لا سلام ولا استقرار بدون القدس وترتيبات المرحلة الانتقالية تصدم بها في كل المجالات
بقلم ممدوح نوفل في 11/04/1993
تفيد المعلومات الواردة من واشنطن أن قضية القدس قد سيطرت على أعمال الاسبوعين الماضيين من المفاوضات، وأنها كانت حاضرة في كل اللقاءات والمباحثات التي عقدها الراعي الأمريكي مع الوفد الفلسطيني وأنها فرضت نفسها على كل الاجتماعات التي عقدت بين الوفدين الفلسطيني والاسرائيلي، حتى أن روبنشتاين اتصل ذات مساء مع رئيس الفريق الفلسطيني ورئيس الوفد وأبلغهما أن مواصلة طرح مسألة القدس قد تدفع الوفد الاسرائيلي الى تعليق المفاوضات، وتهدد بتفجير هذه الجولة. أعتقد أن لا حاجة لأن يكون الانسان عبقرياً حتى يتنبأ بأن قضية القدس سوف تفرض نفسها أكثر فأكثر خلال ما تبقى من هذه الجولة، وأنها سوف تزداد حدة كلما اقترب المتفاوضون من أية اتفاقات.
صحيح أن قرار القيادة الفلسطينية وتعليمات لجنة متابعة المفاوضات نصت على ضرورة وضع قضية القدس على رأس أولويات الجولة العاشرة، لكن الصحيح أيضاً أن مسار المباحثات والمناقشات حول إقامة الحكم الفلسطيني الانتقالي، وحول ترتيبات نقل السلطة اصطدمت بقضية القدس في كل الممرات والمجالات دون استثناء. فعند الحديث عن انتخاب السلطة الفلسطينية الانتقالية انبرت القدس لتطرح دورها في هذه الانتخابات، وعند الحديث عن نطاق سلطة السلطة الفلسطينية اصطدم الوفدان بتعريف حدود بلدية القدس، وذات الشيء حصل عندما بحثت مجالات التعليم والصحة والضرائب وسواها من المجالات. واذا كانت قضية الأمن والمستوطنات عقدات أساسية فالأمن والاستيطان في القدس أعقب العقبات.
وبغض النظر عن رأي الراعي الأمريكي وعن التفسير الاسرائيلي لكتب الدعوة ورسائل التطمينات، فالثابت أن القدس باتت من الآن ولاشعار آخر قضية مركزية مطروحة ومفروضة على طاولات المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية والفلسطينية-الأمريكية والأمريكية-الاسرائيلية. وأعتقد بأنه لم يعد بإمكان روبنشتاين الهروب من مناقشة الموضوع أو اغلاقه من جانب واحد حتى ولو لجأ لاطلاق التهديدات بتعليق المفاوضات. وأظن أن ليس بمقدور رابين ولا الشريك الكامل ولا الراعيان القفز الآن من فوق المتاريس والحواجز القوية التي أقامتها قضية القدس في كل طرق ومسارات المفاوضات. واذا كان بإمكان رابين إصدار الأوامر بإغلاق القدس في وجه أهلها وبإمكانه تكليف جيشه بعزلها عن بقية الضفة والقطاع، فالمؤكد أن الأمر مختلف كلياً في سياق المباحثات وداخل غرف المفاوضات. لا شك أن بإمكان رابين وروبنشتاين وكل الوفد الاسرائيلي أن يطلقوا ما يشاؤون من تصريحات وأن يتخذوا ما يشاؤون من مواقف لكنهم يعرفون أن ذلك كله لن يغلق الموضوع ولن يمنع الوفد الفلسطيني من إثارته والاصرار عليه في كل جلسة من جلسات المفاوضات.
ولعل من المفيد أن يدرك كل المهتمين بصنع السلام والاستقرار في المنطقة أن كل تلكؤ أو تهرب من بحث قضية القدس يؤدي حتماً الى مزيد من تأخير تقدم المفاوضات على كل المسارات، ويعطل التوصل الى أية اتفاقات بما في ذلك الاتفاق على إعلان المباديء الذي تسعى الادارة الأمريكية الوصول له في نهاية هذه الجولة من المفاوضات..
وأظن أن ليس عاقلاً كل من يتصور أن القيادة الفلسطينية وكل هيئات م.ت.ف مستعدة أو بامكانها منفردة أو مجتمعة القفز عن موضوع القدس في المرحلة الانتقالية، أو أن الوفد الفلسطيني يمكنه أو لديه ذرة من الاستعداد لبحث أية ترتيبات لاقامة سلطة فلسطينية انتقالية لا يشارك أهل اقدس في إقامتها أو لا يتمثلون فيها. والجانب الفلسطيني بهذا الموقف لا يفتعل المشكلات ولا يسعى لتعطيل المفاوضات أو خرق أسس الدعوة أو تجاوز ما ورد في رسائل التطمينات. صحيح أن كتاب الدعوة لمؤتمر مدريد أجل البت بوضع القدس للمرحلة الثانية، لكن ذات الكتب أعطت لكل طرف الحق في إثارة القضايا التي يريدها. ويعرف شامير وبيكر أن هذه العبارة وضعت لمعالجة مسألة القدس في مفاوضات المرحلة الانتقالية ونصت في مجال آخر “أنه لا يحق لأي طرف القيام بأية أعمال تؤثر على مفاوضات المرحلة النهائية”. واذا كان البت بالوضع النهائي للقدس هو المؤجل، فدورها في بناء السلطة الفلسطينية، وموقعها في إطار ترتيبات نقل السلطة معجل. ولا يمكن لأي حكم أو راعي موضوعي لوم الجانب الفلسطيني على موقفه العادل والمشروع، خاصة وأن كل المراقبين والمشاركين والراعيين لعملية السلام يقرون ويعترفون بأن الضربات الاستباقية التي قام بها شامير وشارون وتلك التي تبعتها في عهد رابين هي خروقات فجة لأسس وقواعد عملية السلام؛ وأن مواصلة الاستيطان في القدس ومواصلة تغيير معالمها وتوسيع حدودها البلدية، ومحاولات فصلها وعزلها عن باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة خطوات واجراءات تتناقض ليس فقط مع نصوص وأسس عملية السلام بل وأيضاً مع أهدافها الجوهرية والكبرى.
واذا كان رابين مسؤولاً عن فتح موضوع القدس، فخطأه الحالي ينحصر في نطاق الاسلوب التفجيري والتعقيدي والتصعيدي الذي أثار فيه هذا الموضوع. أما خطيئته الكبرى فهي جزء من خطيئة تاريخية ارتكبتها كل القيادات الاسرائيلية عندما أقدمت في حزيران 67 على ضم القدس من جانب واحد وعندما شرعت في تغيير معالمها وتوسيع حدودها وبناء أضخم وأكثف المستوطنات فيها. وعندما تحدت كل قرارات الشرعية الدولية التي رفضت وأدانت ضم القدس لاسرائيل، ورفضت كل تغيير في حدودها البلدية ولا زالت تعتبرها باطلة حتى الآن. فكل مبتديء في علم المفاوضات، وفي المعرفة بتاريخ المنطقة وبموقع القدس وما ترمز اليه عند الفلسطينيين وعند كل العرب والمسلمين والمسيحيين في العالم يدرك أن اصرار اسرائيل على التمسك بضم القدس ومواصلة تغيير معالمها وحدودها البلدية وإصرارها على خطأها عام 67 سيؤدي آجلاً أو لاحقاً الى نسف مفاوضات السلام ووضع كل منطقة الشرق الأوسط على فوهة بركان وزجها في صراعات أثنية وطائفية مدمرةا أولها قد يكون معروف ولكن آخرها مجهول.. ويخطيء كل من يعتقد أن منطقة الشرق الأوسط بإمكانها أن تشهد الأمن والاستقرار اذا لم تستقر أوضاع هذه المدينة المقدسة.
واذا كان لا لزوم في هذا المقال للاسترسال في الحديث عن تاريخ المنطقة وارتباطه بتاريخ القدس، فالمؤكد أن اضطراب وضع القدس أدى دوماً الى اضطراب في كل محيطها. وأن استقرارها واستتباب أوضاعها كان يؤدي دوماً الى استتباب واستقرار الأوضاع في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر والجزيرة العربية.. وليس عسيراً أيضاً على كل من يراجع تاريخ عمليات البحث عن السلام الفلسطيني-الاسرائيلي والعربي-الاسرائيلي والتي جرت منذ عام 1950 وحتى الآن أن يتعرف على عدد المرات وعدد المحاولات التي تعطلت فيها عمليات البحث هذه بسبب قضية القدس. فالكل يتذكر أن وضع مدينة القدس كاد أن ينسف مفاوضات واتفاقات كامب ديفيد، وأن المباحثات حول الحكم الذاتي بين مصر واسرائيل عام 78-81 تعطلت وكانت القدس سبباً رئيسياً في ذاك التعطيل. وأن الأمر سُوي مؤقتاً بين الطرفين من خلال رسائل أرفقت بالاتفاقات وأودعت عند الادارة الأمريكية، وأن تلك التسوية المؤقتة لم تصنع السلام الشامل ولم تجلب الاستقرار للمنطقة. حيث كتب السادات في حينها رسالة للشريك الأمريكي قال فيها “إن مصر تعتبر القدس العربية جزء من أراضي الضفة الغربية المحتلة وأن ما ينطبق على الضفة الغربية ينطبق على القدس”. وفي حينها رد بيغن في رسالة مماثلة قال فيها “إن قرار الكنيست الاسرائيلي بتاريخ 28 حزيران 67 نص على أن القدس عاصمة دولة اسرائيل وأنها مدينة موحدة وغير قابلة للتقسيم”. أما رد الرئيس كارتر على هذه الرسائل فكان “بأن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من مدينة القدس باق على ما هو ولا يعترف بضم القدس لاسرائيل”.