قوة الدفع الخارجية والذاتية تكفي لانعقاد جولة المفاوضات التاسعة

بقلم ممدوح نوفل في 07/03/1993

من البديهي القول أن استمرار عملية السلام وتواصل المفاوضات العربية والفلسطينية-الاسرائيلية مدة عام وأكثر، مكنها من امتلاك ومراكمة قوة دفع ذاتية ليست بسيطة، لم تتمكن أي من المحاولات الأمريكية أو الدولية السابقة من امتلاكها أو مراكمتها. فكل المبادرات لحل أزمات الشرق الأوسط والتي سبقت مبادرة بوش-بيكر 91، لم تعمر سوى أسابيع قليلة، وبعضها انتهى خلال أيام معدودة. باستثناء المفاوضات المصرية-الاسرائيلية التي تواصلت عدة سنوات بعدما توجهت نحو الحلول الثنائية المصرية-الاسرائيلي. فقوة الدفع الخارجية، الأمريكية خاصة والروسية والاوروبية والدولية عامة نجحت في وضع قطار السلام على سكته، ودفعته خطوات أولية للأمام. وبوضعه على سكته ودفعه دفعة أولية، نجحت في تشغيل مولدات طاقته الذاتية.
ومع تواصل العملية وغياب الجذب الخارجي السلبي تنامت طاقته الذاتية أكثر فأكثر وتابع تحركه الى الأمام. صحيح أن طاقته الذاتية لم تبلغ بعد ثمان جولات مستوى الاعتماد على الذات، الا أن من الخطأ تجاهل قيمة وأثر تواصل الدفع الخارجي. والظروف المحيطة الان بالأطراف المشاركة في المفاوضات والتي لم تجعل لها من خيار الا الاستمرار في العملية والاستمرار في المفاوضات. واذا كانت الاطراف لم تتوصل حتى الان وبعد عام ونصف من المفاوضات الى اتفاقات رسمية أولية، فالواضح أن جميعها راغب في متابعة المفاوضات بما في ذلك الطرف الفلسطيني. فهو في الوقت الذي يطالب بازالة بعض العقبات والنمغصات فانه متمسك بعملية السلام، ومصر على متابعة المفاوضات.
وبتفحص عناصر ومقومات قوة الدفع الذاتية التي راكمتها عملية السلام حتى الان يمكن تثبيت ما يلي:
أ) وقوع تحول جوهري في مواقف الأطراف من العملية ذاتها. فالمعروف أن جميعهم تقريباً ذهبوا الى مدريد شبه مكرهين وفي حلوقهم غصة. جاملوا الوزير بيكر وسايروه تجنباً لأذى قد يلحقه بهم. ولاحقاً عندما حاول شامير التعطيل وقام بمشاغبة حقيقية وجد نفسه خارج العملية وخارج السلطة. ومهما قيل أو يمكن أن يقال عن مواقف رابين وحلفاء العمل في السلطة، الا أن موضوعية التقييم تفرض القول أن صعود العمل وميرتس أعطى للعملية بعضاً من قوة الد_فع الذاتية، فهذا الصعود أزال في حده الأدنى قوة التعطيل التي كان يمتلكها تكتل الليكود. ومهما افتعل رابين من مشكلات مثل مشكلة الابعاد، ومهما تهرب من دفع الاستحقاقات المطلوبة من نوع اعادة المبعدين مثلاً، أظن أنه سيجد نفسه في مرحلة لاحقة من المفاوضات ملزماً بالموازنة بين اقواله المعسولة خارج غرف المفاوضات وبين سلوكه العملي داخلها، فهو يعرف أكثر من سواه أن السبيل لتنفيذ برنامجه، والحفاظ على وحدة حزبه ووحدة حكومته يكمن في استرضاء الراعي الأمريكي سيد رزقه بالاستمرار في المفاوضات وتقديم بعض التسهيلات لها.
وفي اطار تحول المواقف من المفاوضات، يمكن القول أيضاً أنه طال الجانب الفلسطيني والاردني والسوري ومعه اللبناني بنسبة أو بأخرى. فدراسة المشاريع التي قدمها الجانب الفلسطيني خلال ثمان جولات من المفاوضات، تشير الى تكون دوافع جديدة عنده غير التي دفعته للذهاب الى مدريد وللمشاركة في انطلاقة المفاوضات. وهذه الدوافع تعبر عن ذاتها في تنامي شعور فلسطيني، بأن الاستمرار في المفاوضات يفسح المجال لتحسين مواقعه في الصراع، وتحقيق انجازات أولية مرحلية تساعد في الوصول الى تقرير المصير والحصول على الاستقلال. وتساهم مباشرة في تحسين أوضاع وظروف الشعب الفلسطيني داخل وخارج الاراضي المحتلة. ومثل هذا التبدل في النظرة الفلسطينية الى عملية السلام وفي موقعها من المفاوضات أسهم بدوره في تمليك العملية قوة دفع ذاتية اضافية. اذ حرك الوضع الفلسطيني من حالة ووضعية الحركة والسير بقوة الدفع والضغط الخارجي الى حالة الرغبة في حركة ذاتية نشطة تدفع بالمسيرة السلمية خطوات للأمام. وذات الشيء أيضاً يمكن قوله عن الموقف الاردني.
أما الجانب السوري فمواقفه المعلنة منذ فترة تؤكد زوال التحفظات التي أبداها عند بدء المفاوضات، أما الأوراق التي تبادلها مع الوفد الاسرائيلي في الجولة السابعة والثامنة من المفاوضات فانها تظهر عمق التحول الذي طرأ على الموقف من العملية ومن المشاركة في المفاوضات حيث تتضمن أفكاراً تسهل الوصول الى اتفاقات. ولعل الموقف السوري الضاغط باتجاه التعجيل في استئناف المفاوضات، ودعواته قبل وخلال وبعد جولة الوزير بيكر الى الفصل بين قضية المبعدين والمفاوضات يشير الى قناعة سورية بأن العودة الى طاولة المفاوضات تحمل له معها امكانية جدية لتحقيق بعض الانجازات.
ب) الدخول في مناقشة القضايا الجوهرية، وتبادل الأطراف بعض الالتزامات. فالتدقيق في مجريات المفاوضات الثنائية في جولاتها الاخيرة يظهر بوضوح تجاوز حالة التردد والتحفظ التي طغت على مواقف مختلف الأطراف في بداية المفاوضات. ومع تجاوز التردد والتحفظ تكشفت بعض المواقف الحقيقية التي كانت مخفية عن طاولة المفاوضات. وبانكشافها تحولت الى شيء من الالتزامات. وجاءت جولات عمل المتعدد الاطراف لتزيد من وضوح المواقف، ولتقدم بعض الاطراف أشكالاً متنوعة ومتعددة من المغريات المشجعة على الاستمرار في المفاوضات والسعي للتوصل الى اتفاقات. وبهذا يمكن القول أن ما طرح حتى الان في الثنائي والمتعدد الاطراف أرسى أرضية صالحة لتوسيع وتطوير فعل قوة الدفع الخارجي، وأعطى للعملية ذاتها أوليات هامة من ميكانيزم خاص، ووفر لها آلية عمل اسهمت في تكوين قوة دفع ذاتية متنامية باستمرار.
والان وعلى أبواب الجولة التاسعة من المفاوضات يمكن القول أن هذه الخصائص وغيرها من الميزات الاخرى شكلت حتى الان سوراً قوياً حمى المفاوضات، ومنع الاطراف المشاركة من الذهاب بعيداً ومن تجاوز المحرمات. وأنها أرست الأسس اللازمة وتمهد الطريق أمام استئناف الجولة التاسعة والعاشرة من المفاوضات، وابقاء منطقة الشرق الأوسط تعيش عاماً آخر على وقع مسار المفاوضات. واذا كان عدم توصل الأطراف حتى الان الى اتفاقات رسمية أولية يبقي قوة الدفع الخارجي (الأمريكية والدولية) العنصر الحاسم في اعادة الاطراف الى طاولة المفاوضات في نيسان القادم، فالمرجح حسب ما طرحه الوزير وارن كريستوفر في جولته على دول المنطقة أن تتمكن العملية في الجولات اللاحقة من تعزيز طاقاتها الذاتية وتصبح أكثر قدرة في الاعتماد على الذات.
فالمفاوضات عبرت عامها الأول وهو الأعقد والأصعب. واستطاعت الصمود أمام حوادث وتقلبات سياسية ودولية واقليمية كبرى (سقوط الليكود وصعود العمل، سقوط بوش ونجاح كلينتون، ابعاد بالجملة..الخ). وأظن أنها في حالة استئنافها ستكون أكثر مناعة وأكثر قدرة على تحمل الصدمات. واذا كانت الاحداث والتطورات السياسية المتلاحقة أثرت على مسار قطار السلام، وأبطأت حركته وعطلت وصول الاطراف الى اتفاقات ملموسة حتى الان، الا أن من الخطأ عدم رؤية أو تجاهل تأثير عملية السلام على مسار الاحداث حيث لجمت بعضها وحجمت سلبيات بعضها الاخر. وأعتقد أن الخصائص والميزات التي تمتلكها العملية بما في ذلك قوة الدفع الخارجية والذاتية قادرة على منع رابين من الابقاء على قضية المبعدين قضية وعقبة كأداء تعطل استئناف المفاوضات. وهي ذاتها التي سترغمه على تسريع عودة المبعدين وفكفكة خيام مخيم مرج زهور.
ولا حاجة لأن يكون الانسان نبياً حتى يقول أن رابين يفاوض العرب، يجلس معهم في غرف المفاوضات لكن عقله وذهنه وعينه شاردة نحو البيت الأبيض ونحو المساعدات العسكرية والاقتصادية التي ينتظر أن يحصل عليها مقابل تسهيل استئناف الجولة التاسعة وتسهيل بعض التقدم نحو السلام.

تونس –