مخيم مرج زهور جولة استثنائية من المفاوضات الساخنة
بقلم ممدوح نوفل في 06/01/1993
مرج زهور قرية لبنانية جميلة، تقع فوق مرتفع جبلي في قلب مثلث شبه متساوي الاضلاع. رأسه الأول قمة جبل الشيخ، والثاني قمة جبل الباروك، أما الثالث فهو بحيرة الحولة التي جففها الاسرائيليون. اسم القرية يدل على جمال طبيعتها. في فصل الربيع تتغطى صروحها وصخورها وسفوح وديانها بالزهور البرية، يختلط فوقها جمال أزهار النرجس والاقحوان مع أزهار منازلها وأزهار شجر الكرز والمشمش واللوز. وفي فصل الشتاء تتغطى أرضها بالثلج والجليد. بردها قارص، لأنها باب للرياح المتنقلة بسرعة شديدة من الجبال والمرتفعات الشرقية اللبنانية الى السهول والأغوار الشمالية الفلسطينية. صيفها منعش وجميل حيث تتغذى ليلاً ونهاراً بنسمات خفيفة من الهواء الجاف والبارد والعليل، تهب عليها من سفوح جبل الشيخ والباروك.
في المراحل الاولى من تواجد قوات الثورة الفلسطينية في لبنان سنة 71 و 72 تحولت وديان وهضاب مرج زهور الى قاعدة رئيسية للمقاتلين الفلسطينيين. فيها تجمعوا ومنها كانوا ينطلقون باتجاه فلسطين مروراً بأرض العرقوب التي كان يطلق عليها الاسرائيليون في تلك المرحلة No Mans Land.
عام 82 غادرها المقاتلون الفلسطينيون بعد قتال دامي مع الاسرائيليين. والان وبعد عشر سنين عادت مرج زهور لتصبح مرة أخرى موقعاً للنضال الفلسطيني ومسرحاً لاشتباكات سياسية اسرائيلية-لبنانية فلسطينية عنيفة، بعدما قذفها رابين بمئات من المناضلين الفلسطينيين الذين أقاموا مخيماً ثلجياً فوق مروجها المعتبرة الان No Mans Land. وبهذا تحولت مروج مرج زهور الى ميدان دولي لاستعراض الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي بكل أبعاده وتشعباته، وميدان لامتحان القدرة الفلسطينية على الصبر والصمود في الظروف القاسية الصعبة. واختبار للعقل الفلسطيني ومدى قدرته على إدارة هذه المعركة السياسية برؤيا واقعية، تحول العذاب والألم الى حركة ملموسة تخدم المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني بما فيها عودة المرحلين والمبعدين السابقين واللاحقين. وعلى أرضها تمتحن الآن أيضاً العلاقات الفلسطينية-اللبنانية وقدرة الجانبين على التحرر الكامل من عقد الماضي وتوحيد موقفهما حيث توحدت مصالحهما ضد تحويل مروج مرج زهور مكباً للفلسطينيين وضد تحويل مخيم المبعدين الى مخيم ثابت يضاف للمخيمات الموجودة في جنوب ووسط وشمال لبنان.
ومن مراقبة ومتابعة التحركات السياسية والديبلوماسية والتفاعلات الاقليمية والدولية التي خلقها وجود هذا المخيم على أرض مرج زهور يمكن القول أن جولة تاسعة من المفاوضات تجري بصورة استثنائية بين ذات الاطراف التي تفاوضت في واشنطن وقبلها في مدريد. وبدون عناء كبير يمكن التعرف على موضوع البحث وصلته العضوية والقوية بالمواضيع التي بحثت في الجولات الثماني السابقة. فبغض النظر عن اسم الموضوع وعنوانه، فالابعاد يعني الامن بكل تشعباته. ومناقشة مبدأ الابعاد وعودة المبعدين توصل حتماً الى بحث قضايا من نوع التعايش الفلسطيني-الاسرائيلي، ومصير الارض، ومصير الفلسطينيين الذين أبعدوا عن ديارهم وأرضهم منذ الخامس من حزيران 1967 وحتى الدفعة الاخيرة من المبعدين.
وبالتدقيق في أهداف وأبعاد ومدلولات خطوة الابعاد التي أقدم عليها رابين، يظهر بوضوح أنه كان قاصداً ارتكاب هذه الجريمة بحق الانسان الفلسطيني وبحق الشرعية الدولية وقاصداً توقيتها. أراد بوعي كسر قواعد اللعبة السياسية وليس الأمنية فقط. فلا أظن أن رابين ساذجاً لدرجة بلغت حد الاعتقاد أن العالم سيتعامل مع إبعاد 413 كادراً فلسطينياً باعتبارها قضية أمنية مجردة من كل بعد سياسي. أو أنه لم يكن يدرك أن جريمة من هذا النوع وبهذا الحجم ستمر دون أن يكون لها أية مضاعفات وانعكاسات سلبية على المفاوضات. أو أنه جاهل بالوضع الفلسطيني لدرجة الاعتقاد أن م.ت.ف ولاعتبارات سياسية وتنظيمية سوف تغطرش على هذا الابعاد. واذا كان من الخطأ النظر الى خطوة الابعاد على أنها خطوة أمنية احترازية أو أنها خطوة عسكرية أقدم عليها جنرال في لحظة انفعال مست فيها كرامته وهيبته العسكرية، فإن التفسير المنطقي لها هو أن رابين أقدم على تنفيذ عملية الابعاد على أمل استثمار الوقت الضائع في المفاوضات الرسمية وتسليط الاضواء وتركيزها خلاله نحو التطرف والتعصب الديني وأن يبرزه باعتباره خطراً حقيقياً على السلام في المنطقة، ظناً منه أن إثارة مثل هذا الموضوع على أبواب الجولة التاسعة من المفاوضات يقوي مواقعه التفاوضية ويجنبه بعض الضغوط الدولية التي يتوقع أنها ستمارس عليه. مبرزاً في الوقت ذاته استعداد اسرائيل لتحمل مسؤولياتها والنهوض في مواجهة التطرف والتعصب الديني ليس فقط على الساحة الفلسطينية بل وفي عموم المنطقة.
واذا كان رابين قد نجح الى حد ما في تسليط الاضواء على الموضوع، ونجح في خلق نوعاً من الترابط بينه وبين ما يسميه الارهاب عند بعض القوى الدولية، فالنتائج الملموسة حتى الان تؤكد أن رابين أخطأ التقدير والحساب. فقد فتح على نفسه عش الدبابير وهيج الشارع الفلسطيني والعربي بمختلف اتجاهاته العقائدية والسياسية ضده وكشف زيف ادعاءاته السلمية. وفتح جولة من المفاوضات الاستثنائية على حسابه الخاص أسفرت حتى الان عن: 1) اضطراره للتفاوض عبر الوسطاء مع قيادة م.ت.ف مباشرة، فاوضها في المناقشات التي جرت في مجلس الأمن، وفاوضها عبر المبعوث الدولي والأمين العام للامم المتحدة، وكذلك عبر المصريين والفرنسيين وكل الأطراف الدولية المعنية بحل الموضوع. 2) بروز دور الأمم المتحدة في هذه المفاوضات. 3) تراجع ظاهري في دور الراعي الامريكي وتقدم ملحوظ في الدور الفرنسي. 4) بروز دور منسق ومشترك لبناني-فلسطيني لم يرق بعد الى مستوى وصيغة الوفد المشترك.
والواضح حتى الان أن مفاوضات هذه الجولة الاستثنائية ستتواصل خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة وأنها بتواصل حركتها فوق ثلوج مرج زهور تكبر أكثر فأكثر، وتزيد من عمق مأزق رابين. وبات من المستحيل إغلاق ملف هذه الجولة غير الرسمية، والدخول في الجولة التاسعة الرسمية ومخيم المرحلين المبعدين موجود فوق مروج مرج زهور الجميلة.
ورغم ذلك كله لا زال رابين يهرب من مواجهة الحقيقة المرة ومن التعامل معها. فبدلاً من التوجه لفتح حوار مباشر مع قيادة م.ت.ف حول كل المواضيع ومن ضمنها الأمن والمبعدين، نراه يتوجه لمخاطبتها عبر الوسطاء ونراه يكابر وهو يعرف أن الابعاد لا يعالج موضوع الأمن، ولا يوقف العمليات العسكرية بل قد يؤججها ويزيدها اشتعالاً. وأن العملية التي قتل فيها الرقيب الاسرائيلي لم تكن الأولى قبل وخلال المفاوضات ولن تكون الأخيرة. طالما لم يتم التوصل الى اتفاق رسمي بين الطرفين حول القضايا المطروحة في المفاوضات ومن ضمنها وقف استخدام الاسلحة النارية. فغياب مثل هذا الاتفاق يعطي للمناضلين الفلسطينيين بمختلف اتجاهاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية الحق في الرد على الرصاص بالرصاص وبكل الوسائل والمعدات المتاحة. ورابين بخبرته العسكرية ومعلوماته الأمنية يعرف أن الجهة الفلسطينية الوحيدة المخولة ببحث الشؤون السياسية والامنية والعسكرية هي قيادة م.ت.ف ولا أحد سواها.
وبغض النظر عن حقيقة ودوافع رابين، او الحل النهائي الذي سيتم التوصل له بشأن موضوع المبعدين، فالثابت أن رابين كسر قواعد اللعبة السياسية وضرب الأسس التي قامت عليها مفاوضات مدريد. ووضعها في مرجل يغلي على نار حامية. واذا كان الانسحاب من مفاوضات السلام ممنوح لاعتبارات خارجة عن إرادة الاطراف الاقليمية فالاستنتاج المنطقي أن المفاوضات الاستثنائية الجارية الان حول موضوع المبعدين سوف تحدد الملامح الاساسية للاتجاه الذي ستسير فيه عملية السلام التي انطلقت من مدريد. فهل ستكون بمثابة العملية الجراحية يستأصل فيها كل المتطلعين الى سلام عادل وشامل ودائم في المنطقة، كل الامراض الخبيثة التي زرعها شامير في جسمها قبل أكثر من عام؟؟ أم أن رابين سيفجر حقل الالغام الذي حشر نفسه فيه وينسف حكومته، بعدما يكون قد نسف عملية السلام؟. الاجابة على هذه الاسئلة وسواها ستظهر حتماً فوق مروج مرج زهور الجميلة. وحتماً لن يتأخر الجواب، لأن نسف عملية السلام مسألة فوق طاقته.