا المفاوضات. وكررها عندما التقى الوفد الفلسطيني مع الرئيس ياسر عرفات بصورة رسمية وعلنية متلفزة.
من هذا العرض لمواقف الاطراف (الاسرائيلي والفلسطيني والامريكي) خلال المرحلة الثانية من المفاوضات يتبين ان هذه المرحلة انتهت دون حدوث اي تقدم حقيقي لا في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ولا في المفاوضات الاخرى. ورغم ذلك لا يمكن القول بأن جولات المفاوضات الخمس التي عقدت خلالها كانت مضيعة للوقت، لأن من غير الصحيح تجاهل اثر تواصل المفاوضات ثمانية اشهر في تكريس العملية السياسية كجزء من حياة دول المنطقة. وكواقع قائم يضغط يوميا على الجميع ويلح في طلب العلاج. صحيح ان الوفد الفلسطينية والعربية والاسرائيلية غادرت واشنطن في نهاية المرحلة الثانية في ظل أجواء متوترة جدا، لكن الصحيح ايضا انهما غادرا وهما ملتزمان باللقاء من جديد. وكليهما يعرف انه (تورط) او دخل عن قناعة في عملية سياسية دولية كبيرة ليس سهلا عليه الانسحاب منها. ولا أظن أن أي تقييم موضوعي لمفاوضات المرحلة الثانية يمكنه القفز عن الاثار والنتائج المباشرة وغير المباشرة التي تركتها على دول وشعوب المنطقة (سنأتي على ذلك لاحقا)، او تجاهل دورها في التمهيد للمرحلة التي تلتها.
ج – المرحلة الثالثة (بدء الاشتباكات الاتفاوضية) The Engagement:
اذا كان سقوط شامير وفوز رابين في الانتخابات الاسرائيلية هو تاريخ بدء المرحلة الثانية من المفاوات العربية والفلسطينية-الاسرائيلية، فالحديث عن هذه المرحلة سيكون بالضرورة عن 1) ممهدات الجولة السادسة، 2) وقائع ومجريات الجولة السادسة التي انتهت اعمالها منذ ايام قليلة.
1) مقدمات الجولة السادسة:
بغض النظر عن طبيعة وحجم الدور الامريكي في صنع التغيير الذي وقع في اسرائيل والذي ادى الى سقوط الليكود وفوز حزب العمل وميرتس، فالمؤكد ان الادارة الامريكية استقبلت هذا التغيير بارتياح كبير. وأظن ان لا جدال حول ان عملية السلام والموقف منها كانت في صلب المعركة الانتخابية في اسرائيل، وكان موضوع السلام مع العرب واحدا من ابرز القضايا التي على اساسها منح الناخب الاسرائيلي صوته لهذا الحزب او ذاك. وأظن أيضا أن لا جدال حول أن مسالة استيعاب المهاجرين الجدد، ومسألة ضمانات القروض الامريكية كانت هي الاخرى عنصرا حاسما من عناصر المعركة الانتخابية فحسب بل وعاملا مقررا في نتائج الانتخابات. وفي هذا السياق من غير الانصاف تجاهل دور الانتفاضة وتواصلها ما يقارب الخمس سنوات في احداث هذا التغيير في المجتمع الاسرائيلي. وذات الشيء ينطبق على السياسة الواقعية التي انتهجتها م.ت.ف والتي بدأت بمبادرة السلام الفلسطينية عام 88، وانتهت في المشاركة بعملية السلام، اذ يمكن القول ان الانتفاضة هي صانعة مبادرة السلام الفلسطينية وهي قوة الدفع التي حركت السياسة الفلسطينية الواقعية خطوات الى الامام، ونضيف بأنه لولا المشاركة الفلسطينية في عملية السلام لما وقع خلاف امريكي اسرائيلي حول ضمانات القروض ولما نشأت مشكلة في اسرائيل اسمها الاستيطان واستيعاب المهاجرين الجدد.
والحديث عن مقدمات المرحلة الثانية يتطلب ايضا استكشاف فهم الادارة الامريكية واطراف الصراع لمدلولات التغيير الذي وقع في اسرائيل وأثره المتوقع على عملية السلام. فبعد ظهور نتائج الانتخابات في اسرائيل رحبت معظم الاطراف العربية والدولية المشاركة في عملية السلام بصورة او باخرى بالتغيير الذي وقع في اسرائيل، ورأت فيه دفعة قوية لعملية السلام، وبنت مواقفها المتفائلة (بافراط او بتحفظ) على ما ورد في قرارات المؤتمر الاخير لحزب العمل الذي عقد قبل الانتخابات وما صدر من مواقف وتصريحات علنية عن رابين نفسه وكل مرشحي حزب العمل وميرتس في الانتخابات. والتي أكدت بمجملها على التمسك بعملية السلام وعلى الرغبة في تحقيق تقدم جدي باتجاه صنع السلام مع العرب وفي حينها جرى تخصيص للفلسطينيين.
اما الادارة الامريكية راعية العملية السلمية، فقد رأت في التغيير فرصة نادرة لدفع مبادرتها خطوات كبيرة الى الامام. ووجدت في نزول شامير (الراكب المشاغب) وصعود رابين (المطيع لها) فرصة للانطلاق في قطار السلام بسرعة اكبر ووفق حساباتها للمسافات التي ينبغي قطعها في كل مرحلة من مراحل الرحلة الطويلة والشائكة. وفي ضوء هذا الفهم وهذه الرؤيا سارعت الادارة الامريكية لتجديد حركتها المباشرة مع اطراف الصراع في المنطقة، حيث قام الوزير بيكر في منتصف تموز بزيارة للمنطقة شملت الدول والاطراف الرئيسية المؤثرة في تحديد وجهة وسرعة مفاوضات السلام. ولم يكن هدف بيكر من الزيارة فقط الترحيب بانضمام رابين لعملية السلام او تهنئة رابين نفسه بالنجاح، وانما لدفع التطورات المحتملة وتركيزها في الاتجاهات التي تخدم رؤياها واهدافها وحساباتها الزمنية. ولمنع أي طرف كان من (اللغوصة) بدفع الامور في اتجاهات متعاكسة او متعارضة مع ذلك. ويستطيع كل من تابع وراقب المواقف والتصريحات الامريكية خلال تلك الزيارة ان يستخلص بأن الادارة الامريكية راغبة في تحقيق انجاز (ما) ملموس. والوصول الى اتفاقات (ما) خلال الفترة القصيرة القادمة. ولترتيب ذلك من زاويته العملية بادر بيكر في حينها الى الاعلان (بدون علم الطليان) عن انعقاد الجولة السادسة من المفاوضات في واشنطن وحدد تاريخها في 24 اكتوبر الجاري. علما بأنه سبق للاطراف المتفاوضة وان اتفقت على روما كمكان بديل لواشنطن.
ولعل حديث الوزير بيكر في حينها مع اطراف الصراع ومن ضمنهم الوفد الفلسطيني الذي التقاه في القدس هو الذي دفع بالبعض للقول بأن بيكر يرغب في تحقيق انجازات ملموسة قبل 30 اكتوبر. وظهر من حديثه بأن ما يطمح له في ضوء التغيير في اسرائيل لا يتوقف عند حدود المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية كما كان ظاهرا في حينها او كما نصت توقيتات رسالة الدعوة والتطمينات، وانما يطمح ايضا في التوصل الى اتفاقات جزئية (ما) على الجبهات العربية الاخرى وخاصة الجبهة السورية واللبنانية. فقد قال بيكر في أحد لقاءاته “احمل رسالة رسمية مطمئنة من رابين الى الرئيس الاسد..” وقال ايضا للوفد الفلسطيني الذي قابله في القدس “جهزوا اوضاعكم الذاتية، وجهزوا شعبكم لاستقبال اتفاقات عملية وملموسة خلال فترة قريبة”.
ثم جاءت تصريحات رابين الايجابية حول المفاوضات ومفهومه لها، وضرورة ان تكون متواصلة لتعزز تفائل المتفائلين ولتثير مخاوف المعارضين لعملية السلام، وتبعها احاديثه الكثيرة عن عملية السلام وعن امكانية التوصل لاتفاقات ملموسة مع الفلسطينيين، ولم يتردد رابين من تحديد مواعيد زمنية للاتفاق حول سلطة الحكم الذاتي الانتقالية وحول الانتخابات وسواها. ولعل توقيت زيارته للولايات المتحدة الامريكية قبل بدء الجولة كان بمثابة الاشارة القاطعة عند البعض بأن الاتفاقات قادمة. وان رابين ذهب لطبخها في واشنطن.
2) مجريات المفاوضات في الجولة السادسة:
في ظل هذه الظروف والمعطيات الايجابية الجديدة تحركت الوفود العربية الى واشنطن، وليس سرا القول ان الوفد الفلسطيني ذهب الى الجولة السادسة ومعه كل الملفات الضرورية لجولة شهر ك امل من المافوضات وأنه أخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات المتوقعة بما في ذلك امكانية تحقيق تقدم جدي وملموس حول بعض القضايا الجوهرية المطروحة على طاولة المفاوضات.
والان وبعد انتهاء الجولة السادسة من المفاوضات، يتردد في كل الاوساط السياسية السؤال التالي: هل أغلقت الجولة على لا شيء؟؟ وهل كانت نتيجتها مثل سابقاتها؟ . وفي مجال الاجابة على السؤال وفقا لما صدر عن الوفود ولما رشح من غرف المفاوضات يمكن رسم صورة أولية للجولة السادسة كبداية للمرحلة الثالثة من المفاوضات على النحو التالي:
أ – محور المفاوضات السورية الاسرائيلي:
بالرغم من التصريحات التي صدرت عن الوفدين وخاصة تصريح رئيس الوفد السوري، والذي اعلن فيها عن وصول المفاوضات السورية الاسرائيلية الى طريق شبه مسدود، وطالب الراعي الامريكي بالتدخل لانقاذها، الا أن ذلك لا ينفي أن تقدما نسبيا حصل في شكل ومضمون هذه المفاوضات. فاستبدال رئيس الوفد الاسرائيلي كان بمثابة أول اشارة بامكانية حدوث تغير في اسلوب وتكتيك التفاوض الاسرائيلي مع السوريين.
أما التقدم النسبي فهو ما ظهر في المواقف الجديدة التي تضمنتها الاوراق الرسمية التي تبادلها الطرفين. فالمعلومات المتوفرة تفيد أن الورقة الاسرائيلية نصت على (تقبل اسرائيل قرار مجلس الامن 242 بجميع اجزائه كأساس لعلمية السلام الراهنة، وتعتبره ينطبق على مفاوضات السلام مع سوريا. وفي نفس الوقت لا نعتبر الغرض من المفاوضات هو مجرد التركيز على صيغ تطبيق قرار مجلس الامن 242. ان موقفنا هو ان المفاوضات يجب ان تعكس الارادة السياسية لكلا الطرفين لعقد سلام بين دولتينا ولتحويل هذه النية السياسية الى معاهدة سلام مع الاستعداد لمناقشة كافة المواضيع والتصميم على تسوية كافة الخلافات في الرأي).
وفي موقع آخر نصت على (.. أن قرار 242 يتضمن صياغة حول الاستيلاء على الارض بواسطة الحرب). وأضافت الورقة الاسرائيلية (من جهتنا نعتبر الوضع القائم في الجولان منسجما مع أعراف الشرعية الدولية الى حين التوصل الى اتفاقية..). أما بشأن موضوع الانسحاب فقد نصت الورقة الاسرائيلية على أن (مسألة الانسحاب من “أراضي” والتي تشكل جزء من القرار سنتعاطى معها كبند على جدول الاعمال عندما نناقش مسألة الحدود والأمن والمعترف بها بين سوريا واسرائيل كما ينص عليها القرار ذاته).
وحول مفهوم اسرائيل للحل تقول الورقة (من أجل ضمان أن السلام الذي سنتوصل اليه فيما بيننا سيكون قابلا للديمومة وسيدوم نؤكد أنه يجب ان يجسد في معاهدة تفصيلية قائمة بذاتها كخطوة كبرى في توجهنا المشترك نحو حالة من السلام الشامل في المنطقة).
وبتمعن النص يتبين طبيعة التغيير الذي طرأ على الموقف الاسرائيلي في هذه الجولة على هذا المحور من المفاوضات. فالمعروف ان سلوك ومواقف المفاوض الاسرائيلي في عهد شامير لم تتعدى حدود استفزاز الجانب السوري، فلم تكن الجولات الخمس السابقة سوى حوار الطرشان. أما الجولة السادسة فقد حملت مواقف اسرائيلية قابلة للبحث والنقاش وعروضا جدية تقوم على اساس بناء معاهدة سلام سورية-اسرائيلية وفق مبدأ “الارض مقابل السلام” المتضمن في القرار 242 واقامة ترتيبات امنية دائمة تحمي الحدود وتصون الاتفاقات.
والتغيير النسبي في هذه الجولة على هذا الصعيد لم يقتصر على الموقف الاسرائيلي وانما شمل ايضا الموقف السوري. فالرد الرسمي السوري تجاوز موقف المباديء العامة التي طرحها الوفد الاسرائيلي، ودخل في صلب المواضيع وفصلها في مشروع تفصيلي متكامل وبآليات زمنية. واقترح ان تصدر في صيغة اعلان مباديء مشترك اسرائيلي سوري. ومشروع اعلان المباديء هذا يتكون من تسعة بنود يتحدث في بنده الاول عن هدف المفاوضات(22) ويحدده باقامة سلام عادل وشامل في المنطقة على أساس القرار 242. والبند الثاني يتحدث عن شمولية الحل والثالث عن الامن المتبادل. ولعل البند الخامس هو الاكثر وضوحا وتعبيرا عن مضمون التطور وصدق الموقف السوري هو القادر على كشف حقيقة المواقف الاسرائيلية، فهو يقترح آلية تنفيذ محددة ومتكاملة (يبدأ الطرفان محادثاتهما لبحث آلية وخطوات تنفيذ 242 ضمن برنامج زمني محدد يراعي التزامات الطرفين..): “أ) الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجولان السوري المحتل عام 67، واخلاء وتفكيك كافة المستوطنات التي أقيمت في الاراضي السورية المحتلة منذ ذلك التاريخ”.
ب) “اعلان انهاء حالة الحرب او الادعاء بوجود مثل هذه الحالة”.
ج) اقرار الجانبين واحترامهما للسيادة والاستقلال السياسي والسلامة الاقليمية لكل منهما، ولحقهما المتكافيء هما وسائر تلك الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها وفقا للمباديء الشرعية الدولية”.
وتقترح الورقة السورية انشاء مجموعات عمل تنفيذية وتدعو الى تشكيل لجان عسكرية ولجان فنية أخرى، والى تسجيل الاتفاق لدى الامم المتحدة كوثيقة رسمية. كما تضمنت الورقة السورية حديثا عن اقامة نقاط انذار الكترونية ومرابطة قوات من الامم المتحدة، أو امريكية وروسية في المناطق التي يتفق عليها في المفاوضات بين الطرفين.
ب – محور المفاوضات اللبنانية-الاسرائيلية:
ليس سرا القول أن الجانب الاسرائيلي في عهد شامير كان يتعامل مع الوفد اللبناني باعتباره ملحقا بالوفد السوري وأن من المستحيل تحقيق اي تقدم في المفاوضات مع لبنان ما لم يقع تقدم نوعي في المفاوضات السورية-الاسرائيلية. ورغم تبديل اسرائيل لرئيس طاقمها في المفاوضات مع سوريا، ورغم التطور في موقفها في المفاوضات مع سوريا الا ان هذا التطور لم يشمل النظرة الاسرائيلية للعلاقة مع الوفد اللبناني. فوثائق المفاوضات ومناقشاتها تؤكد استمرار اعتماد الوفد الاسرائيلي في عهد رابين على ذات التقييم للموقف والوضع التفاوضي اللبناني، حيث واصل الوفد الاسرائيلي التعامل مع الوفد اللبناني على ذات القاعدة السابقة. ومن ذات القاعدة، وبعد حصول التغير المذكور على محور المفاوضات الاسرائيلية-السورية كان من الطبيعي ان يقدم الجانب الاسرائيلي على (زحزحة) اولية للمفاوضات مع لبنان. صحيح ان الاوراق الاسرائيلية التي قدمت الى لبنان في هذه الجولة لم تحمل الكثير من التغيير، الا ان من الخطأ عدم اعتبار أنها لم تحمل أي جديد قياسا للجولات التي سبقتها. فاقتراح المفاوض الاسرائيلي في ورقة 14 /9 /92 تشكيل لجنة عسكرية مشتركة اسرائيلية-لبنانية تبحث في قضايا الامن، وموافقة اسرائيل في هذه الجولة على ان القرار 425 يشكل (عنصرا) من عناصر السلام يشيران الى دخول عناصر جديدة على هذا المحور. وهي عناصر لا ترقى الى المستوى الذي وقع على محور المفاوضات السورية الاسرائيلية. وعلى كل الاحوال سيبقى هذا المحور مرتبطا بمجرى المفاوضات على المحور السوري-الاسرائيلي.
ج – محور المفاوضات الاردنية-الاسرائيلية:
تفيد المعلومات المتوفرة عن المفاوضات على هذا المحور بأن تطورا اجرائيا وتحسنا في “الاجواء” قد دخل على هذا المحور لا يشكل على أي حال تقدم ملموس. ولعل السبب في اقتصاره على جوانب اجرائية وشكلية يعود في جزء منه الى الترابط والتشابك التنظيمي والموضوعي للمفاوضات الاردنية-الاسرائيلية مع المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية من جهة والى طبيعة القضايا المطروحة في المفاوضات بين الطرفين. وهي اذا استثنينا احتلال اسرائيل لبعض مساحات من الاراضي الاردنية في مناطق الاغوار الجنوبية والشمالية فبقية المسائل تنتمي الى قضايا الحل النهائي والى المسار الثاني من المفاوضات اي المتعدد الاطراف. ولذا فان اتفاق الطرفان على تشكيل فرق عمل فنية تبحث في قضايا الامن والمياه والبيئة والطاقة هو اتفاق اجرائي لا ينبغي قراءة أبعاد سياسية له الان، لكنه يحمل آفاق في حال وقوع تقدم جدي في المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية، ومرشح للمراوحة اذا بقيت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية تراوح في مكانها.
د – محور المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية:
بقيت المفاوضات على هذا المحور تعاني من التعثر بسبب تعنت الموقف الاسرائيلي. فالمشاريع والاوراق التي تقدم بها الطرف الاسرائيلي تختلف فقط في اللغة وفي بعض النصوص الشكلية عن تلك التي تقدم بها ذات الطرف في عهد شامير وخلال الجولات الخمس السابقة. ان تضمن الاوراق الاسرائيلية نصا يقول (بأن المرحلة الثانية تقوم على اساس القرار 242) ونصوصا تقول ( بأن أعضاء المجلس الاداري ليسوا موظفين عند الحكم العسكري الاسرائيلي، وانهم سيكونون مسؤولين امام ناخبيهم، ويمارسون صلاحياتهم في نطاق ما يتفق عليه) يمكن اعتباره “زحزحة” شكلية في الموقف الاسرائيلي في مجال فهم بناء السلطة الانتقالية وصلاحياتها.
وبقراءة آخر الاوراق التي تقدم بها الوفد الفلسطيني (الاجندة، مشروع الاطار)(23) يتبين انه أدخل تغييرا في اللغة والصياغة وابتعد عن الخطابية كما سعى الى تحويل المباديء والاهداف الى صياغات وتعبيرات تفاوضية ملموسة بدلا من ابقائها صياغات عامة. فالجانب الفلسطيني اعاد صياغة مشروع الاجندة والاطار قافزا عن العناوين الفرعية وبعض التفاصيل، كل ذلك بهدف الوصول الى اجندة مشتركة تمهيدا للدخول في مناقشة اعلان مباديء. لكن تكتيك المماطلة والمراوغة الذي سار عليه الوفد الاسرائيلي عطل امكانية الدخول في مفاوضات حول القضايا الجوهرية. وفي بداية الاسبوع الثالث من المفاوضات حاول الوفد الفلسطيني بعد اقرار الجانب الاسرائيلي انطباق قرار 242 على الجبهة السورية، انتزاع موقفا مشابها، الا أن جهوده اصطدمت بتعنت اسرائيلي متسلح بنصوص رسالة الدعوة التي تشير الى انطباق 242 على مؤتمر السلام ككل وعلى المرحلة النهائية في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية.
هـ – محصلة الجولة الاولى من المرحلة الثالثة (السادسة):
بعد هذا العرض الموجز والسريع لأبرز مجريات مفاوضات الجولة السادسة ومواقف الاطراف خلالها، يمكن رصد حصيلة الجولة السادسة وآفاقها المستقبلية في النقاط الاساسية التالية:
1) بدء مفاوضات فعلية على محور واحد من المفاوضات وهو محور المفاوضات السورية الاسرائيلية، وحصر التغيير على المحورين الاردني واللبناني في قضايا اجرائية بحتة ومراوحة المفاوضات على المحور الاسرائيلي الفلسطيني. والتقدم الحاصل على المحور السوري لا يغطي قصوره وتعطله على المحور الفلسطيني او محدوديته وشكله في المحاور الاخرى.
2) بالتدقيق في تكتيك المفاوض الاسرائيلي في هذه الجولة تظهر بوضوح محاولات المفاوض الاسرائيلي احداث شرخ في الموقف التفاوضي العربي. ومحاولة استخدام تقدم المفاوضات على المحور السوري للضغط على المحاور الأخرى، ولابتزاز الموقف التفاوضي للمفاوض الفلسطيني. على أمل ارغامه على القبول بمشاريعه التي طرحها على طاولة المفاوضات. كما ويظهر أيضا ان رابين يسعى للوصول الى اتفاقيات جزئية ومرحلية على الجبهات السورية واللبنانية وليس في وارد تسريع المفاوضات على الجبهة الفلسطينية وهذا يتعاكس مع كل ادعاءاته السابقة، ويظهر زيف وخداع أحاديثه وتصريحاته عن الجداول الزمنية(24) حول الانتخابات الفلسطينية وحول نقل السلطة للفلسطينيين، وحول الحلول الشاملة مع الاطراف العربية الأخرى.
وبالتدقيق في الأوراق التي تقدم بها الوفد الاسرائيلي على المحور الفلسطيني يتبين أنها أقرب الى برنامج الليكود منها الى برنامج حزب العمل. وتذرع بعض أوساط حزب العمل بالاوضاع الداخلية في اسرائيل لا يفسر تراجع حزب العمل عن برنامجه وتباطؤ الحركة في المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية. وابقاء روبنشتاين على رأس الوفد الاسرائيلي والذي كان مترجما أمينا لسياسة شامير وفجا في سلوكه التفاوضي.
3) أظهرت الجولة السادسة مثل سابقاتها فعالية دور الراعي الامريكي، وفعالية الميكانيزم وقوة الدفع الذاتي الذي راكمته المفاوضات عبر تواصلها، واستمراريتها عشر شهور كاملة. فوقائع المفاوضات (غير المعلنة) تؤكد ان اللقاءات الجانبية السرية والعلنية التي عقدها الراعي الامريكي مع مختلف الوفود كانت فاعلة وحاسمة في حل وتجاوز كثير من العقد والاشكالات التي برزت هنا او هناك. وهي القوة الخفية التي ساهمت في صنع كل تقدم صغير او كبير وقع على هذا المحور او ذاك. وتؤكد الوقائع ايضا ان لا غنى عن هذا الدور في كل عملية المفاوضات وكل مراحلها وايضا للوصول الى الاتفاقات الاولية او النهائية.
الا ان جهود الادارة الامريكية في الجولة لم تكن متناسبة مع ما طرحه الوزير خلال جولته في المنطقة والتي مهدت للجولة السادسة من المفاوضات. فالراغب في دفع الاطراف للتوصل الى تفاقات (كما فهم من بيكر في حينها) مطالب اما بتقديم مقترحات لحلول وسط او ممارسة ضغط جدي على الاطراف لدفعها للتقدم بهذا الاتجاه. فهل احجام الادارة في هذه الجولة عن القيام بمثل هذا الدور ناجم عن مغادرة بيكر لوزارة الخارجية الامريكية وانشغالها في الانتخابات؟ أم أنها اجلت مثل هذا الدور الى الجولة القادمة التي تحددت في 21 اكتوبر؟ أم أن درجة اهتمامها بالعملية السياسية تراجعت الى ما بعد نتائج الانتخابات.
اسئلة مطروحة ستظهر الاسابيع القادمة ملامح الاجابة عليها.
4) ان المبالغة في التفاؤل التي رافقت ذهاب الوفود العربية الى واشنطن دفعت بهذه الوفود في بداية الجولة الى اصدار العديد من التصريحات حول ايجابيات الموقف الاسرائيلية وحول اقتراب الفرج. مما ساعد رابين على تكريس صورته الايجابية عند الراعي الامريكي وعند الاوربيين والرأي العام العالمي (وشهد شاهد من أهله). كما ساهمت تلك التصريحات في تقوية موقف المفاوض الاسرائيلي، وصعبت لاحقا على المفاوضين الفلسطينيين فضح ألاعيبه ومناوراته التي مارسها معهم.
5) أكدت مفاوضات الجولة السادسة على أن معركة المفاوضات ستكون طويلة وشاقة، وأن ما تحقق هنا أو هناك لا يشكل الا بدايات استطلاعية لبدء المعركة. واذا كان من المبكر الان الحديث عن كل النتائج الاجمالية للجولة السادسة فالواضح أنها كانت أول جولة شهدت مفاوضات حقيقية على بعض الجبهات تشير بالاساس الى طبيعة التكتيك الاسرائيلي الساعي الى تفتيت الموقف العربي واستخدام تحسن علاقات اسرائيل مع الولايات المتحدة للضغط على الاطراف العربية مجتمعة وكل على حدة.
القسم الثالث