قراءة إجمالية للاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي
بقلم ممدوح نوفل في 04/01/1994
من الآن ولسنوات طويلة سيبقى الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي موضع جدل ونقاش في الأوساط السياسية الفلسطينية والعربية. وسيعود الناس لتشريحه وتقييمه عند كل منعطف حاد تواجهه المفاوضات، وعند كل خطوة جديدة تتقدمها للأمام. وانطلاقاً من المقولة السياسية القائلة بأن الأمور تقاس بنتائجها وبمدى تأثيرها على تحقيق الهدف الأساسي، فإن تقييم الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي الآن عملية ليست هينة. فالاتفاق لم يبلغ من العمر الزمني سوى أيام، وتقييم الكائنات الحية يبقى ناقصاً ومجزوءاً اذا لم يتابعها طيلة مراحل حياتها. صحيح أن الاتفاق ولد بشكل طبيعي وبإشراف دولي خاص، وأنه موجود في مناخ يساعده على البقاء على قيد الحياة لكن من يستقصي أوضاعه ويبحث عن أحواله يجده موضوع تحت الحراسة والرعاية المشددة لأنه ظهر للناس ليجد من يهدده بالقتل والاغتيال. لا شك أن الظروف والأوضاع الاقليمية والدولية القائمة الآن والمرئية لفترة طويلة لاحقة قادرة على حمايته وعلى توفير كل سبل الحياة له وتمكنه من النمو بتسارع شديد، ومن فرض ذاته على وقائع حياة الفلسطينيين والاسرائيليين وكل أهل المنطقة. وبغض النظر عن الموقف الرافض أو المؤيد له أو المتحفظ عليه، لعل من مصلحة الجميع عدم الوقوع في الأوهام وعدم المبالغة في القدرات الذاتية، وخاصة تلك الهادفة الى قتله الآن. فالاتفاق نتاج موازين قوى دولية واقليمية ومحلية فلسطينية واسرائيلية، وهو على كل حال لم يعد ملكاً خاصاً لمن صاغوه أو من صادقوا عليه، وأظنه لم يعد ملكاً لا للاسرائيليين ولا للفلسطينيين، بل أصبح ملكاً للمجتمع الدولي عامة وللقوى الدولية الكبرى خاصة. وبما أن الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي هو اتفاق على إطار للمفاوضات اللاحقة، وليس اتفاقية نهائية فلعل قراءته بالجملة هو الاسلوب الأنسب للتحري عما يعطيه للفلسطينيين والتعرف ما اذا كان يقربهم من الهدف الذي حددوه لأنفسهم عند دخولهم المفاوضات. وكل قراءة هادئة وموضوعية للاتفاق توصل الى :
أولاً – بالتأكيد لم يتمكن الجانب الفلسطيني تضمين إعلان المباديء كل النصوص والصياغات التي كان يريدها، وذات الشيء ينطبق على الجانب الاسرائيلي. فالوارد فيه هو القاسم المشترك الذي أمكن التوصل له بين طرفين عدوين. وأعتقد أن إنصاف الحقيقة يفرض القول أن الاتفاق لا يتضمن أي نص يقطع الطريق أمام المفاوض الفلسطيني لمتابعة الصراع من أجل تحقيق ما لم يستطع تثبيته في الاتفاق. فما لم يستطع انتزاعه أحاله للمفاوضات اللاحقة (القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقة والتعاون مع الجيران). والمفاوضات اللاحقة حددت بدقة بداياتها ونهاياتها، وثبت الاتفاق ترابط المرحلتين و”أنهما جزء لا يتجزأ من عملية واحدة”. وتأجيل بحث هذه الأمور لا يتعارض مع الهدف الفلسطيني المحدد بإقامة الدولة المستقلة على كل أراضي الضفة والقطاع والقدس وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً على أساس قرارات الشرعية الدولية”. لا سيما وأن الاتفاق نص على “أن مفاوضات الوضع النهائي ستقود الى تنفيذ قراري مجلس الأمن رقم 242 و338″. ونص هاذان القراران يشير بوضوح الى الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلت عام 67، وتحقيق حل عادل لمشكلة اللاجئين، وقيام علاقات سلام بين الجانبين وضمن حدود آمنة ومعترف بها. لا شك أن للجانب الاسرائيلي تفسيره الخاص للأراضي والحدود ولكن للفلسطينيين تفسيرهم أيضاً، وأعتقد أن القيادة الاسرائيلية وراعيي عملية السلام يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم لن يجدوا فلسطينياً واحداً يوقع معهم اتفاقاً يعطي الاسرائيليين أراضي من الأراضي التي احتلت عام 1967.
ثانياً – واضح أن الجان بالفلسطيني لم يستطع انتزاع حقه في السيادة الكاملة على أرضه، لكنه بالمقابل لم يتنازل عنه للطرف الآخر، ولم يعطه أي حرف أو كلمة يمكنه الاستناد اليها في المفاوضات اللاحقة ليطالب بها. ولم يتوقف المفاوض الفلسطيني عند هذا الحد، بل أخذ ما يساعده في المفاوضات اللاحقة على انتزاع هذا الحق كاملاً وغير منقوص. فالقرار 242 يقرر بأن الضفة الغربية والقطاع أراضي محتلة، والقانون الدولي لا يمنح المحتل أي شكل من أشكال السيادة. وأعتقد أن نص الاتفاق على “أن نطاق سلطة المجلس الفلسطيني الانتقالي المنتخب ستغطي أرض الضفة والقطاع” سلاح آخر حصل عليه المفاوض الفلسطيني وبإمكانه استخدامه في المفاوضات اللاحقة. وذات الشيء ينطبق أيضاً على الانسحاب الكامل من غزة وأريحا وعلى النص القائل “ينظر الجانبان الى الضفة والقطاع كوحدة اقليمية واحدة، وأن وحدة وسلامة أراضيها يجب حمايتها خلال المرحلة الانتقالية”. وأعتقد أن وجود نص على “حل الادارة المدنية وانسحاب الحكومة العسكرية” واستلام المجلس الفلسطيني الانتقالي لعدد من السلطات ووجود قوة شرطة فلسطينية وقيام سلطات فلسطينية “للأراضي، والمياه، والكهرباء، والضرائب والبيئة..الخ” عوامل مساعدة تصب في صالح انتزاع السيادة وليس العكس. واذا كان الجانب الاسرائيلي لم يسلم حتى الآن بالسيادة الفلسطينية على الأراضي فهو يعرف أن من المستحيل بقائها أراضي سائبة لا سيادة لأحد عليها. وأعتقد أن اعترافه بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني مقدمة طبيعية ومنطقية للاقرار بسيادة هذا الممثل على الأراضي التي يمتلكها الشعب الذي تمثله. وأظن أن ذلك كله يقرب الوصول الى هدف الاستقلال الكامل.
ثالثاً – وفقاً لنصوص الاتفاق فإن تسليم الجانب الاسرائيلي بحق المرحلين (النازحين) الذين غادروا ديارهم منذ 5 حزيران 67 بالعودة مكسب كبير. وأعتقد أنه لا خلاف حول ذلك. لا سيما وأن عددهم يتراوح ما بين 750-900 ألف مواطن. وعودة هذا العدد ولو بالتقسيط وعلى مدى خمس سنوات أظنها تسهل انتزاع السيادة على الأرض، وتقصر أمد وجود أي شكل من أشكال الاحتلال، وتحاصر الاستيطان. واذا كانت رغبة القيادة الاسرائيلية في تجنب الوصول الى دولة ثنائية القومية كان من أحد العوامل الاساسية التي ضغطت عليها للتقدم نحو صنع السلام، فدخول هذه الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين يفترض أن يدفع الاسرائيليين للتسريع في المسير باتجاه السلام. وأظن أن الحكومة الاسرائيلية تعرف تماماً أن السلام العادل والشامل والدائم لا يمكن تحقيقه قبل أن يحقق الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة. ويمكن القول أيضاً أن موافقة الحكومة الاسرائيلية على دخول بضعة آلاف من الشباب الفلسطينيين لتشكيل شرطة فلسطينية قوية يصب في ذات الاتجاه.
رابعاً – يعرف الجميع أن الحكومة الاسرائيلية الحالية والحكومة السابقة كانت ولا زالت تعتبر القدس خطاً أحمر وبقي المفاوض الاسرائيلي عامين تقريباً يرفض بصورة قاطعة أي حديث في هذا الموضوع. إن موافقة الحكومة الاسرائيلية في الاتفاق على مشاركة أهل القدس في الانتخابات، وعلى إدراج موضوعها كنقطة مستقلة على جدول أعمال المفاوضات النهائية، وموافقتها على أن سكان القدس مشمولين في السلطات المبكرة التي سوف يتسلمها المجلس الفلسطيني الانتقالي المنتخب؛ كلها خطوات تراجعية صغيرة تشير الى إقرار الحكومة الاسرائيلية ضمنياً بمكانة القدس عند الجميع. وهذه الخطوات التراجعية الصغيرة يمكن للمفاوض الفلسطيني البناء عليها لاحقاً. واذا كانت الحكومة الاسرائيلية تعتبر القدس جزء من اسرائيل فقرار 242 الذي سينفذ في المرحلة النهائية يعتبرها جزءاً من أراضي الضفة الغربية المحتلة. والعالم أجمع يعتبرها كذلك بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. ولا أظن أن رابين يجهل المكانة الخاصة التي تحظى بها القدس عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين. وأظنه يدرك أن السلام والتعايش بين الجانبين لا يمكنه أن يتحقق مع بقاء الاقرار بضمها من جانب واحد. وأعتقد أن من يوافق على تقديم ما سبق ذكره في هذا المقال يعرف أنه سيجد نفسه مضطراً للدخول لاحقاً في بحث جدي مع الجانب الفلسطيني لايجاد مخرج لموضوع القدس والوصول الى حل يرضي الطرفين.
خامساً – أظن أن لا خلاف مع الاسرائيليين حكومة وأحزاب أن قضية اللاحئين الفلسطينين هي جوهر القضية الفلطسينية، وأن عدم حلها يعني بقاء الصراع قائماً، وبقاء السلام مؤجلاً الى إشعار آخر. فهل من مصلحة رابين بقاء هذه العقدة بدون حل؟ وهل القوى الدولية الراغبة، وفقاً لمصالحها، في صنع السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ستقبل إقفال ملف السلام عند حدود هذا الاتفاق وقبل حل جوهر الصراع. الجواب المنطقي يقول أن اسرائيل وكل الحريصين على صنع السلام والاستقرار في المنطقة سيباشرون الضغط على م.ت.ف ويلاحقونها من أجل الوصول الى حل لقضية اللاجئين. ولهذا يمكن اعتبار تأجيل بحث موضوع اللاجئين والقدس والاستيطان نقطة قوة بيد المفاوض الفلسطيني وليس نقطة ضعف. وأعتقد أن الدخول في بحثها بعد إنجاز الخطوات المذكورة أعلاه يعني بحثها في ظروف فلسطينية أفضل تساعد على الحصول على حلول أفضل، لا سيما وأن حقوقهم محفوظة في القرار 242 الذي يجب أن ينفذ في المرحلة النهائية.
بعد هذا العرض والتقييم الاجمالي للاتفاق الفلسطيني على إعلان مباديء للمفاوضات، يجدر القول أن ما تحقق فيه تعزيز لموقع المفاوض الفلسطيني في المفاوضات اللاحقة، وفيه تحسين لموقع القضية الفلسطينية في إطار الصراع الجاري. ولعله من البديهي القول أن كل ذلك قابل للزيادة، كما هو قابل للمراوحة في ذات المكان وحتى للنقصان. والزيادة أو المراوحة أو النقصان لم تعد رهن بالعوامل الدولية والاقليمية الخارجية وإنما الأساس فيها هو مدى قدرة الفلسطينيين على النجاح في هذا الامتحان العسير. والنجاح متوفر وممكن شرط وضع المصالح الوطنية العليا فوق كل الاعتبارات الأخرى، والالتزام بالديمقراطية كأساس لمعالجة الخلافات، وإحداث نقلة نوعية وتغيير جذري في أساليب العمل وفي الأدوات.. فهل سيجتاز الفلسطينيون الامتحان بنجاح؟ وهل سيستطيعون استثمار التعديل البسيط الذي أحدثه الاتفاق على ميزان القوى في المرحلة الثانية من المفاوضات؟؟ الجميع يراقب وينتظر.. والجواب قادم من غزة وأريحا.