أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية والحوار الوطني الشامل
بقلم ممدوح نوفل في 14/07/1993
يكثر الحديث في الأوساط الفلسطينية وتتزايد الدعوات هذه الأيام حول ضرورة الشروع في حوار وطني شامل يلملم أوضاع البيت الفلسطيني، ويعالج الأزمة العامة التي يعانيها العمل الوطني الفلسطيني منذ مدة، ويعالج القضايا والمشاكل التي يعيشها الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه. فالانتفاضة جاءت وأعلنت نهاية مرحلة وبداية أخرى من النضال الوطني الفلسطيني، وهي بكل عظمتها حملت معها هموماً ومسائل وطنية جديدة ومتنوعة قذفتها دفعة واحدة على الجميع دون استثناء. وفي الوقت ذاته كشفت أبعاد وأعماق الأزمة البنيوية القديمة الكامنة في الفصائل فرادى ومجتمعين في إطار منظمة التحرير أو خارجها. وبغض النظر عن طبيعة الصلة بين الانتفاضة ومفاوضات السلام فالمؤكد أن المشاركة الفلسطينية في الثانية فجرت الخلافات التي تعيشها الساحة الآن وأضافت للأزمة الموجودة أصلاً عناصر جديدة، وضغطت بقوة على م.ت.ف وكل الفصائل الفلسطينية ودفعتها باتجاه إعادة تنظيم وصياغة علاقاتها مع بعضها البعض.
وعند التدقيق في مضامين النقاش الجاري حول الحوار الوطني المعلن وغير المعلن نجده متباين في الدوافع والمنطلقات، ومتنوع في الأهداف والغايات، بعضه يتمحور حول قضايا جوهرية وبعضه الآخر يندرج تحت بند تفاصيل ومتفرقات. أما وتيرته فترتفع أحياناً وتهبط أحياناً أخرى، ولعل أعلى وتيرة وأسخنها مع الأسف الشديد هي تلك التي تجري حول القوى المعنية بهذا الحوار!! فهناك من يعرف الشامل على أنه كل الفصائل دون استثناء (الاسمي والفعلي)، وهناك من يعرفه بالفصائل العشرة وفصائل م.ت.ف، وهناك من يتصور الشمولية بأنها محصورة في فصائل م.ت.ف ومعها حركة حماس. أما الداخل فمفهوم الشمولية مختلف عن هذا وذاك. ويعرفه على أنه حوار مع كل الناس، تديره وترعاه وتوجهه منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب.
أما بشأن قضايا البحث والنقاش، فالدعوات والأحاديث الخاصة والعامة تبين أن هناك خلافات وتباينات ليست بسيطة ولها مدلولات هامة. فالداخل يطرح قضايا الانتفاضة والوحدة الوطنية وهمومها وكل قضايا الناس كقضايا لها الأولوية على سواها، وهناك في الخارج من يقدم مسألة المشاركة في المفاوضات على ما عداها من قضايا وموضوعات وهناك من يبسط الأمور ويرى في الحوار الوطني البلسم الشافي من الأزمة ومن كل المشكلات، يقابله من يعقد الأمور ولا يرى أملاً يرجى من مثل هذا الحوار ولا فائدة منه، ويعتقد أنه سوف يضيف على المشكلات القائمة مشكلات ومشكلات، ويرى أن الشعب في غنى عنها الآن وعنده ما يكفيه من الهموم والمشاكل ويزيد عن طاقته.
وبغض النظر عن كل هذه الخلافات والتعارضات والتباينات، أعتقد أن المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تستوجب إجراء حوار وطني شامل، وأن يكون هذا الحوار حواراً ذا مضمون وأن يكون شاملاً بحيث يكون ديمقراطياً يبدأ بأخذ رأي الشارع الفلسطيني وتشارك فيه كل القوى وكل الفعاليات الاجتماعية والمؤسسات إضافة للفصائل الفاعلة في صفوف الشعب الفلسطيني، وذات النشأة والولاء والارتباط الحقيقي بفلسطين. وأعتقد أن وضع أية شروط مسبقة على البدء بالحوار يتعارض مع المصالح العليا للشعب والوطن، ويعبر عن عمق الأزمة الكامنة في فصائل العمل الوطني الفلسطيني وخاصة عند أصحاب الشروط، ويكشف بوضوح عن الفقر المدقع والنقص الفاحش للديمقراطية، وعن مدى التردي في العلاقات وفي الأوضاع الداخلية، ويظهر ميلاً حاداً نحو وأد الديمقراطية ومحاولة شطبها كأساس لبرمجة الحوارات ولتنظيم العلاقات. ويبين في الوقت ذاته استمرار الطموح والجنوح عند هذا الفصيل أو ذاك المحور الفصائلي بفرض الوصاية على المسيرة الفلسطينية ومحاولة تنصيب الذات على رأس الشعب دون موافقته ودون أخذ رأيه وبطرق غير ديمقراطية أقرب الى السلبطة واغتصاب السلطة.
وأعتقد أن معالجة الوضع الفلسطيني الحالي وفكفكة عناصر الأزمة وفصلها عن بعضها البعض، والاستعداد لمواجهة القادم المنتظر-القريب منه أو البعيد يفرض على الجميع تحمل مسؤولياتهم الوطنية، وإجراء مراجعة للمواقف، والخروج من الخنادق، ونبذ التمترس حول هذا الموقف أو ذاك، ولا شك أن تعزيز الديمقراطية الداخلية وفي العلاقات مع الناس، واعتماد أسلوب المكاشفة الصريحة يسهم في حل العديد من الاشكاليات التي لا زالت تعيق الانطلاق نحو حوار مفيد وبنّاء. ولعل بعض ما ينشر وبعض ما يقال همساً هنا أو هناك داخل هذا الفصيل أو ذاك، داخل الأطر وخارجها يظهر نزوعاً وميلاً متزايداً نحو تكسير قيود الرقابة الذاتية المزيفة من حول العديد من القضايا والموضوعات التي كانت تعتبر سابقاً من الممنوعات، ومن حول تلك التي كانت تندرج تحت المحرمات.
فالجميع يقر ويعترف بوجود الأزمة، والتباين الحاصل لا يمس ولا ينكر وجودها، وإنما يحوم ويدور حول عمقها وحول حدودها وحول جذورها وأسبابها. فالبعض يعزوها لعوامل خارجية محملاً الامبريالية العالمية والرجعيات المحلية المسؤولية، والبعض الآخر يتجرأ أحياناً ويضيف بعض العوامل والعناصر الذاتية. ولا أظن أن أحداً ينكر أن المتغيرات الدولية والاقليمية التي وقعت في السنوات الأخيرة، قد حركت الوضع الاسرائيلي وحركت القضية الفلسطينية ووضعتها على أبواب مرحلة جديدة تختلف نوعياً عن تلك التي جمدت عندها أربع عقود كاملة. ولكن غير العاقل وحده والهارب (للأمام أو للخلف) من مواجهة الحقيقة هو الذي لا يرى التطورات الكبيرة التي وقعت في بنية المجتمع الفلسطيني خلال ربع قرن من الزمن والتي طبعت بصماتها بالتدريج على الأوضاع الداخلية للحركة الوطنية الفلسطينية وضغطت بمتطلباتها عليها. وأعتقد أن هذه المتغيرات والتطورات الداخلية والخارجية وضعت كل القوى الفلسطينية فرادى ومجتمعة أمام خيارات صعبة ومعادلات شددة التعقيد، فإما المبادرة لتطوير الذات في مختلف المجالات وعلى كل المستويات للتمكن من مواكبة الأحداث والتفاعل مع التطورات والمتغيرات الدولية والاقليمية المتلاحقة والجارية بتسارع شديد، واما التحول بشكل تدريجي الى تيار معزول يسير في اتجاه والشعب وقضيته الوطنية يسيران في اتجاه آخر، هذا لم يتحول بعضها الى تاريخ والبعض الآخر الى عقبات تقف حجر عثرة أمام تحقيق مصالح الشعب وتحسين أوضاع الناس العاديين وهم الاغلبية. وأعتقد أن الحوار الوطني المطلوب ليس غاية بحد ذاتها، وليس شعاراً يرفع لتجميع بعض القوى، وتعبئة التنظيمات وشحن الذات بالطاقات، بل وسيلة وآلية عمل تعتمد لبلوغ التطوير المطلوب على البرامج والمهمات الوطنية العامة، وللتدقيق أيضاً في النواقص والثغرات المعيقة لحشد الطاقات والمعطلة لتطوير أشكال النضال بهدف تطويرها وتغييرها واصلاح ما يمكن اصلاحه. وأعتقد أن لا فائدة ولا جدوى من الحوار سواء كان شاملاً أو ناقصاً، مقلصاً أو موسعاً، ديمقراطياً أو غير ديمقراطي اذا تحول الى مهرجان تستعرض فيه عضلات الأسن وقوة أوتار الحناجر أو منبراً للتباري في القاء (فقع) الخطب الرنانة العصماء قصيرة كانت أو طويلة.. أو ميداناً لطرح ديباجات مطولة أو مقصرة عن المواقف القديمة المعروفة، وعن ضرورات الصمود وأهمية تقديم المزيد من التضحية والعطاء، أو التشديد والاكثار من تقديم النصائح بقيمة التمسك بالثوابت الوطنية.. أو تنصيب الذات ناطقاً باسم الشعب والاكثار من الحديث عن المزاج الشعبي والذي اصبح يفصل هذه الايام حسب المزاج وبما يخدم المواقف الذاتية وليس كما يعبر حقيقة عن مصالح الناس.
وأعتقد أن مثل هذا الحوار لن يكون مفيداً بل قد يلحق بعض الأذى الوطني اذا جرى التعامل معه باعتباره مناسبة ثمينة لتأكيد وجود الذات، ووسيلة لتحقيق بعض المكاسب التنظيمية الخاصة في هذه المسألة أو تلك في هذا الموقع أو ذاك أو اذا كان الهدف منه تقاسم السلطة القائمة أو القادمة وتوزيع المغانم، وإعادة توزيع الكوتات بين الفصائل، وتم القفز (في النتيجة) عن المسائل الجوهرية المتعلقة بالقضية وذات الصلة بقضايا وهموم ومشكلات الناس. وأيضاً اذا كانت النتائج سواء أكانت قرارات أو توصيات متعارضة أو بعيدة عن القضايا الجوهرية المطروحة على بساط البحث والنقاش. وبالتدقيق في الخطوات العملية التي بادر بها مؤخراً هذا الطرف أو ذاك يمكن القول أنها حتى الآن شكلية ولا تخرج عن إطار البحث عن سبل امتصاص التوترات القائمة، ومحاولة تعطيل تصاعد الاشكالات وتأخير واندفاع الخلافات نحو القطيعة الكاملة ومنع وصولها الى الطلاق.. وهي في جوهرها ومضمونها لا تمتاز كثيراً عن المواقف المكتفية بترديد الدعوات العامة والمجردة، والفاقدة للآليات الكفيلة بتحويلها من مجرد انتقادات للأوضاع، أو دعوات للحوار تطرح للاستهلاك ولتوظف في الصراع. واذا كانت الدعوات والمناقشات تظهر (ولو شكلياً) موقفاً قريباً من الاجماع حول ضرورة الحوار الوطني الشامل، فأعتقد أن نجاح هذا الحوار وتوظيفه في خدمة قضايا الوطن ومصلحة الشعب يتطلب الاقرار وبلوغ شبه اجماع على:
أولاً – تحرر الجميع من المواقف المسبقة، والخروج من خلف المتاريس والخنادق المحصنة أو المحكمة الاغلاق والتوجه نحو الدخول في الحوار بعقول مفتوحة، تأخذ وتعطي ترسل وتستقبل بكل مسؤولية وانفتاح تضع المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات الأخرى.
ثانياً – شطب كل الشروط المسبقة المتعلقة بالمكان أو الزمان أو المواضيع، واعتماد الديمقراطية كأساس للنقاش، وكقاعدة للانطلاق بالحوار وبما يعني الاقرار بالتعددية السياسية والتنظيمية واحترام الرأي والرأي الآخر، وحق كل المشاركين أفراد أو أقلية أو أغلبية أن تعبر عن وجودها وقناعتها بكل حرية ودون قمع أو اضطهاد فكري أو سياسي أو تنظيمي. وأعتقد أن تشجيع الكتاب والمفكرين الفلسطينيين على الخروج من صمتهم، وعقد ملتقيات خاصة يساعد في ترشيد الحوار ومنهجته.
ثالثاً – الالتزام المسبق بالابقاء على الخلافات والتصارع في وجهات النظر في إطاره الفكري والسياسي وأن لا يتحول الى صراع تناحري عدواني وأن لا يتحول الى احتراب واقتتال داخلي مهما بلغت درجة الخلافات.
رابعاً – وضع أنسب وأفضل الآليات بما يمكن إشراك أوسع قطاعات من الشعب داخل الوطن وخارجه، ورفع محصلتها الى أعلى أطر الحوار وأعلى أطر القرار. والاقرار بأن م.ت.ف هي التي يجب أن ترعى وتدير هذا الحوار.
خامساً – واذا كانت الأزمة التي يعانيها العمل السياسي الفلسطيني شاملة وجوانبها متعددة فلا شك أن هناك مسائل لها أولوية على سواها. وفي ذات السياق يمكن القول أيضاً أنه اذا كان من الخطأ القفز عن موضوع المفاوضات أو تأخير بحثه أو عدم إعطائه أولوية فلا أظن أن من الصحيح حصر الحوار في المفاوضات ونتائجها أو السماح لهذا الموضوع الجوهري والهام من الطغيان على البحث والنقاش وإهمال أو تهميش القضايا الجوهرية الأخرى التي تساعد الشعب على الصمود داخل الوطن وفي مخيمات اللجوء والشتات. واذا كانت قضية المشاركة في المفاوضات محورية فوظيفة الحوار كما أعتقد هي تحديد الفواصل بين المواقف، وتنظيم التعاون والتعايش في ظل استمرار وجود الخلاف حولها. فنتائج المفاوضات حتى الآن لا تملي على أي طرف تغيير قناعاته ومواقفه أو الاعتراف بخطأ موقفه السابق منها.
بعد هذا العرض يصبح مطروحاً على الجميع السؤال التالي: هل الأوضاع الفلسطينية ناضجة للوصول الى اتفاق وشبه اجماع حول هذه المسائل الضرورية لضمان نجاح الحوار؟ وهل هي ناضجة لاستيعاب نتائج الحوار والالتزام بها والتعامل معها وفقاً لقواعد الديمقراطية أم أن الصراع سيأخذ مداه؟.