ما بعد الضيق الا الفرج وما بعد الانفصال الاقتصادي إلا إنفصال سياسي

بقلم ممدوح نوفل في 10/04/1993

يروى عن موشي دايان أنه قال في معرض الرد على بعض الاسرائيليين الذين هللوا لاحتلال الضفة والقطاع عام 67 “ما تحقق انجاز عظيم، ولكن لا تتسرعوا، ولا تنسوا أن هذه المناطق قد تتحول في يوم من الايام الى جمرة في كف اسرائيل اذا لم نتوصل الى سلام مع الفلسطينيين”. والآن وبعد ما يزيد على ربع قرن على هذا الكلام الاستراتيجي وعلى احتلال الضفة والقطاع والقدس، يقف رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين شريك دايان في صنع ذلك “المجد لاسرائيل” ليقول “لا حل للارهاب ولا وقف للعنف الا بالانفصال بين اسرائيل وسكان المناطق المحتلة”. ويقف قائد الشرطة الاسرائيلية على شاشة التلفزيون ليدعو كل المسلحين من الجمهور الاسرائيلي الى حمل أسلحتهم بصورة دائمة للدفاع عن أنفسهم، ويقف يوسي سريد في ذات الفترة في لندن ليوجه من هناك نداءً للفلسطينيين يقول فيه: “ساعدونا لنتخلص من الاحتلال”..
بالتمعن في هذه الاقوال، وبتفحص ما يجري على الارض وداخل المجتمع الاسرائيلي يستطيع كل مراقب محايد وكل متابع لمواقف الحكومة الاسرائيلية في هذه الأيام أن يقول أن القيادة الاسرائيلية مصابة بارتباك شديد وبمرض انفصام الشخصية، وأن اسرائيل تعيش هذه الأيام حالة من الهستريا الجماعية، وأن هذه الحالة تطال كل قطاعات الشعب وكل الأحزاب والمسؤولين فيها وعلى كل المستويات بما في ذلك رموز وقادة قوى السلام التي انجرفت مع التيار وصدقوا بأن “أبو سكين” و “أبو بلطة” ينتظرهم على باب الدار فحمل بعضهم السلاح، وهرع الآخر الى المحلات المتخصصة لشرائه..!! علماً بأنهم يعرفون حجم المبالغة والتضخيم في حديث الحكومة عن “أبو بلطة” و “أبو سكين”، ويعرفون أن حوادث الطرق في اسرائيل (وليس أبو بلطة) تتسبب في مقتل ما يزيد عن عشرة اسرائيليين في اليوم الواحد.
وبغض النظر عن النوايا والأهداف الحقيقية لرابين من ادخال الانتفاضة الفلسطينية الى كل بيت اسرائيلي ومن خلق “بعبع” فلسطيني اسمه “أبو سكين” ومن “تفزيع” المجتمع الاسرائيلي بما في ذلك الكتاب والمفكرين من الشيطان الرجيم..! الذي اسمه الانتفاضة والشعب الفلسطيني!! فالنتيجة العملية المرئية لهذه التعبئة سوف تكون شحن وتأجيج الحقد والكراهية في صفوف الشعبين، وتشكيكهما بجدوى عملية السلام الجارية، وبمستقبل التعايش السلمي مع بعضهما البعض. واذا كان لكل شيخ طريقته ولرابين طريقته في ترويض المجتمع الاسرائيلي على ما يريد ويرغب فإن تواصل مثل هذه التعبئة ولو لفترة قصيرة ينذر بعواقب وخيمة على وضع المنطقة ويضعها أمام مقدمات حرب عرقية قد تكون أكثر دموية ومأساوية من تلك التي تعيشها الآن شعوب يوغسلافيا القديمة وبعض شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. فاللجوء الى زيادة عدد أفراد الشرطة واللجوء للقمع والقتل والارهاب لا يخلص اسرائيل من احتلالها للضفة والقطاع كما يطالب يوسي سريد، ويضع أقواله في خانة الديماغوجيا والدعاية الاعلامية؛ ومنع العمال الفلسطينيين من العمل وقطع أرزاق ما يزيد على مائة ألف أسرة قد يحقق الانفصال الاقتصادي الذي يدعو له رابين، والذي يتمناه الفلسطينيون منذ سنين. ولعل من المفيد القول أن تطبيق رابين لهذا الانفصال بالطريقة التي يتم فيها الآن ومن جانب واحد، يجعله انفصالاص دامياً.. فالحكمة الشعبية تقول “الجوع يكفر المرء بخالقه”، ولا عجب اذا خرج جائع حاملاً سيفه في وجه من يجوعه ويحرمه من قوته اليومي. وهذا النمط من الانفصال يجعل من حديث رابين اعلان “حرب التجويع” ضد الفلسطينيين ويبقيه حديثاً يدور في دائرة المتمسك باستمرار الاحتلال، ونتيجته الحتمية سوف تكون تعزيز نبوءة دايان بعدما تحول الاحتلال الى جمرة حارقة في كف اسرائيل. فمن يدعو الى الانفصال الاقتصادي بين الاراضي الفلسطينية المحتلة وبين اسرائيل عليه أن يستكمل خطوته بذات الاتجاه بدعوة المستوطنين في غوش قطيف في قطاع غزة، ومستوطني الضفة الغربية بفصل التيار الكهربائي الواصل الى مستوطناتهم واغلاق بيوتهم ومزارعهم ومشاريعهم الاخرى والعودة الى اسرائيل.. وعليه استكمال حديثه بالقول أن هذا الانفصال الاقتصادي ليس سوى مقدمة لانفصال سياسي وانهاء الاحتلال. وعليه قبل هذا وذاك فتح قيوده وسجلاته لتصفية الحساب، وفي مقدمته حساب ما تم استقطاعه من عرق وجهد العمال، وحساب ما تم أخذه من ضرائب من الناس، وحساب ما تم نهبه من داخل وفوق الأرض الفلسطينية طيلة سنين الاحتلال.
أما دعوات تأديب الفلسطينيين بقتلهم، وإعطاء أوامر صريحة للجيش الاسرائيلي بإطلاق الرصاص دون سابق انذار كما ورد في الامر اليومي لوزير الدفاع، ودعوة الشباب الاسرائيلي للتدرب على أعمال العنف ودعوة المسلحين لحمل السلاح كما جاء في بيانات قادة الشرطة الاسرائيلية وأركانها، فهي تعبير عن تنامي ظاهرة التطرف والارهاب في الفكر السياسي الاسرائيلي، وتعيد الى الذاكرة الفلسطينية صور مجازر دير ياسين وقبية، وقلقيلية ويالو وعمواس والسموع، ومجازر صبرا وشاتيلا.. وتستنفر عند الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه غريزة الدفاع عن الوجود وتدفعهم للتفكير في أفضل السبل لحماية هذا الوجود. ومثل هذه الدعوات ينطبق عليها مثلنا الشعبي القائل “من جرب المجرب عقله مخرب”، فمثل هذه الأساليب والوسائل جربت على مدى ربع قرن، وكنا نظن ان البعض اقتنع بعقمها وفشلها في قتل طموح وتطلعات الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال وأن المشاركة في صنع السلام تمت بعد دفن كل هذه الأفكار!!.
وبغض النظر عما تفكر به القيادة الاسرائيلية في هذه الأيام وبغض النظر أيضاً عن الخطوات السياسية أو العسكرية التي سيتخذها رابين بعد هذه الحملة التعبوية الهستيرية فالواضح أن الازمة العميقة والمستفحلة بين قوى الاحتلال والشعب الفلسطيني قد بلغت ذروتها، وأن العلاقة بين الطرفين قد وصلت درجة القرف المتبادل بلغ حد عدم القدرة على التواجد في المكان ذاته. وأن القطيعة والانفكاك والانفصال بي الطرفين أمر واقع لا محالة طال الزمن أم قصر، وأن زمن ترسيمه في المحافل الدولية ليس ببعيد. وأعتقد أن نسبة كبيرة من الاسرائيليين باتت مقتنعة بأن الاسراع والتعجيل في ذلك هو الأفضل للطرفين. فالعقلاء من الناس يعرفون أن في الحياة أمور تترك لتأخذ مداها الكامل ومن المفيد الاعتماد على عامل الزمن في حلها. وهناك أمور أخرى لا يمكن تأجيل حلها، ولا يستطيع الزمن معالجتها، وحلها يتطلب شجاعة واتخاذ قرارات حاسمة. ولا شك أن الانفصال السلمي المنظم بين الشعبين وإنهاء احتلال اسرائيل لأراضي الغير أمور تتطلب قرارات شجاعة والزمن وحده عاجز عن حلها. فهل سيتخذ رابين القرار الصحيح في الوقت الصحيح؟ بتحويل عملية التخويف من البعبع الفلسطيني ومن الدعوة للانفصال الاقتصادي ومن عملية إعادة الاحتلال الجارية الآن للضفة والقطاع الى عملية تهيئة للرأي العام الاسرائيلي لخطوات سياسية جريئة سيتخذها في الجولات القادمة من المفاوضات تمهد لانهاء الاحتلال وتزيل سلطته وتمهد لقيام السلطة الفلسطينية الانتقالية؟ هذا سؤال. وهل ستبادر حركة السلام الآن الاسرائيلية الى التجاوب مع نداء العقل والسلام وحمل المواد التموينية للجوعى من أبناء القطاع المحاصر بدلاً من حمل السلاح استجابة لنداء قائد الشرطة الاسرائيلية؟ وهل سيرفعوا أصواتهم قائلين أن إطالة أمد الاحتلال يؤدي الى تفاقم الصراع ويعمق الحقد والكراهية أكثر فأكثر، وأن تأخر التسوية يقود الى قتل المزيد من الناس؟ وهذا سؤال آخر.
وبغض النظر عن الجواب العملي الذي سيعطيه هذا الطرف أو ذاك من الاسرائيليين، فجغرافيا الارض الفلسطينية تقول “بعد كل طلوع نزول” ومسار الصراع الجاري الآن على أرضها يقول ان الاحتلال قد استنفذ كل الصعود وبلغ القمة وأن المسارالوحيد المفتوح أمامه هو التوجه نحو النزول. ولا أظن أن بإمكان القيادة الاسرائيلية الاستمرار في السباحة عكس تيار حركة التاريخ وأن الانتفاضة والسياسة الفلسطينية الواقعية، وكل العوامل المحلية والاقليمية والدولية التي أرغمت الليكود وشامير على الدخول في عملية السلام قبل عام قادرة الآن على إزالة كل العقبات التي زرعها رابين في طريق المفاوضات وكافية لتأمين انعقاد الجولة التاسعة ودفع المفاوضات خطوات جديدة الى الأمام. وقديماً قالوا “من بعد الضيق يأتي الفرج”، ومنطق الصراع الجاري يقول بعد هبوب رياح الانفصال الاقتصادي ستهب حتماً رياح الانفصال القانوني والسياسي…

عضو المجلس المركزي الفلسطيني
تونس