ماذا بعد الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي على اعلان المبادئ
بقلم ممدوح نوفل في 01/09/1993
فاجأت م.ت.ف والحكومة الاسرائيلية العرب والعالم بالاتفاق الذي توصلا له، ولم يسلم شعبي الطرفين ومعظم قيادتيهما من المفاجأة. وفي العادة تثير المفاجأت البسيطة مواقف وردود أفعال متباينة. وهذا ما فعلته المفاجأة الاسرائيلية الفلسطينية الكبرى والمذهلة. فردود الأفعال على المستويات الفلسطينية والعربية والدولية تتراوح، كما نراها، بين الترحيب والتأييج والترقب والانتظار والمعارضة الشديدة. إن تباين المواقف من الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي أمر طبيعي وصحي تماماً من حيث المبدأ ولبقاء ردود الفعل في إطارها الصحي والصحيح أعتقد أن من المفيد التأمل بهدوء في المسار اللاحق للمفاوضات ولانعكاساته على الأوضاع العربية على المدى المباشر والبعيد.
وفي هذا السياق يمكن القول أنه بغض النظر عن المسافة التي قطعتها الأطراف العربية الأخرى المشاركة في المفاوضات الثنائية مع اسرائيل فالمؤكد أن الاتفاق على اعلان المباديء الذي توصلت له م.ت.ف مع الحكومة الاسرائيلية يوم 20 آب 1993 سوف يتلوه في الأيام والأسابيع القليلة القادمة أو يترافق معه تقدماً على المسار السوري-الاسرائيلي واللبناني-الاسرائيلي والاردني-الاسرائيلي. والجزم بوقوع مثل هذا التقدم لا يندرج تحت بند التخمينات أو التقديرات، ولا يعتمد فقط على التحليل المنطقي لانعكاسات التقدم على المسار الأصعب وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة على المسارات الأخرى الأقل تعقيداً وأقل صعوبة. فالمعلومات المتوفرة من مفاوضات الجولة التاسعة والعاشرة وعن نتائج زيارة الوزير كريستوفر الأخيرة للمنطقة ومن الاتصالات غير المعلنة تؤكد أن البعض أنجز اعلان المباديء الخاص بمساره ووقف ينتظر مجريات المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية والبعض الآخر أبطأ حركته في محاولة لتحسين النتائج، مستفيداً ومستغلاً تأخر الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي. واذا كانت طبيعة العلاقات القائمة بين الأطراف العربية المشاركة في المفاوضات الثنائية ومستوى التنسيق بينها لم يرق مع الأسف الشديد حتى الآن الى مستوى المصارحة والمكاشفة بما أنجز وبما لن ينجز، فتصريحات المسؤولين الاردنيين والسوريين واللبنانيين لا تتعارض مع هذا الاستنتاج ولم تنفي ما سرب ويسرب من الأمريكان والاسرائيليين حول الموضوع، بل تكاد تؤكدها وتثبتها من خلال التشديد المتواصل بأن التقدم على أي مسار من مسارات المفاوضات العربية الاسرائيلية رهن بتحقيق تقدم حقيقي على جبهة المفاوضات الاسرائيلية-الفلسطينية. وبغض النظر عن رد فعل هذا الطرف العربي أو ذاك حول الاتفاق الذي تم بين م.ت.ف واسرائيل، فالواضح أنها لن تؤثر سلباً على مساراتهم التفاوضية. فكل طرف من الأطراف العربية دخل المفاوضات في مدريد قبل أكثر من عامين استناداً الى معطيات وظروف خاصة أحاطت بموقفه لحظة بدء المفاوضات، ودخلها على أمل تحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافه الوطنية والقومية، أو ليتجنب الأضرار التي قد تلحق به اذا قاطع. وأعتقد أن كل الأطراف العربية المشاركة في المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف لها مصالح حقيقية في تحقيق تقدم في المفاوضات وفي نجاح عملية السلام، لا سيما وأنها جميعاً تقر بأن لا بديل للمفاوضات وأن خيار السلام العادل والدائم والشامل هو خيار عربي فردي وجماعي. وأعتقد أن لا وقت عند أي طرف عربي يهدره الآن في العتاب أو في صيغة ردود أفعال تزيد من تعقيد الأوضاع العربية المعقدة أصلاً. فالاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي والاتفاقات العربية-الاسرائيلية اللاحقة لا يجوز التعامل معها باعتبارها حدث مثله مثل الأحداث الكبيرة أو الصغيرة التي مرت على المنطقة. انها أشبه بالبلاغ رقم واحد في انقلاب تاريخي سياسي اجتماعي اقتصادي عسكري أمني قامت به الأطراف العربية المشاركة في المفاوضات؛ انقلب العرب على أنفسهم؛ وانقلبت اسرائيل على نفسها.. وفي لحظات الانقلاب والانتقال من مرحلة قديمة الى مرحلة نوعية جديدة يكثر الشغل وتتنوع المهمات. وأعتقد أن أكبر خطر يواجهه العرب في هذه الأيام والأسابيع والشهور التاريخية هو خطر الانزلاق نحو مزيد من التمزق والتمحور والاحتراب. فالانزلاق نحو هذا المنزلق الخطير يلحق أذى ودماراً واسعاً بكل الأطراف العربية دون استثناء ناهيك عن الأضرار الهائلة التي سوف تطال المصالح القومية العليا المشتركة.
لا شك أن لكل طرف عربي ملاحظاته ومآخذه على مواقف الآخرين. الا أن الواقعية والموضوعية هي التي يجب أن تتحكم في مواقف الجميع دون استثناء. فالوضع العربي وكل النظام السياسي برمته يعيش الآن فترة انتقالية ومصيرية حاسمة شبيه بتلك التي مر بها بعد انتهاء الحرب العالمية أواخر الاربعينات وأكبر من تلك التي عاشها بعد حرب 67. وفي مثل هذه الفترات العصيبة تبرز القيمة الكبرى لضبط الذات وللسيطرة على الانفعالات، ولتغليب المصالح العربية العليا على ما عداها من قضايا فرعية وثانوية، لا سيما وأن الجميع لا زال في أول الطريق. وكل الأطراف العربية وخاصة تلك المشاركة في المفاوضات بحاجة ماسة الى بعضها البعض الآن وأكثر من أي وقت مضى. وأظن أن لا خلاف حول أن المفاوضات القادمة والمتعلقة بتطبيقات اعلانات المباديء هي الأعقد والأصعب. فالمعروف أن الشيطان يكمن في التفاصيل ولعل تجربة المفاوضات المصرية-الاسرائيلية خير شاهد ودليل على ذلك. فاعلان المباديء الفلسطيني-الاسرائيلي ليس سوى خطوة في رحلة تفاوضية طويلة معقدة والمرئي منها حتى الآن خمس سنوات. وهو اتفاق على قواعد ومباديء للمفاوضات حول المرحلة الانتقالية، أما الأطراف العربية الأخرى فمفاوضاتها تدور حول اعلانات مباديء لحلول نهائية وليست انتقالية. ومن الآن وحتى الاتفاق على المرحلة النهائية على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي ستبقى منظمة التحرير بحاجة ماسة لدعم وإسناد الأطراف العربية الأخرى. لا بل انها الآن وبعد الاتفاق باتت بحاجة لدعم أوسع وأكبر وأكثر تنوعاً من الأشقاء ليس فقط للتقدم بثبات في المفاوضات اللاحقة بل وأيضاً للنهوض في المسؤوليات الجسام السياسية والاقتصادية التي ألقيت على كاهلها بعد الاتفاق وهي بحاجة الى تنسيق أعمق مع كل الأشقاء. ولعل من الضروري أن يدرك الجميع أن فشل أو افشال م.ت.ف في النهوض بمسؤولياتها الجديدة لن تقتصر آثاره السلبية والمدمرة على الشعب الفلسطيني وحده أو منظمة التحرير وحدها بل ستطال المنطقة برمتها. فالأوضاع العربية متشابكة ومتداخلة كالأواني المستطرقة توصل ما بداخلها وتوصل كل ما يسكب فيها الى باقي الأطراف. وأعتقد أن كل الأطراف العربية المشاركة في المفاوضات لا يمكنها التخلي عن بعضها البعض خلال مسيرة المفاوضات، فتخلي أي منها عن الآخر يضعفها جميعاً ويقوي مواقع ومواقف المفاوض الاسرائيلي. واذا كان من استخلاص مفيد يمكن الخروج به على المستوى العربي من تجربة عامين من المفاوضات، ومن تفاجؤ الجميع أو البعض من الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي فهو ضرورة الارتقاء بمستوى التنسق ليس فقط على مستوى الوفود المفاوضة بل والأهم على أعلى المستويات وخاصة تلك التي بيدها القرار.
ومن البديهي القول أن التوصل الى اتفاقات حول اعلانات مباديء في المفاوضات الثنائية يفقد الجانب العربي كل مبرر لمقاطعة المفاوضات المتعددة الأطراف، ويشق أوتسترادات واسعة أمام حركة المفاوضات المتعددة الأطراف. وهذا يعني أننا مقبلون في الشهور القليلة القادمة على أشكال متنوعة من تطبيع العلاقات العربية-الاسرائيلي في العديد من المجالات. وسواء أكان التطبيع قادم دفعة واحدة أو بالتدريج فالمؤكد أنه يفتح جبهة جديدة من الصراع الاقتصادي والثقافي والحضاري والتكنولوجي مع اسرائيل والصهيونية العالمية ولا مبالغة في القول أن الصراع والقتال على هذه الجبهات أقسى وأعقد عشرات المرات من الصراع خلف طاولات المفاوضات -السرية أو العلنية- وأتصوره أصعب من إدارة المعارك على جبهات القتال العسكرية. وعلى جميع العرب أن لا يفاجأوا منذ الآن اذا ما واجهتهم اسرائيل والرأسمال اليهودي العالمي في أول محطة تطبيعية بعشرات المشاريع والأفكار الجاهزة للتنفيذ. فمراكز الأبحاث والدراسات الاسرائيلية بدأت بإعداد أبحاثها ودراساتها قبل أن تبدأ المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف. ولا نهول على أحد اذا قلنا أن خطر وقوع هزيمة عربية ماحقة في مجالات الصراع الجديدة خطر حقيقي. وانطلاقاً من الحكمة الشعبية العربية القديمة القائلة درهم وقاية خير من قنطار علاج، فإن على جميع الأطراف العربية وخاصة تلك المشاركة في مفاوضات المتعدد الأطراف القريب منها أو البعيد عن اسرائيل تدارك هذا الخطر الداهم، والشروع فوراً في وضع الخطط والبرامج الجماعية الدفاعية لمواجهة الهجمة الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية التي سوف تتعرض لها في الفترة القريبة القادمة.
ولا أدري اذا كان لا زال من بقية أمل في تجديد الدعوة لاعادة إحياء التضامن العربي، وإعادة بنائه على أسس عملية وحضارية وديمقراطية تصون حقوق الجميع، تنهي التمزق والضعف العربي القائم وتمكنه من النهوض بقوة ومن اثبات الوجود في إطار “النظام الدولي الجديد” وصيانة هذا الوجود من الزلازل والعواصف التي بدأت رياحها تهب على المنطقة. وأعتقد أن من حق كل مواطن عربي أن يطالب كل الدول العربية، وكل القوى العربية الفاعلة الحاكمة والمعارضة بتطبيع علاقاتها على أسس ديمقراطية تصون مصالحها جميعاً وتبقي المصالح الوطنية والقومية فوق كل الاعتبارات الأخرى. ومن غير المستوعب وغير المفهوم أن يطبع العرب علاقاتهم مع اسرائيل قبل أن يطبعوها مع بعضهم البعض.
تونس –
عضو المجلس المركزي الفلسطيني