الذهاب للتحكيم خير من الموافقة على بيت لحم جنين ثانيا

بقلم ممدوح نوفل في 05/05/1994

بغض النظر عن المبررات والتفسيرات التي يطرحها المفاوضون الفلسطينيون ، فالثابت للناس في الضفة والقطاع ، ولجميع المتابعين والمراقبين للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ان هذه المفاوضات قد ابتعدت ، منذ التوقيع على بروتوكولات القاهرة في 4/5/ 94، عن الالتزام بنصوص الاتفاقات الموقعة بين الطرفين ، وبخاصة اتفاق اعلان المبادىء والبروتوكولات المنبثقة عنه . ولا يستطيع الفريق الفلسطيني ، الذي ادار المفاوضات منذ اوسلو وحتى الان ، ان يتبرأ ويتهرب من المسؤلية عن ذلك ، وعن تمكين الجانب الاسرائلي من اخضاع المفاوضات لقاعدة : ( من حق المفاوض الفلسطيني ان يطرح على طاولة المفاوضات ما يشاء لكن المفاوضات الجدية ، وتنفيذ نتائجها ، تتم فقط حول ما تبدي اسرائيل استعدادا لبحثة وتنفيذه) . وكان من الطبيعي ان يقود العمل بهذه القاعدة الى مأزق في تنفيذ اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة ، وتاخير انسحاب قوات الاحتلال من المناطق والمواقع المأهولة بالسكان خمسة اشهر حتى الان . والى تأخير انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية ذات المدة الزمنية . وابقاء قضايا مصادرة الاراضي ، والتوسع في الاستيطان ، واطلاق سراح المعتقلين، وتنظيم عودة النازحين والمبعدين ، وتأمين الممر الآمن بين غزة واريحا ، والتحكم في دخول وخروج القيادة الفلسطينية ..الخ بانتظار كرم اخلاق رابين، وتحت رحمة حكومتة .
والواضح ان المفاوضات الحقيقية الجارية حول الانتخابات الفلسطينية ، واعادة انتشار قوات الجيش الاسرائيلي خارج مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، تجري وفقا للقاعدة المذكورة اعلاه ، وعلى ارضية المشروع الاسرائيلي . والمشروع المطروح عبارة عن صفقة ، لا علاقة لها بمبدأ الالتزام بالاتفاقات التي وقعت بين الطرفين في واشنطن والقاهرة ، خلاصتها : تتساهل اسرائيل في عدد (وليس صلاحيات) مجلس السلطة الفلسطينيية المنوي انتخابه . وتوافق على اجراء انتخابات منفصلة لرئيس المجلس من قبل الشعب مباشرة . مقابل ذلك تتساهل السلطة الفلسطينية في موضوع اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي وانسحابه من المناطق المأهولة بالسكان ، وفي الاشراف على الامن العام في الضفة الغربية . ويطرح الجانب الاسرائيلي عددا للمجلس يقل عن الستين . اما بشأن الانسحاب فالمطروح : انسحاب من عدد من المدن والقرى التي لا تداخل ولا تماس مباشر بينها وبين المستوطنات (بيت لحم وجنين ثانيا) . اما المدن والقرى المتداخلة مع المستوطنات ــ الامنية والسياسيةــ مثل الخليل ، وقلقيلية وطولكرم ، فستحافظ قوات الاحتلال على تواجدها فيها . وبشأن مسائل : حجم التواجد ، ومرجعية الامن، والسيطرة على الطرقات ، فسيتم تقريرها وفقا لمتطلبات امن اسرائيل وبخاصة امن المستوطنين والمستوطنات .
اعتقد ان خطأ كبيرا ترتكبه القيادة الفلسطينية وطاقمها المفاوض اذا خضعوا الان لابتزازات رابين ، وتسرعوا في الموافقة على مشروعه . واذا تعاطوا معه من منطلق ان موازين القوى مختلة اختلالا فاحشا لصالح اسرائيل ، وان ما نحصل عليه الان مكسب ، وان المشروع المعروض يتضمن مكاسب هامة لا يجوز التفريط بها . وان تنفيذ الانتخابات والانسحابات حتى لو كانت جزئية ينهي مقولة البعض ـ بأن لا ثانيا بعد غزة واريحا اولا ـ . فمثل هذه المواقف والاقوال تكون صحيحة لو لم يكن هناك اتفاقا بين الطرفين ، نصوصه واضحة وصريحة ، ومن ضمنها نصوص تقر اللجوء للتحكيم كاساس لتسوية المنازعات بشأن تطبيق وتفسير اتفاق اعلان المبادىء . واللجوء للتحكيم ليس بدعة فلسطينية . فقد سبق للاسرائيليين والمصريين ان ذهبوا له عندما اختلفوا حول طابا ، والاتفاق ذاته ينص في المادة 15 تحت عنوان تسوية المنازعات على : [1 – ستتم تسوية المنازعات الناشئة عن تطبيق او تفسير اعلان المبادىء هذا او اية اتفاقات لاحقة تتعلق بالفترة الانتقالية ، بالتفاوض من خلال لجنة الارتباط المشتركة التي ستتشكل وفقا للمادة رقم 10 في اعلان المبادىء .
2- ان المنازعات التي لا يمكن تسويتها بالتفاوض يمكن ان تتم تسويتها من خلال آلية توفيق يتم الاتفاق عليها بين الاطراف . 3 – للاطراف ان تتفق على عرض المنازعات المتعلقة بالفترة الانتقالية والتي لا يمكن تسويتها من خلال التوفيق ، على التحكيم ومن اجل هذا الغرض وبناء على اتفاق الطرفين ،ستنشىء الاطراف لجنة تحكيم ] .
لقد حاولت جاهدا فهم موقف السلطة الفلسطينية ، وان اجد تفسيرا منطقيا لعدم لجوء المفاوض الفلسطيني ، حتى الان ، للتحكيم ، الا انني عجزت عن ذلك . ولا ادري اذا كان هذا الامر سقط سهوا ام تم القفز عن الموضوع بشكل واع ومقصود ؟
وبغض النظر عن الموقف النهائي التي سترسو عليه المفاوضات السرية والعلنية حول الانسحاب واعادة الانتشار والانتخابات ، لابد من القول : اذا كان من حق رابين وحكومته ان يطرحوا ما يشاؤون من مواقف وافكار وما يريحهم من مشاريع حتى ولو كانت خارجة عن الاتفاقات التي وقعوها امام العالم وبحضور شهود دوليين . وان ينفذوا ما يناسبهم من الاتفاقات ويعطلوا تنفيذ ما لا يناسبهم . وان يتمسكوا ببقاء كل المستوطنات وان يعملوا على توسيعها . وان يضعوا مصالحهم الانتخابية فوق مصلحة السلام . وان يذلوا السلطة الفلسطينية كهيئة وكأفراد كيفما شاؤوا…الخ . فان ليس من حقهم الاستخفاف بعقول الفلسطينيين : بالقول انهم ملتزمون بالاتفاقات ، وحريصون على تنفيذ كل بنودها . والادعاء بان ما يطرحوه ليس تعديلا ولا تغيرا في اتفاق اوسلو وما الحق به من بروتوكولات ..ومن البديهي القول ايضا : ان ليس من حق المفاوض الفلسطيني تزيين الوجه القبيح للاحتلال ، وتقديم الغطاء لمشاريعه العدوانية التوسعية ، وتمرير مخالفاته الفجة للاتفاقات . وليس من حقة التنازل عن الحقوق والمكاسب الفلسطينية ، خاصة تلك التي كرستها الاتفاقات . ومن البديهي القول ان واجبه الدفاع عنها بكل السبل المتاحة ، واستخدام كل الاوراق المتوفرة بين يديه ، ومن ضمنها التمسك بنصوص الاتفاقات ، حتى لو تأزمت المفاوضات . والاصرار على التحكيم واحدة من تلك الاوراق .
والواضح ان انتهاج الجانب الفلسطيني خط التستير على المأزق واخفاء حقيقة الازمة ، وابداء المرونة ، وتقسيم المفاوضات الى مفاوضات سرية واخرى علنية ، قد شجع رابين على المضي قدما في انتهاك الاتفاقات الموقعة بين الطرفين ، وعلى التراجع عن اطروحاته السابقة بشأن الاستيطان السياسي والاستيطان الامني ، واستعاض عنها بالتمسك بالاستيطان واندفع في العمل على تكريسه وتوسيعة في كل انحاء الضفة والقطاع .بالمقابل اكدت التجربة ان طريق رفض الخضوع للابتزاز والثبات في المواقف عند القضايا الجوهرية يدفع برابين الى التراجع عن ابتزازاته وتعديل مواقفه . وقبوله التفاوض في اوسلو وتوقيع الاتفاق مع قيادة المنظة خير شاهد على ذلك .
وقبل اتخاذ القرار النهائي اعتقد ان على السطة الفلسطينية وطاقمها المفاوض اخذ الامور التالية بعين الاعتبار : 1ــ ان المشروع الذي يعرضه رابين الان هو الحد الادنى لموقف صقور حزب العمل . اما حزب ميرتس وحمائم العمل فاغلب الظن ان لهم موقفا افضل . وليس من مصلحة فلسطينية في تسهيل الامور على رابين داخل حزبه ولا مع حلفائه في الحكومة ولا مع المستوطنين خاصة وان موقفه هو الاسوأ . وان طرحه لمشروعه الان ليس نتيجة صحوة ضمير مفاجئة اصابت رابين وحكومته . بل نتاج عوامل محلية واقليمية ودولية ونتيجة حسابات دقيقة للربح والخسارة اجراها رابين واركان حكومته . لقد اخر رابين مشروعه شهورا طويلة ، وبامكانه اذا اراد تأخيره فترة اطول . الا ان تلك الحسابات بينت له ان طرحه في هذا الوقت بالذات هو الاجدى ، وان ارباحه تفوق خسائره . وفي هذا السياق لعل من المفيد رواية الواقعة التالية والاستفادة من مدلولاتها : بعد التوقيع على اتفاق اوسلو همس احد الوزراء الاسرائيليين في اذن شخصية سياسية فلسطينية قائلا : ابلغ الرئيس عرفات بأن المفاوضون الفلسطينيون والقيادة الفلسطينية احرجونا وحشرونا داخل الحكومة عندما تساهلوا في اوسلو في موضوع مستوطنات غزة ولم يصروا على تفكيكها وسحبها . فقد ضغطنا ، وكانت الاوضاع داخل الحكومة مهيأة لاتخاذ قرارا بسحب المستوطنيين منها كلها او من بعضها على الاقل . وذات الشيء روي بشأن المستوطنين في مدينة الخليل بعد وقوع مجزرة الحرم الشريف.
2ــ ان اصرار القيادة الفلسطينية على التنفيذ الدقيق للاتفاقات الرسمية الموقعة بين الطرفين، ورفض مشروع ــ بيت لحم وجنين ثانيا ــ والاصرار على التحكيم سوف يضع رابين امام احد خيارين : اما سحب مشروعه وبالحد الادنى تعديله . او تجميد المفاوضات ، ومواجهة بعض المشاكل مع قطاعات من الشعب الاسرائيلي التي انتخبته على اساس برنامج صنع السلام ، ومواجهة مشاكل اخرى مع اركان حزبه وداخل حكومته . ومع الراعيين ، ومع بعض الدول العربيه التي طبعت علاقاتها السياسية والاقتصادية مع اسرائيل .
3ــ ان رفض الفلسطينيين لمشروع رابين ، والاصرار على التحكيم ، ودعوة الراعيين وبعض الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع اسرائيل للمشاركة بصيغة ما في التحكيم يساعد على اعادة بعض الاعتبار للسلطة الفلسطينية ، فلسطينيا وعربيا ودوليا . وينقل المشكلة الى الشارع الاسرائيلي وداخل حزب العمل والاتلاف الحكومي . ويسهل استدراج تدخل الراعيين وكل القوى التي دعمت اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهره .ويفسح المجال امام القيادة الفلسطينية ويعطيها الوقت الكافي ، لاستنخاء الدعم والاسناد العربي، والاستفادة من الانفتاح الي تم بين عدد من الدول العربية واسرائيل . ومن استثمار اندفاعة اسرائيل السريعة نحو تطبيع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع بقية الدول العربية . اما التسرع في الموافقة على الصفقة المعروضة فالواضح انه سوف يلحق اضرارا جسيمة بالمصالح الوطنية العليا . ناهيك عن الاشكالات الداخلية والخارجية التي سوف يخلقها للسلطة الفلسطينية .
والتمعن في مشروع الصفقة التي يعرضها رابين يظهر بوضوح انه يحاول بيع الجانب الفلسطينين حقوقا اعطاها الاتفاق لهم ، وصادرها رابين منهم شهورا طويلة . وانه يحاول البحث عن حلول وسط حول قضايا حسمت وتم الاتفاق عليها . وهو يعلم ان الاتفاق هو (الحل الوسط) ، وان الفلسطينيين اعتبروه مجحفا بحقوقهم وقبلوه على مضض .
اعتقد ان وقتا طويلا سوف يمر قبل ان يدرك قادة حزب العمل وميرتس ان هذا السلوك لن يقود الى سلام بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي ، وانه يضعف قوى السلام عند الطرفين. ويحكم سلفا على العملية التي انطلقت من مدريد انها مشروع تسوية مؤقتة ، وليست مشروع سلام عادل ونهائي . فالتلاعب بالاتفاقات ، واذلال السلطة الفلسطينية امام شعبها وامام العالم، والاستمرار في التصرف بعقلية المحتل ، يبقى الشعور بالظلم كامنا في النفوس . ويعمق الكراهية والحقد ، ويؤجج العداء والصراع ، ويشحنه بعناصر جديدة تحفزه وتقويه وتوصله يوما ما الى الانفجار ..