(فدا) والانتفاضة التنظيمية الفلسطينية المطلوبة

بقلم ممدوح نوفل في 05/03/1993

في غضون الأسابيع القليلة القادمة من المتوقع أن تشهد الاراضي الفلسطينية المحتلة ميلاد حزب سياسي جديد، اسمه الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا). رأسه وجسمه الأساسيين في القدس والضفة والقطاع، ويعمل ضمن صفوف الجاليات الفلسطينية الموزعة في شتى أنحاء العالم.و أعتقد أن القوى المكونة لهذا الحزب الجديد قادرة على تمكينه من تكريس حضوره المادي في مختلف مدن ومخيمات الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة، وفي مناطق الشتات. وتمكينه أيضاً من تكريس وجوده في إطار م.ت.ف، بدءاً من المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية مروراً بالمجلس المركزي وصولاً الى القيادة الوطنية الموحدة وحتى أدنى مؤسسة وطنية أو لجنة شعبية منبثقة عنها.
فالجبهة الديمقراطية / جناح الديمقراطية والتجديد، ووعدد من المجموعات الديمقراطية التي اندمجت مع بعضها وشكلت مع العديد من الشخصيات الوطنية المناضلة هذا التنظيم الجديد قادرة على تأمين الحضور الرسمي له في صفوف الشعب الفلسطيني وداخل منظمة التحرير، لا سيما وأن قيادة م.ت.ف باركت الخطوة ووافقت على أن يكون السيد ياسر عبد ربه ممثلاً للحزب في إطار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وأن يكون رفاقه الموجودين في المجلس الوطني وسائر أطر وهيئات المنظمة ممثلين للحزب في كل المواقع التي يتواجدون فيها الآن. والقيادة الفلسطينية لم تتجاوز في موقفها هذا لا اللوائح التنظيمية الداخلية للمنظمة ولا الأعراف والتقاليد الفلسطينية المتبعة، بل نفذت قراراً اتخذه المجلس الوطني في دورته العشرين ونص على معالجة الخلاف الداخلي في الجبهة الديمقراطية بروح من الحرص على الوحدة، وشكلت في حينها لجنة وطنية للبت بالموضوع على قاعدة الحفاظ على وحدة الجبهة، وفي حال تعذر ذلك يتم اعتماد الطرفين كتنظيمين مستقلين، لهما ممثليهما المعروفين في هيئات وأطر ومؤسسات م.ت.ف. ولهذا يمكن القول أن المقومات الأولية للوجود على المستويين الرسمي والشعبي توفرت لهذا الحزب قبل الاعلان الرسمي عن ميلاده. لكن السؤال المطروح هل هذا يكفي للاقدام على خطوة سياسية وتنظيمية كبيرة بهذا الحجم؟ وهل من آفاق لقيام أحزاب جديدة في الساحة الفلسطينية؟ وهي المتخمة بالفصائل والتنظيمات بكل صنوفها الايديولوجية والسياسية والتنظيمية؟؟ وهل من مبررات حقيقية لوجود هذا الحزب الجديد؟؟ أم أنه جاء ليحل اشكالاً سياسياً تنظيمياً فرض نفسه على م.ت.ف منذ وقع الخلاف داخل الجبهة الديمقراطية قبل أربع سنوات ولا زال عالقاً حتى الآن؟؟.
أعتقد أن الأسئلة الكبيرة والكثيرة التي يطرحها وجود هذا الحزب طبيعية ولها ما يبررها. واذا كان على المبادرين بهذا المشروع واجب الاجابة وتوضيح أنفسهم للناس العاديين ولكل القوى الفلسطينية والعربية، فإن الاوضاع التنظيمية لفصائل م.ت.ف والتي تتعرض يومياً للنقد والتشريح (الصحيح)، تفرض على كل الديمقراطيين الفلسطينيين مناقشة الفكرة وتحديد موقف منها، لا سيما أولئك المناضلين الذين لم يجدوا لأنفسهم مكاناً في الأطر التنظيمية للفصائل وضاقت بهم الحياة داخلها وغادروها لأسباب متنوعة، ويتمسكون بضرورة أن يكون لهم دور داخل الأطر الكفاحية للشعب الفلسطيني ويعتبرون أن مدخلهم لذلك هو الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية.
وأظن أن هناك ما يشبه الاجماع في صفوف قطاع واسع من المستقلين الوطنيين والديمقراطيين، وقسم من الذين غادروا الأطر التنظيمية لفصائل الثورة، وهم كثر، أن البنى التنظيمية لهذه الفصائل باتت مترهلة وتحتاج الى تطوير في علاقتها بالشعب وفي بنائها الداخلي خاصة في ظل تعطش الشعب للديمقراطية، وتمسكه بحرية الرأي وحق التعبير، ورفضه كل أشكال القيود والتزمت التي تفرضها الفصائل والأحزاب (الدارجة) على أعضائها. ويمكن القول أيضاً أن كل تقييم جريء وموضوعي للبنية التنظيمية والفكرية للفصائل والتنظيمات الفلسطينية يؤكد أن الفصائل الفلسطينية التي بنيت لاعتبارات موضوعية ومتعددة على أسس عسكرية ومؤسساتية سلطوية قد أدت أدوارها ووظائفها الوطنية المطلوبة في مرحلة تاريخية هامة من نضالنا الوطني، ويؤكد في الوقت ذاته أنها ببنيتها التنظيمية العسكرية والمؤسساتية المتبقرطة التي حافظت عليها على مدى ربع قرن من الزمن من دون أي تطوير أو تجديد لم تعد قادرة على تلبية متطلبات العمل في المرحلة الجديدة التي دخلها النضال الوطني الفلسطيني منذ انطلاق الانتفاضة في ديسمبر 1987. والتقييم ذاته يؤكد حاجة الساحة الفلسطينية الى حزب جديد، والى انتفاضة (نفضة) تنظيمية تواكب أولاً الانتفاضة الفكرية التي وقعت في الفكر السياسي الفلسطيني منذ اعلان المجلس الوطني مبادرة السلام الفلسطينية عام 88، والتي تواصلت بالتعاطي مع كل المبادرات والتحركات السياسية التي لامست القضية الوطنية، وصولاً الى الخطوة التتويجية الكبرى والمفصلية التي حققتها عام 91 من خلال المشاركة في مفاوضات السلام الفلسطينية والعربية-الاسرائيلية التي انطلقت من مدريد في 30 اكتوبر 91. وتواكب ثانياً الانتفاضة الكفاحية التي تفجرت في الضفة والقطاع في 7 كانون الأول عام 87.
وأعتقد أن عجز كل الفصائل والتنظيمات الفلسطينية عن مواكبة حركة شارع الانتفاضة على مدى السنوات الخمس الماضية من عمرها ليس الا تعبير صارخ عن الازمة البنيوية لهذه الفصائل. وليس من التجني القول أن تشبث الفصائل بمبادئها وقوانينها وأسسها التنظيمية الجامدة والمتزمتة ورفضها تجديدها أو تطويرها هو الذي أدى الى بقاء غالبية الشارع المنتفض خارج هذه الفصائل. وأن محاولات الفصائل فرض قوانينها وأسسها وسبل عملها التنظيمي على الانتفاضة ألحق أضراراً فادحة بالاثنين معاً، وأدى الى ظهور الكثير من الظواهر السلبية في بنية الانتفاضة. لقد حاولت الفصائل إدخال جسم الانتفاضة الكبير في أثوابها الضيقة فتشققت أثواب الفصائل وبقي الجسم المنتفض خارجها، وحاولت الفصائل فرض قوانينها وأسس علاقاتها الداخلية على الانتفاضة فكانت العسكرة بكل مظاهرها وأشكالها السلبية. والساحة بحاجة الى (نفضة) وانتفاضة تنظيمية تستوعب ثالثاً الدروس التنظيمية والفكرية المستخلصة من انهيار الاحزاب الشيوعية والماركسية اللينينية التي قامت على مبدأ المركزية الديمقراطية. وتستوعب أيضاً مدلولات انهيار الدول التي قامت على أكتاف الحزب الواحد، وسلطة الجيش والمخابرات، والاقتصاد الممركز. والساحة بحاجة، رابعاً، الى نفضة تنظيمية ينبثق عنها حزب وطني ديمقراطي مع التشديد على ديمقراطي، لأن جوهر الازمة التنيمية التي تعانيها الفصائل يكمن في غياب الديمقراطية داخلها، وفي علاقاتها مع بعضها ومع قوى الشعب غير المنتمية لها. حزب يتيح لاعضائه حرية العقيدة، يقوم ويبنى من الاساس على مبدأ التعددية الفكرية والسياسية؛ حزب يقوم على مبدأ الديمقراطية يحترم كل الآراء وخاصة رأي الأقلية ويحميها ويعطيها حق التعبير العلني عن مواقفها داخل الحزب وخارجه؛ حزب ينتخب قيادته بطريقة ديمقراطية ويحاسبها بصورة علنية ويجددها بصورة تلقائية وباستمرار؛ حزب يوحد ولا يفرق، ويفتح أبوابه لكل الوطنيين الفلسطينيين ولكل المناضلين من أجل الديمقراطية ومن أجل الحرية والاستقلال ويعكس الدور النضالي للداخل وثقله في القرار السياسي الفلسطيني.
وأظن أن ليس بامكان كل قادة الفصائل والأحزاب الفلسطينية انكار وجود أزمة حقيقية بين الفصائل والناس العاديين. فواجب المتحمسين والمؤيدين والمبادرين على تأسيس (فدا) أن يدركوا سلفاً أن هذه الأزمة تعكس نفسها في نظرة وعلاقة الناس العاديين مع حزبهم (فدا) خاصة في مرحلة التأسيس. فضمور حجم الفصائل ونفور الناس من الانتماء لها ليس سوى تعبير عن عدم ثقة الناس بالتنظيمات الموجودة أمامها، وتعبير عن رفضها لسلوكها وممارساتها اليومية. وعدم الثقة هذه تجعلها تتساءل هل الحزب الجديد (فدا) جديد حقاً؟ أم أنه اسم جديد لجسم قديم جامد؟؟ وهل هذا التنظيم الجديد قادر على تفجير الانتفاضة التنظيمية الفلسطينية المطلوبة لمواكبة الانتفاضات الفكرية والنضالية التي حصلت في مسار النضال الوطني الفلسطيني؟ أم أنه سيقع في أسر القوانين والتقاليد الحزبية التي تحكمت في الأوضاع التنظيمية على امتداد ربع قرن من الزمن؟؟..
أسئلة كبيرة وكثيرة طرحها وجود هذا الحزب الجديد، وهي أسئلة الامتحان الحقيقي الأول لكل الديمقراطيين الحقيقيين وكل الفلسطينيين المتطلعين نحو الديمقراطية ومن ضمنهم المبادرين الى تأسيس (فد). وقبل الاعلان الرسمي عن وجود هذا الحزب الجديد، وبغض النظر عن مستقبله ومصيره، أظن أن من الانصاف القول أن هذه المحاولة الجريئة تستحق التقدير وأن هذا المولود الديمقراطي الجديد يستحق الحياة. واذا كان مستقبل الديمقراطية وحياتها في المجتمع الفلسطيني مسؤولية جماعية يتحملها كل المؤمنين والمنادين بصدق بدمقرطة وتجديد الفكر السياسي والتنظيمي الفلسطيني، ودمقرطة العلاقات الوطنية فإني أرى في مبادرة تشكيل الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني خطوة تجديدية في الاتجاه الصحيح، ودعوة عامة لتحمل المسؤولية.