فدا وقضية العمل السياسي الفلسطيني العلني في الداخل

بقلم ممدوح نوفل في 23/03/1993

يتواتر الحديث هذه الأيام عن قرب موعد الاعلان الرسمي عن تشكيل الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فد).ومع تواتر الحركة كثرت التساؤلات حول أشكال وجود ونشاط هذا الحزب في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. من هذه الاسئلة: هل نضجت الظروف لتكريس أشكال من العمل العلني للفصائل والقوى السياسية المنظمة؟؟ وهل موازين القوى بين الانتفاضة بقواها وانجازاتها وآفاق تطورها وبين الاحتلال قادرة على حماية مثل هذه الخطوة النوعية بتعبيراتها السياسية المتنوعة المتعددة؟؟ وهل من مصلحة وطنية في إقدام القوى السياسية على تكريس حضورها وممارسة نشاطاتها علناً أمام الاحتلال؟؟ ..
بغض النظر عن التباين في المواقف حول الفكرة، وبغض النظر أيضاً عن خلفيات ودوافع كل المواقف والآراء، فالتساؤل حول أشكال عمل ووجود فدا يفتح باباً لنقاش مسألة وطنية هامة هي مسألة علنية العمل السياسي الفلسطيني في الاراضي المحتلة في مرحلة الانتفاضة. وقبل الدخول في مناقشة هذه الاسئلة والاجتهاد في الاجابة عليها لا بد من التأكيد على ثلاث قضايا أساسية وهي:
أولاً) ضرورة التمييز بين العلنية والشرعية المستندة الى الشعب والمعتمدة على حمايته والمستمدة من الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال والمكفول في كل الشرائع السماوية، وكل المواثيق الدولية، بما في ذلك قرارات الشرعية الدولية، وبين أخذ ترخيص رسمي من الاحتلال. فالشرعية والعلنية المستمدة من الاحتلال تعني التقيد بتعليماته، والالتزام بأوامره والخضوع لقوانينه والاستسلام لارادته، والتورط في خدمة أهدافه غير الانسانية. أما الشرعية والعلنية الوطنية التي نتحدث عنها فهي انتزاع حق الوجود العلني وتكريس حق النشاط العلني وحشد وتنظيم قوى الشعب في مواجهة الاحتلال ومشاريعه ومخططاته بغض النظر عن موقفه ودون انتظار موافقته.
ثانياً) إن نقاش هذا الموضوع يتمحور بالاساس حول الانتفاضة وحول الطريقة المثلى في جني ثمارها وعدم تركها عرضة للتلف والضياع، وأيضاً توسيع نطاق انجازاتها وتكريسها كحقائق ووقائع مادية راسخة على الارض تفرض نفسها على الاحتلال لا تتأثر بتطور الظروف أو تغير الأحوال. فواجب القيادة السياسية النظر عدة خطوات الى الامام، ورؤية التطورات اللاحقة، وتوقع الاحداث المقبلة. والتقاط اللحظة التاريخية المناسبة للانطلاق بخططها الجديدة المستندة الى هذه الرؤيا المبكرة والمتقدمة. فهناك أمور لا يجوز الاعتماد على الزمن حتى يحلها. وهناك أمور لا يجو انتظار قدومها ووصولها الى تحت الارجل بل يجب التقدم لملاقاتها واختصار الزمن. وأعتقد أن مسألة فرض الوجود العلني للقوى الوطنية واحدة منها.
ثالثاً) إن العمل على بلورة مفهوم فلسطيني موحد حول علنية العمل السياسية في هذه المرحلة لا ينطلق من نقطة الصفر. وعليه أن لا يبحث في الحاضر والمستقبل بمعزل عن الانجازات التي تحققت في هذا المجال حتى الان. فالخطوات المطلوبة والتي يجري الحديث عنها هي في حقيقتها عملية تطوير للمستوى الهام الذي حققته القوى الوطنية الفلسطينية في تكريس علنية وجودها وعلنية نضالاتها ونشاطاتها حتى الان.
وفي معرض النقاش يمكن القول أن الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية المنظمة تمكنت بنضالاتها وتضحياتها من تحقيق بشكل مبكر (أوائل السبعينات) انجازات هامة على هذا الصعيد. أهمها انتزاع حق بناء النقابات والاتحادات النقابية والمهنية، والأطر الجماهيرية والاتحادات الشعبية. ويمكن القول أيضاً أن الانتفاضة بتضحياتها وتراكم انجازاتها خلقت موازين قوى جديدة بين الشعب الفلسطيني من جهة والاحتلال من جهة أخرى، وأنها فرضت قوانين جديدة في علاقة الصراع القائمة بين الطرفين، تختلف كلياً عن تلك التي كانت سائدة في السابق. وعلى أرضية هذه العلاقة الجديدة وأرضية موازين القوى الجديدة. قامت المجالس المتنوعة (اقتصادي، اسكان، زراعي، صناعي، نسوي، صحي..الخ)، وبنيت ونشطت الأطر والمؤسسات الشعبية والوطنية كافة وتعمل الآن بصورة رسمية وعلنية أمام سمع وبصر الاحتلال. ويمكن القول أيضاً أن موازين القوى التي صنعتها الانتفاضة هي التي مكنت وتمكن القوى الوطنية بمختلف فصائلها من القيام بالكثير من النشاطات السياسية والجماهيرية والنضالية المتنوعة بصورة علنية، وبدون اذن من الاحتلال بما في ذلك اقامة المهرجانات والاحتفال كفصائل وكقوى بالمناسبات الوطنية العامة والخاصة بما في ذلك الذكرى السنوية لانطلاقة كل منها. وعلى أرضيتها توفرت الحماية السياسية (النسبية القائمة) لكل الشخصيات السياسية الفلسطينية المعروفة بانتماءاتها التنظيمية. ولا أظن أن الاحتلال مثلاً لم يسمع بالمؤتمر الصحفي الذي عقده الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني (الشيوعي سابقاً) في القدس، وبصفته الرسمية. ولا أعتقد أن قادة وأركان الاحتلال سذجاً لدرجة أنهم يجهلون أن د. حيدر عبد الشافي والأخ فيصل يمثلون م.ت.ف في المناطق المحتلة، وأن زكريا الآغا وصائب عريقات وحسن أبو لبدة وساري نسيبة ينتمون لحركة فتح، وأن رياض المالكي ممثل الجبهة الشعبية وينتمي لها، وأن ابراهيم شيخة وسامي كيلاني وسمعان خوري وزهيرة كمال وسمير حليلة ينتمون للجبهة الديمقراطية / جناح التجديد، وأن علي أبو هلال يمثل الجناح الآخر.ولا أظن أن بروز عدد من الشخصيات الوطنية كممثلين لفدا يغير من الأمر شيئاً، أو يمكن النظر له كاستثناء، أو قيام فدا بنشاطات متنوعة في إطار الانتفاضة وأن الاعلان عن هذه النشاطات يعتبر عملاً خارقاً يؤديه الحزب في مواجهة الاحتلال.
وأظن أن لا خلاف على أن الواقع العلني للشخصيات والقوى الفلسطينية انجاز هام حققه الشعب الفلسطيني ودفع ثمنه تضحيات كبيرة. راكمه انجازاً فوق انجاز ولبنة فوق لبنة، ويستحق بالتأكيد تحصينه وتقويته بالاندفاع وبجرأة خطوات جديدة الى الأمام. ويخطيء كل من يتصور أن سكوت الاحتلال على هذا الواقع الجديد هو تعبير عن كرم أخلاق من الاحتلال، أو أنه هبة ومنّة تكرم بها الاحتلال على الشعب الفلسطيني. وذات الشيء أيضاً ينطبق على قرار الكنيست الاسرائيلي بالغاء الحظر المفروض سابقاً على الاتصال مع قيادة م.ت.ف، واضطرار القيادة الاسرائيلية أيضاً للجلوس على طاولة المفاوضات وجهاً لوجه مع الوفد الفلسطيني في مفاوضات السلام وضمن اطار مسار فلسطيني-اسرائيلي مستقل عن المسارات الأخرى.
وفي سياق الحوار حول علنية العمل السياسي الفلسطيني يطرح البعض تخوفات من أن يقود هذا الانتقال الى العلنية الى التخلي عن بعض اشكال النضال. إن التدقيق في ميزان القوى القائم الآن بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، والتمعن في العوامل والأسباب التي أرغمت القيادة الاسرائيلية على المشاركة في عملية السلام أظنه كاف لتبديد كل هذه التخوفات.. وتعرف القيادة الاسرائيلية ويعرف رعاة المفاوضات أن المفاوضات الفلطسينية-الاسرائيلية تجري وحالة الحرب مستمرة، والكل يعرف أنها سوف تستمر، طالما لم تتوصل الاطراف الى اتفاقات توقفها أو تبردها كحد أدنى عبر التوصل الى اتفاق يفك الاشتباك، وهذا هو منطق المفاوضات. وهذا ما أكدته وتؤكده التجارب القديمة والحديثة لكل الشعوب التي ناضلت ضد الاستعمار بأنواعه والتي نالت حريتها واستقلالها. والتي أكدت أيضاً امكانية انتزاع حق النضال السياسي، وحق العمل العلني المنظم، وارغام المستعمر على التعامل مع بعض الأشكال الأخرى كأمر واقع.
ولا نذيع سراً اذا قلنا أن منظمة التحرير الفلسطينية تعمل بدأب وبكل السبل المتاحة لتكريس حضورها الرسمي والعلني فوق الاراضي الفلسطينية المحتلة وفي مواجهة المحتل على طاولة المفاوضات. وأعتقد أن موازين القوى المحلية والدولية، وتطور الاوضاع على الارض الفلسطينية المحتلة وداخل المجتمع الاسرائيلي تجعل من هذه الفترة بالذات فرصة ولحظة مناسبة للاندفاع في هذا الاتجاه بالذات خطوة جديدة الى الأمام. وأعتقد أن عقد مؤتمر وطني فلسطيني موسع مثلاً يضم الوفد الفلسطيني وكل الشخصيات والفعاليات والقوى الفلسطينية، وممثلين عن كل الأطر والمؤسسات والنقابات والاتحادات الشعبية..الخ ينبثق عنها لجنة سياسية موسعة (لجنة توجيه وطني) تعلن عن نفسها باعتبارها لجنة لقيادة العمل الوطني الفلسطيني لحين الانتخابات تمثل م.ت.ف في المناطق المحتلة وتنفذ توجهات قيادتها، خطوة ضرورية الآن تساعد في فرض حضور م.ت.ف كمؤسسة على الارض الفلطسينية. وتوفر للانتفاضة قيادة سياسية تتولى مهمة معالجة بناء كل المؤسسات ومرتكزات السلطة الفلسطينية البديلة عن سلطة الاحتلال.
ومن هذا كله يمكن القول أن المبادرة للاعلان عن جود (فدا) والاعلان عن بعض رموزه، والاعلان اللاحق عن كل فعالياته ونشاطاته خطوة في الاتجاه الصحيح. وأظن أنها تساعده على دمقرطة أوضاعه الداخلية ودمقرطة علاقته بالناس وبالقوى الوطنية الأخرى. وتفسح في المجال لحشد طاقات جماهيرية واسعة في النشاطات الوطنية من أجل تحقيق الحرية والاستقلال وأعتقد أن مبادرة القوى الفلسطينية الأخرى لخطوات أخرى مشابهة مسألة حيوية لتجديد ودمقرطة بنية الحركة الفلسطينية وتطوير أشكال نشاطاتها الوطنية. وذلك يقود الى خلق وقائع جديدة على صعيد تكريس حق التعبير السياسي العلني عن الذات الوطنية الفلسطينية ويعزز الثقة بالمستقل للديمقراطية آفاق.

تونس