التسوية السياسية الجارية وموقع فلسطينيي الشتات فيها
بقلم ممدوح نوفل في 28/04/1994
التسوية السياسية الجارية وموقع فلسطينيي الشتات فيها
تجديد بنية المنظمة وتفعيل دورها
ــ تطور الفكر الاسرائيلي لم يصل الى مستوى تحقيق المصالحة التاريخية
ــ عدم الاهتمام بقضايا فلسطيني الشتات يؤدي الى شق وحدة الشعب
الحديث بالجملة عن دور فلسطيني الشتات في مرحلة التسوية السياسية التي نمر بها لن يكون دقيقا، فمن المعروف أنه لا يوجد احصاء دقيق للشعب الفلسطيني حتى الان، وانه ليس مجمعا في بلد واحد، ولا يخضع لنفس الظروف. والفلسطينييون كما هو متعارف عليه دوليا وعربيا وفلسطينيا واسرائيليا يزيدون عن الستة ملايين ونصف المليون انسان. مشتتين في القارات الخمس. ووجودهم يتفاوت مابين بضعة عشرات من الافراد في هذا البلد، وقرابة المليون في اسرائيل والقدس العربية. ومليونين ونصف المليون في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقرابة المليونيين ونصف المليون في الأردن. واكثر من ثلاثماية ألف في لبنان، ومثلهم تقريبا في سوريا. ويقال أن هناك في تشيلي وأمريكا اللاتينية ما يقارب ربع مليون من أصل فلسطيني، وأقل منهم قليلا في الولايات المتحدة الامريكية. وذات العدد في بلدان الخليج والعراق. ومثل هذا العدد موزع على الدول الأوروبية والأسيوية والأفريقية. وبالاجمال يمكن القول أن ما يقارب ال50% من أبناء الشعب الفلسطيني يقيمون الان فوق أرض فلسطين التاريخية، والنصف الآخر لا زال يعيش في المهجر، كلهم محرومين من حق العودة، ومعظمهم محروم من حق زيارة ارضه ومدينته وقريته .
ولعل أولى المهام التي يفرضها الحديث عن دور فلسطينيي الشتات في هذه المرحلة هي بذل الجهود الممكنة لأنجاز عملية احصاء ولو تقريبية لعدد الفلسطينيين في العالم. أما ثاني المهام الضرورية فهي اجراء الأبحاث والدراسات لأوضاعهم الاقتصادية والأجتماعية والسياسية والمعنوية. وابتكار أفضل السبل والوسائل للتعرف على درجة الأنتماء وعمقها، ومدى التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية، والتعرف ايضا على الامكانات الأساسية لكل تجمع من التجمعات الفلسطينية، وبخاصة الاوضاع الاقتصادية، فانجازهما يساعد على تحديد التوجهات والأدوار الواقعية والعملية لكل تجمع من هذه التجمعات .
واذا كان لا بد من تسجيل تقدير للسلطة الوطنية الفلسطينية على الجهود التي تبذلها لانتزاع سجلات السكان لأبناء الضفة والقطاع من الاسرائيليين، وعلى الجهود التحضيرية التي تبذلها لعمل احصاء جديد، فلا بد بالمقابل من تسجيل تقصيرها، وتقصير قيادة م ت ف في بذل الحد الادنى من التحرك المطلوب لتشغيل نصف الشعب الفلسطيني المقيم خارج فلسطين، وعدم القيام بمحاولة اجراء تعداد أولي للفلسطينيين في المهاجر. وخطورة هذا التقصير تبرز عند تأمل أبعاد انعدام اشراكهم في صنع التوجهات الوطنية التي تمس مستقبلهم ومصيرهم الوطني، واستثنائهم من المساهمة في معالجة المعضلات الوطنية المعقدة التي تواجهها السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، وكل القضية الوطنية الفلسطينية .
وبغض النظر عن النوايا والاسباب أو المبررات التي يمكن أن تساق لتبرير هذا التقصير الخطير، فالواضح أن استمراره يساهم في شق وحدة الشعب الفلسطيني بين داخل وخارج. ويجعل السلطة الفلسطينية في نظر قطاعات واسعة من الشعب سلطة لجزء من الشعب فقط، ولا تشجعهم على المساهمة في بنائها. وقد تدفع بقطاعات واسعة من فلسطيني الشتات الى عدم التعامل معها باعتبارها سلطتهم الوطنية التي ناضلوا وضحوا من اجل قيامها. ويمكن لهذا التقصير أن يقود على المدى الطويل الى اضعاف الوطنية الفلسطينية في صفوف الشعب الفلسطيني المقيم في المهاجر. ويدفع بعضه لاتخاذ مواقف سلبية منها، ومن منظمة التحرير والانخراط في تحركات مناوئة لهما. والتوجه نحو بناء اطر تنظيمية جديدة تتخصص في قضايا اللاجئين.. وقد يدفع بقطاعات أخرى نحو البحث عن الخلاص الفردي، والأنحياز الى تأمين مصالحهم الخاصة في هذا البلد او ذاك، ومع هذا النظام أو ذاك ممن يقيمون على أرضه. وتقصير السلطة وقيادة المنظمة اتجاه تعبئة وحشد طاقات الشعب الفلسطيني في الخارج يفرض على القوى والعناصر الطليعية ليس رفع الصوت النقدي فحسب ، بل والمبادرة الى ايجاد السبل التعبوية والتنظيمية لدرء مثل هذه الاخطار المذكورة أعلاه.
وعند بحث الادوار الممكنة لفلسطينيي الشتات، أعتقد أن لاغنىعن القيام بمحاولة استقصاء لآفاق عملية السلام الجارية ونتائجها على اوضاع فلسطيني الشتات وموقعهم . فهي وبغض النظرعن الموقف منها، عملية حاسمة في رسم مستقبل الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وفي تحديد الأهداف والمهام الوطنية المباشرة واللاحقة لعموم حركته الوطنية .
واذا كان من السابق لأوانه اعطاء مواقف جازمة وقاطعة بشأن المستقبل البعيد لعملية السلام التي انطلقت من مدريد في نهاية اكتوبر1991، فالثابت أنها بدأت تفرض نتائجها على كل الفلسطينيين، وأدخلت كل شعوب الشرق الأوسط، وبخاصة الشعبين الفلسطيني والأسرائيلي منعطفا مصيريا جديدا، ووضعتهما على أعتاب مرحلة جديدة تختلف نوعيا عن تلك التي عاشاها خلال النصف الثاني من هذا القرن، واظن انه لم يعد بأمكانهما العودة الى ما كانا عليه قبلها وقبل اتفاقي أوسلو وطابا. وبالرغم من تباين الأراء حول اتفاقي أوسلو وطابا ، فالثابت أنهما يمثلان محطة فاصلة بين حقبة قديمة عاشتها المنطقة العربية وأخرى جديدة لازالت في طور التشكل والتكوين. ودخول حقبة ما بعد هذين الأتفاقين يفرض كما أعتقد التدقيق في المهام الجديدة التي جلباها معهما، واعادة النظر في ترتيب الاولويات الفلسطينية، وفي الاليات التي كانت معتمدة قبلهما. ومسار حركة التاريخ يؤكد أن انتقال الشعوب من حقبة تاريخية الى أخرى نوعية جديدة يستوجب المرور في مرحلة انتقالية، يتخللها جذب وصراع، قد يطول وقد يقصر، بين الماضي القديم فكرا وأدوات، وبين القادم بفكره والقادرعلى خلق أدواته وكل المستلزمات الضرورية لفرض الذات. واذا كان من الصعب التنبأ منذ الان بطبيعة الحقبة الجديدة، وبالصيغ والاشكال النهائية التي سترسو عليها علاقة الشعوب العربية بالشعب الاسرائيلي، فالواضح أن اتفاق أوسلو وبعده اتفاق طابا هزا أوضاع الفلسطينيين والاسرائيليين هزة عنيفة، وحددا للشعبين بعض سمات وعناوين المرحلة الأنتقالية، ومن أبرزها التخلي عن الأهداف التاريخية الكبرى التي حلموا لسنوات طويلة في تحقيقها، وتجميد التفكير في حل الخلافات الفلسطينية والعربية الاسرائيلية بالوسائل العسكرية، واعتماد غرف المفاوضات كبديل لميادين القتال.
والان وبعد اربع سنوات على انعقاد مؤتمر مدريد، وما يزيد عن عامين على توقيع اتفاق أوسلو، وبعد اتفاق طابا، أصبحت جميع الأطراف الفلسطينية المتفائلة أو المتشائمة المؤيدة أو المعارضة لعملية السلام وللاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها، تقر بأن طريق المفاوضات الفلسطينية الأسرائيلية طويلة جدا. وسيستمر المشي فيها خمس سنوات كحد أدنى. ووقائع المفاوضات الجارية الان حول تنفيذ اتفاق طابا تبين انها مرشحة للتواصل الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية المقرر اجراؤها أوخر العام القادم، وان تنفيذه لن يسير في طريق مستقيم. وأظن أن لا خلاف على أن المفاوضات حول قضايا المرحلة النهائية (القدس، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، والترتيبات الأمنية النهائية) هي الأصعب والأعقد. ومن يدقق في مواقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي من هذه القضايا الكبرى، أو في الحدود الدنيا التي يمكن أن تنزل لها، يمكنه الاستنتاج أن المفاوضات حولها سوف لا تنتهي خلال السنوات الثلاث التي حددت كسقف لها في رسالة الدعوة الى مؤتمر مدريد وفي اتفاق أوسلو، وتم التاكيد عليها في اتفاق طابا. هذا اذا استمر حزب العمل في السلطة بعد الانتخابات الاسرائيلية القادمة. أما في حال فوز الليكود وعودته الى السلطة (وهذا احتمال يجب عدم تجاهله)، فلا شك أن المفاوضات حول كل قضايا المرحلتين الانتقالية والنهائية سوف تمتد لسنوات أطول. وقد يصبح متعذرا ايجاد حلول دائمة ومقبولة لبعض قضاياها الاساسية .
وبالتمعن في الاسس التي قامت عليها عملية السلام، وفي حقيقة وجوهر المواقف الاسرائيلية التي كشفت عنها المفاوضات على امتداد اربع سنوات يمكن استخلاص التالي:
(1) من المشكوك فيه أن يتمكن الفلسطينيون والاسرائيليون من التوصل عبر المفاوضات الجارية الى حلول عادلة لقضايا القدس واللاجئين والنازحين. فحق العودة للفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم في عام 47-48 مرفوض بالمطلق من كل الاحزاب الاسرائيلية. أما تعويضهم عن أراضيهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم فالواضح أنها قضية شائكة ومعقدة، والتفاوض حولها سوف يستغرق سنين طويلة. وهذا يعني بقاء فلسطينيي الشتات (نصف الشعب) من الان ولسنوات طويلة في أماكن اقامتهم الحالية، وبقاء قضاياهم وكل القضية الفلسطينية معلقة بدون حلول. فقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينة وبدون حلها لاحل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ومسيرة المفاوضات تؤكد أن درجة تطور الفكر السياسي في المجتمع الاسرائيلي لم تصل الى مستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين. ولا أظن أن تبدلا نوعيا سيقع عليه في غضون السنوات القليلة القادمة. أما الاوضاع الدولية السائدة، وموازين القوى القائمة بين الطرفين والمرئية من الان ولعقد كامل من الزمن، فالواضح أنها لا تتجه نحو الزام اسرائيل بقبول حلول عادلة يرضى بها الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين والنازحين، وكل المعنيين بشأن عروبة القدس والحفاظ على مقدساتها. ولا تستطيع السلطة الفلسطينية والقيادة الفلسطينية التصرف بهذه القضايا الكبرى، دون الرجوع للشعب . فالمفاوضات حول المرحلة الانتقالية وقضاياها شي اما قضايا المرحلة النهائية فهي شيء آخر.
(2) بغض النظرعمن سيحكم اسرائيل من الان وحتى عام2000 كحد أدنى، فالمرجح أن يعيش الشعب الفلسطيني على وقع المفاوضات مع الاسرائيليين. واذا كانت الاوضاع الذاتية والاعتبارات الدولية والاقليمية عطلة القدرة الفلسطينية على مقاطعة مؤتمر مدريد قبل اربع سنوات، ومن المتعذر الوصول حتى نهاية القرن الى حول لقضايا المرحلة النهائية، فالخروج النهائي من ميدان المفاوضات بعد الاتفاقات التي تم التوصل لها غير ممكن وغير مسموح به لا اقليميا ولا دوليا. فجميع أطراف الصراع باتوا أسرى لعملية المفاوضات. قد يكون بامكانهم ابطاء حركتها او تعليقها اوتجميدها لفترات زمنية، لكن رياح الوفاق الدولي قادرة على اعادتهم الى غرفها ثانية، وعلى ابقاء هذا التجميد او التعليق يدور في اطار التكتيك التفاوضي للاطراف.
ان أهداف الوطنية للشعب الفلسطيني المحددة في البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير، والتي اقرها المجلس الوطني الفلسطيني في دوراته المتعاقبة – طرد الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس – والمنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية، سوف تبقى اهدافا نضالية لمرحلة طويلة نسبيا. وصار واضحا ان مرحلة الاهداف المرحلية بات ممرا اجباريا، وتحقيقها بالتقسيط يحتاج الى دور وجهود كل الفلسطينيين في الداخل والخارج ودون استثناء .