انعدام التجاذب الدولي السلبي يساعد على استئناف المفاوضات

بقلم ممدوح نوفل في 10/03/1993

عند كل استعصاء طبيعي أو مفتعل تواجهه مفاوضات السلام الفلسطينية-الاسرائيلية، يكثر الحديث في الاوساط السياسية الفلسطينية حول مصير عملية السلام التي انطلقت من مدريد في 30 اكتوبر 91. وعند كل حدث سياسي تكثر الاسئلة حول المشاركة والتعليق، او المقاطعة لهذه الجولة أو تلك من جولات المفاوضات. ونظراً لتسارع الاحداث وتزاحمها في منطقتنا، وبسبب من طبيعة القضايا المعقدة المطروحة على جدول أعمال المفاوضات، فلا أذكر جولة واحدة مرت دون ظهور دعوات الانسحاب أو التعليق أو المقاطعة. ولا شك ان للتباين الحاد في مواقف القوى الفلسطينية من المشاركة في المفاوضات دوراً أساسياً في تكرار مثل هذه الدعوات وفي ارتفاع وتيرتها من وقت لآخر.
ومنذ ارتكاب رابين جريمته البشعة وابعاده لأكثر من 400 كادر ومناضل فلسطيني، ارتفعت وتيرة الاسئلة وارتفعت حرارة الحديث حول ذات الموضوع. وخلال جولة الوزير كريستوفر ارتفعت وتيرة الاسئلة وحرارتها أكثر فأكثر.
واذا كان هذا الحديث يمكن فهمه الآن ويمكن ايجاد المبرر لبعض التساؤلات حول مصير الجولة التاسعة، فالواضح أن اجابات معظم القادة الفلسطينيين تخلط المواقف التكتيكية بالمواقف الاستراتيجية. ويلاحظ أن اجابات وردود أنصار المشاركة في المفاوضات يغلب عليها طابع الدفاع السلبي. فالحديث والتساؤلات تظهر على شكل هبات ساخنة أو باردة، والاجابات والردود تظهر متعارضة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى، عدا عن كونها تبريرية ناقصة. فهي تركز على تفسير هذا المشروع أو ذاك، أو توضيح هذا التصريح أو ذاك، أو شرح الضرورات التكتيكية لهذها لحركة أو ذاك النشاط. وأعتقد أن حالة الجمود المؤقت التي تمر بها المفاوضات الآن فرصة مناسبة للوفد الفلسطيني والقيادة المشرفة على المفاوضات للتوقف وإجراء عملية تقييم ومراجعة معمقة وهادئة لمسار المفاوضات في مراحلها الماضية، وتحديد النواقص والثغرات والاخطاء التكتيكية التي حصلت، واشتقاق التوجهات السليمة خاصة في ضوء التغيرات التي حصلت في الادارة الأمريكية، وقرار الكنيست الاسرائيلي بالغاء الحظر على الاتصالات مع م.ت.ف، وفي ضوء النتائج التي أسفرت عنها زيارة وزير الخارجية الامريكية وارن كريستوفر للمنطقة ودعوة راعيي المؤتمر أطراف النزاع لاستئناف المفاوضات في منتصف نيسان القادم.
وفي إطار المراجعة والتقييم والتحضير للجولة القادمة بات من الضروري معالجة المفاهيم السائدة حول طبيعة المشاركة الفلسطينية في المفاوضات وتركيز الجهود المطلوبة على المستوى الشعبي ومع المعارضة لتوضيح خصائص وميزات هذه العملية ودرجة تأثرها وتأثيرها في الاحداث السياسية وحدود القدرة الفلسطينية على التفشيل أو التعطيل، وتوضيح أين وكيف ومتى يمكن احداث التعديل والتغيير فيه اسس ومسار المفاوضات. وأعتقد أن جولة الوزير كريستوفر ومحاولاته اخراج المفاوضات من حالة الجمود المؤقت التي تعيشها الان تفرض على قيادة م.ت.ف عدم حصر تفكيرها في معالجة موضوع المبعدين وسبل تنفيذ القرار 799، فهي مطالبة بفتح كل ملفات المفاوضات.. وتفرض أيضاً على الوفد الفلسطيني وعلى الجهات المشرفة على المفاوضات الشروع فوراً في إعداد الوثائق والدراسات اللازمة لمعالجة القضايا الشائكة التي توقفت عندها مفاوضات الجولة الثامنة.
إن محاكمة مسيرة السلام الجارية بالاعتماد على قراءة ورؤية ما يظهر على سطحها فقط أو ما يبرز بشكل عارض في طريقها لا يساعد على تقرير المواقف الاستراتيجية، ويقود الى المزج بينها وبين المواقف التكتيكية. وأظن أن عدم رؤية مجموعة الخصائص والمميزات التي توفرت للعملية الجارية والتي ميزتها عن المحاولات التي سبقتها يؤدي الى إرباكات شديدة ومتنوعة، وهو الذي يظهر الموقف الفلسطيني على أبواب كل جولة في مفاجآت وصدمات تولد ردود أفعال متناقضة ومتعددة الاشكال والانواع.
إن خصائص وميزات عملية السلام التي انطلقت من مدريد في اكتوبر 91، وما راكمه مؤتمر السلام بشقيه المتعدد الاطراف والثنائي من قوة دفع ذاتية منذ انطلاقته وحتى الان هي التي ضمنت له التواصل والاستمرار حتى الان، وهي تضمن تواصله في المستقبل والتغلب على كل العراقيل والصعوبات الطبيعية أو المفتعلة التي تفصلناه عن الجولة التاسعة من المفاوضات بما في ذلك عقدة المبعدين التي صنعها رابين. ولعل أهم هذه الخصائص والميزات هو انعدام التجاذب الدولي السلبي.
وأظن أن لا خلاف حول اعتبار مسيرة السلام الحالية بأنها مسيرة أمريكية من حيث الهندسة والاعداد ولجهة النتائج والاهداف. وأنه بالرغم من مغادرة الوزير بيكر مكاتب الخارجية الامريكية ومبنى البيت الابيض الا أن التاريخ سوف يسجل له أنه نجح في وضع منطقة الشرق الأوسط على اعتاب مرحلة جديدة تماماً. صحيح أن الاتحاد السوفياتي سابقاً، وروسيا حالياً شريك في رعاية العملية، لكن واقع الحال يفرض عدم تحميل الروس أية مسؤولية لا عن الأسس التي بنيت وركبت عليها العملية، ولا عن الطريق الذي سارت فيه في جولاتها السابقة ولا عن النتائج النهائية التي سترسوا عليها المفاوضات. فالوقائع تؤكد أن عملية السلام انطلقت وسارت عملياً بقيادة الراعي الأمريكي. ومراجعة المبادرات الكثيرة والمتنوعة التي أطلقت سابقاً لمعالجة النزاع الفلسطيني والعربي-الاسرائيلي تبين أن كل المبادرات الامريكية السابقة لتسوية الصراع في الشرق الأوسط كان من ضمن استهدافاتها الأساسية طرد السوفييت من المنطقة، أو تقليص نفوذهم في هذه الدولة أو تلك من دولها. حيث كان للسوفيات (سابقاً) نفوذ كبير في العديد من الدول العربية، وكانت لهم علاقات سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية قوية وحميمة مع سوريا والعراق واليمن ومنظمة التحرير. وبهذه العلاقات والصداقات كان الاتحاد السوفياتي مثبتاً حضوره في المنطقة كقوة ذات تأثير مباشر في تقرير شؤونها. وبها استطاع تعطيل كل المبادرات الأمريكية التي سبقت المبادرة الأخيرة، ومنعها من السير باتجاه الحل الشمولي.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، انتهى نظام القطبين الذي تحكم بالوضع الدولي على مدى ما يزيد 45 عاماً، وانتهت معه كل أشكال التجاذب والاستقطاب الدولي اتجاه دول وشعوب المنطقة، وحل محله تنافس على أسواقها. وعندما تحرك الوزير بيكر في نيسان 91 لتهيئة أوضاع دول المنطقة للجلوس على مائدة المفاوضات، أظن أنه لم يشغل ذهنه بمهمة طرد السوفيات. ويمكن القول أن مبادرة بوش-بيكر لم تواجه أية مشاغبة أو منافسة دولية تذكر كالتي واجهتها سابقاً. وبمراجعة الموقف السوفياتي على امتداد مسيرة السلام يمكن القول أنهم لم يكتفوا بالترحيب والتأييد بالمبادرة الأمريكية، بل اندفعوا الى ما هو أبعد من ذلك حيث أبدوا استعداداً عالياً للتكيف مع السياسة الأمريكية في المنطقة وأعادوا صياغة علاقاتهم مع دول المنطقة بما يخدم نجاح عملية السلام وتقدم المفاوضا، بما في ذلك فتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه، واعادة العلاقات الديبلوماسية مع اسرائيل، والضغط على العرب والفلسطينيين لقبول المبادرة وقبول المشاركة في أعمال مؤتمر السلام
أما دول السوق الاوروبية المشتركة، فقد رحبت منذ البداية بمبادرة الرئيس بوش وأيدتها، ودعمت الوزير بيكر في كل تحركاته انطلاقاً من قناعتها بأن استقرار أوضاع الشرق الأوسط ومعالجة أزماته وقضاياه يوفر لها مناخاً سياسياً ملائماً لتطوير علاقاتها السياسية وشبكة مصالحها الاقتصادية والتجارية مع كل دول المنطقة المجاورة لها، وفي اطار عملية الدعم والتأييد سعت دول السوق الاوروبية لتأمين موقفاً فاعلاً لها في مؤتمر السلام، وبذلت جهودها مع الادارة الأمريكية ومع دول المنطقة حتى تضمن لنفسها دوراً مشاركاً وليس مراقباً في العملية.
الا أن محاولاتها وجهودها تلك اصطدمت في حينها بالموقف الأمريكي الذي لم يكن يخفي رغبته في التفرد في قيادة المؤتمر وفي تقرير مساره طيلة حياته التي يحياها. كما اصطدمت أيضاً بالموقف الاسرائيلي (سلطة الليكود) الذي كان يرى في الموقف الأوروبي موقفاً أقرب للموقف العربي وشبه منحاز له. امام هاتان العقبتان الامريكية والاسرائيلية لم يكن أمام دول السوق الاوروبية من خيار، في حينها، سوى دعم المبادرة والمشاركة في مسار العملية ضمن الحدود المسموح بها أمريكياً.
وبتوفر الدعم الاوروبي، والتأييد “السوفياتي” لعملية السلام الأمريكية تهيأ المسرح الدولي لوضع مبادرة الرئيس بوش على سكة دولية سالكة، وفي حينها ظهر الوزير بيكر على خشبة مسرح الشرق الأوسط ليقوم بالدور الرئيسي والمقرر نيابة عن الامم المتحدة والدول الخمس دائمة العضوية وكل التجمعات الدولية الأخرى.
وعلى امتداد جولات المفاوضات الثمانية لم يحاول لا السوفييت ولا الاوروبيين ولا مجلس الأمن ولا الأمين العام للأمم المتحدة المشاغبة على الدور القيادي الأمريكي لعملية السلام، لا بل كثيراً ما استعانت الادارة الامريكية بهم جميعاً لتذليل العقبات ولممارسة الضغوط على أطراف المفاوضات وحثها على التجاوب مع الآراء والتوجهات الأمريكية، تماماً كما تفعل الآن في معالجة قضية المبعدين لاستئناف الجولة التاسعة من المفاوضات.
وأعتقد أن انعدام التجاذب الدولي السلبي الآن حول مفاوضات السلام يضعف من قدرة الأطراف المعنية على الهروب من المشاركة في الجولة التاسعة في نيسان، ويفرض عليها ايجاد حل مقبول لقضية المبعدين لاسيما وأن كل الأطراف الاقليمية فقدت في ظل الوضع الدولي الجديد كل الخيارات الأخرى ولم يبق أمامها سوى خيار السلام.

تونس –