رابين استفرد بالمفاوض الفلسطيني وقتل روح اتفاق اوسلو وأكل بعض نصوصه الرئيسية

بقلم ممدوح نوفل في 10/05/1994

ثالثا/تقييم مسيرة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية خلال عام
ــ المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ابتعدت كليا عن الالتزام باتفاق اوسلو
ــ الراعي الامريكي يحرص على استمرار المفاوضات وفقا للمفهوم الاسرائيلي
ــ
ــ السلطة الوطنية الفلسطينية تعثرت وارتبكت في ادارة المفاوضات مع الاسرائيليين
ــ مصادرة اراضي القدس هدفه وضع مستقبل المدينة خارج مفاوضات المرحلة النهائية

اثناء تثبيت الصيغة النهائية لاتفاق اوسلو، اكثر المفاوضون الاسرائيليون من الحديث عن حرص دولة اسرائيل على الالتزام الحرفي بالمواثيق والاتفاقات التي توقعها مع الاخرين. وأكثروا من اسئلتهم حول مدى التزام عرفات بما يوقع عليه. وخلال حفل التوقيع علىالاتفاق قال رابين وبيريز لبعض اركان القيادة الفلسطينية: “المعروف عن الاسرائيلي انه مفاوض متعب ومزعج خلال المفاوضات، لكنه مريح في التنفيذ. فهو يحترم توقيعه، ويحرص على الالتزام الكامل والدقيق بتنفيذ كل ما يوقع عليه..! وابديا مع الراعيين تخوفاتهما من عدم احترام عرفات لتوقيعه، ومن عدم قدرته على الالتزام بتنفيذ ما ورد في الاتفاق في التواريخ المتفق عليها . في حينها تبنى الراعي الامريكي المخاوف والشكوك الاسرائيلية. وافرد لها الرئيس كليننتون فقره خاصة في خطابه الذي ألقاه في حفل التوقيع يوم 13/9/93.اما المفاوضون الفلسطينيون فقد تبنوا تلك الاقوال، وصدق الكثير من اعضاء القيادة الفلسطينية تلك المواقف، وبنوا عليها الكثير من الحسابات الفلسطينية. وخلال حفل التوقيع الذي تم في حديقة البيت يوم 13/9/1993اعتقد كل الذين حضروا ذلك الاحتفال الدولي الضخم وشهدوا على التوقيع ان انفصال عربة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية عن باقي عربات قطار السلام الذي انطلق من مدريد في اكتوبر 1991 سوف يتيح لها حرية اوسع في الحركة ويزيد من سرعتها. واعتقدوا بناء على ما سمعوه من الفلسطينيين والاسرائيليين ان الطرفين سيلتزمان بتنفيذ كل ما ورد في اتفاق اوسلو بصورة دقيقة، ووفقا للتوقيتات الزمنية االتي نص عليها الاتفاق.
في حينها كان للشارع الفلسطيني وبخاصة أهل الارض المحتلة المكتويين بنار الاحتلال رأي آخر لخصوه بجملة واحدة “العبرة في التنفيذ” مشككين في نوايا اسرائيل. وبعد أسابيع قليلة جاءت وقائع الحياة لتؤكد عمق خبرة أهالي الضفة والقطاع بالاحتلال ولتبين دقة وصحة تقديراتهم. فبعد التوقيع على اتفاق اوسلو ظهرت في صفوف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية حركة إحتجاج واسعة على الاتفاق، بعضها كان بسبب عدم اشراك الجيش في المفاوضات السرية التي تمت في اوسلو، وبعضها الاخر طال العديد من بنود الاتفاق. وهي نفس البنود المختلف حولها الان،(التوقيتات الزمنية للانسحاب من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وخطة اعادة انتشار قوات جيش الدفاع في مواقع محددة يتفق عليها واجراء الانتخابات ). وفي حينها طرحت المؤسسة العسكرية حاجتها لفترة زمنية أطول من تلك المنصوص عليها في الاتفاق كي تتمكن من تنفيذ الانسحاب من المناطق المأهولة بالسكان، واعادة الانتشار دون الاضرار بأمن اسرائيل والاسرائيليين المقيمين في الضفة والقطاع (المستوطنيين) . واستجابة لمطالبها لم يتردد رابين في حينها في وضع نصوص اتفاق اوسلوعلى الرف. ولم يتوانى عن وضع المفاوض الفلسطيني امام احد خيارين اما الموافقة على الرؤيا الاسرائيلية والجدول الاسرائيلي لتنفيذ اتفاق اوسلو، بما في ذلك تقسيم مرحلة غزة واريحا الى مراحل، وتأجيل استلام المعابر، وتاجيل اطلاق سراح المعتقلين، والقفزعن التواجد الدولي …الخ واما تاخير تنفيذ اتفاق اوسلو وتأخير الانسحاب من غزة واريحا، وبالتالي تأخيرعبور الشرطة الفلسطينية والسلطة الوطنية اليهما.
وبعد دخول قوات الشرطة الفلسطينية الى غزة واريحا وقبل شروع حماس والجهاد الاسلامي في تنفيذ عملياها العسكرية النوعية، وجهت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ضربات قوية لاتفاق اوسلو، وعطلت تنفيذ العديد من بنود بروتوكولات القاهرة. وظهرت داخلها اصوات مهمة، كان اعلاها واقواها صوت اهود براك رئيس الاركان والخليفة المنتظر لرابين، شككت في امكانية تحقيق الحد الادنى من الامن للمستوطنيين في حال تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق اوسلو. ووضعت المؤسسة العسكرية، ورابين احد اركانها ومن بناتها الاساسيين، حكومة اسرائيل بين خيارين اما تأجيل تنفيذ الانسحاب وتاجيل اعادة الانتشار في الضفة الغربية، واما اعادة النظر في تواجدعدد من المستوطنات وفي حركة المستوطنيين على طرقات الضفة الغربية. ومنذ ذلك التاريخ لم تغيرالمؤسسة العسكرية رأيها، ووجدت في عمليات حماس والجهاد الاسلامي ذرائع ومبررات اضافية. وونجحت في تعطيل تنفيذ المرحلة الثانية منذ ذلك التاريخ وحتى الان.
ومراجعة مسيرة المفاوضات منذ التوقيع على بروتوكولات القاهرة ودخول الشرطة والسلطة الفلسطينية الى غزة واريحا تضعنا امام اللوحة التالية :
(ا) دور الاطراف الراعية والمساندة لعملية السلام
بالرغم من المفاجئة، رحبت كل الاطراف الراعية والمساندة لعملية السلام وللمفاوضات الفلسطينيةالاسرائيلية باتفاق اوسلو. واعتبرته اختراق حقيقي للجمود الذي كان يسيطرعلى المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وعلى كل عملية السلام. واعلنت عن استعدادها لحماية الاتفاق ودعمة، وابدت تصميما على انجاحه وتمكينه من شق طريقة الى الحياة في منطقة الشرق الاوسط. وفي حينه سارعت الادارة الامريكية الى تصويره على انه اتفاق سلام شامل وكامل بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ودفعت الاعلام العالمي للتعامل معه على هذا الاساس. الا ان كل ذلك لم يغير المواقف والقناعات الفلسطينية، ولم يبدل مواقفهم الحذرة والانتظارية. وبقي التعامل الفلسطيني الرسمي والشعبي يقوم على اساس ان الاتفاق خطوة نوعية جديدة في العلاقات مع اسرائيل وهذه الخطوة او الخطوات مطروحة على الاختبار العملي والملموس . أما روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي في رعاية العملية السلمية، وشريكة الولايات المتحدة في ذلك، فقد سارعت للترحيب بهذا الانجاز رغم مفاجأتها بالاتفاق. وذكرت العالم بأنها أحد الراعيين لعملية السلام. ودعت دول العالم لدعم الاتفاق، كما شددت على ضرورة أن يكون الاتفاق على المسار الفلسطيني – الاسرائيلي مقدمة وعاملاً مساعداً على التقدم على المسارات العربية -الاسرائيلية الأخرى. وذات الشيء فعلت الدول الأوروبية والأفريقية والآسيوية. ويمكن القول أن الغالبية العظمى من دول العالم هنأت في حينها طرفي اتفاق أوسلو على هذا الانجاز الكبير ودعتهما الى متابعة جهودهما السلمية.وساندوا لاحقا قيام السلطة الوطنية، والتزموا بدعمها بالحدود التي ارادتها الادارة الامريكية. اما الدول العربية فقد انقسمت حول الموقف من الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي وانقسمت حول الموقف من السلطة الفلسطينية، وهناك الان من يدعمها و يساندها، وهناك من لا يقيم اية علاقة معها ويعمل على افشالها. ويمكن القول ان اتفاق اوسلو وقيام السلطة الفلسطينية اضافا مشكلات جديدة على المشكلات القائمة بين الدول العربية وبينها وبين منظمة التحرير، وهذه الاشكالات القديمة والحديثة تحول الان دون تضامنها مع بعضها البعض ومع السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ العرب.
وبعد الانتهاء من احتفالات التوقيع على اتفاق اوسلو سارعت الادارة الامريكية للتحرك على أكثر من صعيد وفي اكثر من اتجاه ويمكن تلخيص موقفها ودورها منذ التوقيع على الاتفاق وحتى الان على النحو التالي :
1) رأت الادارة الأمريكية في الاتفاق اختراقا سياسيا كبيرا يفتح الآفاق لدفع كل عملية السلام خطوات كبيرة نحو الأمام. ورأت فيه قوة تدفع منطقة الشرق الأوسط نحو استقرار يضمن لها تعزيز نفوذها، وتوسيع مصالحها. ولهذا رحبت بالاتفاق، وأعلن الرئيس كلينتون يوم 30 آب دعم الولايات المتحدة له. ودعا دول العالم الى مساندته بكل السبل والوسائل الممكنة، وتعهد ببذل كل جهد ممكن لحمايته من المتطرفين أعداء السلام.. وصورت الاتفاق على أنه اتفاق سلام، وأن اقطابه اقطاب سلام. وراحت الماكينة الاعلامية الأمريكية الضخمة تضخم الاتفاق والانجاز، وتجمل صورة م.ت.ف عامة. قبل الاتفاق بأيام كانت منظمة التحرير منظمة إرهابية متطرفة، لا تستطيع الولايات المتحدة إقامة أية علاقات معها. وكان ياسر عرفات إرهابيا لا تستطيع الادارة الأمريكية التعامل معه، ولا حتى السماح له بدخول الولايات المتحدة. بعد الاعلان، وبقدرة قادر، تغيرت الصورة ليس فقط في الولايات المتحدة بل في كل أنحاء العالم. وصارت المنظمة حركة مكافحة من أجل السلام. وأصبح عرفات بطل السلام يستحق الترشيح لنيل جائزة نوبل للسلام. وخلال أيام معدودة تقاطرت الصحافة العالمية، والوكالات من بقاع الأرض الى تونس، لتنقل الأخبار وتغطي الحدث من جهة، ولتجمل صورة المنظمة. فهذه هي “التعليمات التي تلقيناها” على حد قول كبار المراسلين الذين امتلأت بهم فنادق العاصمة التونسية. سياسياً ألحق الرئيس كلينتون ووزير خارجيته وارن كريستوفر تصريحاتهما المتحمسة والداعمة للاتفاق، بإجراء اتصالات تلفونية مباشرة مع العديد من زعماء المنطقة، وبعض رؤساء دول العالم. مشددين على ضرورة دعم الاتفاق وإسناده في مواجهة المتطرفين. وقصد الرئيس كلينتون إفهام رؤساء بعض الدول التي عارضت الاتفاق بأنه يرمي بثقله الشخصي خلف الاتفاق. وراحت الادارة تتحدث عن تغيير محتمل في سياستها الرسمية من منظمة التحرير، مشددة على ضرورة أن تظهر المنظمة التزامها بتنفيذ الاتفاق وأن تحترم تواقيعها. وبجانب النشاط الاعلامي والسياسي، ركز قسم الشرق الأوسط في الخارجيه الامريكيه جهوده مع أصحاب اتفاق اوسلوللاسراع في استكمال انجازالاعتراف المتبادل. ودفعوا باتجاه انجاز ترتيبات التوقيع على الاتفاق في واشنطن. لقد تعمدت الادارة الأمريكية الايحاء بأن الاتفاق تم برعايتها وقللت من الدور الذي قامت به النرويج. وراحت تتصرف باعتبارها صاحبة العرس وكاتبة عقد القران. فقد جاء الاتفاق في وقت كانت فيه الادارة الأمريكية في أمس الحاجة الى إنجاز ما في سياستها الخارجية، خاصة بعد إخفاقها في معالجة مشكلة البوسنة، وظهور اخطاء في سياستها في الصومال. وحيث كانت متهمة داخلياً ومن قبل حلفائها الأوروبيين بأنها إدارة ضعيفة مترددة وذات سياسة خارجية مرتبكة.واستندت الى الاتفاق وراحت تشجع الاردنيين والاسرائيليين على الاسراع في التوصل الى اتفاق فيما بينهما، وجندت طاقاتها وطاقات العديد من دول العالم في هذا الاتجاه.
2) حرصت الادارة الامريكية على افهام جميع الاطراف الدولية بان توصل الفلسطينيون والاسرائيليون الى اتفاق بمعزل عن التدخل الامريكي المباشر لا يعني في مطلق الاحوال انتهاء تحكم الولايات المتحدة الامريكية بمسارالمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية. وسارعت الى التحرك باتجاه تكريس استمرار تحكمها بمفردها في العملية وعدم السماح للاطراف الدولية الاخرى، بما في ذلك دول السوق الاوروبية المشتركة ومؤسسات الامم المتحدة، بأحداث أي تغيير في هذا المجال، وعدم الخروج عن الادوار التي تقررها لهم. ولتكريس ذلك وإرضاءً لمنظمة التحرير واستجابة لطلبها بضرورة توفيردعم اقتصادي للاتفاق سارع الوزير كريستوفر واركان الادارة الامريكية الى اجراء عدة اتصالات مع الدول الصناعية الكبرى ومع دول الخليج بهدف توفير دعم مالي واقتصادي للسلطة الفلسطينية الانتقالية التي ستقوم في غزة وأريحا، مؤكدين على ضرورة أن يلمس الناس في الضفة والقطاع تغييرات ايجابية في حياتهم اليومية ومن ضمنها تحسين اوضاعهم المعيشية. ونجحت في اكتوبر 1993في عقد اجتماع دولي في واشنطن حضرة الوزير كريستوفر وما يقارب الاربعين وزيرا ومندوبا عن اكثر من اربعين دولة، اطلق علية اسم اجتماع الدول المانحة للمساعدات المالية والاقتصادية للسلطة الفلسطينية(al donars). وبناءعلى ضغط امريكي خرج ذلك الاجتماع بقرار التزمت فيه الدول الحاضرة بتقديم دعم مالي للسلطة الفلسطينية-قبل قيامها- مقداره ملياران واربعماية الف دولارمقسمة على خمس سنوات، حصة الولايات المتحدة الامريكية فيها500مليون دولار فقط.
3) حافظت الادارة الامريكيةعلى ذات ذات المنهج الذي اتبعته في رعاية المفاوضات منذ اطلاق عملية السلام. ولم تحاول اقحام نفسها في دور مباشر واكتفت بحض م ت ف والحكومة الاسرائيلية على الاسراع في التقدم نحو التوصل الى اتفاق حول تنفيذ اتفاق اوسلو. وقبل وبعد التوصل الى بروتوكولات القاهرة، وخلال فترات تعثر المفاوضات حرصت الادارة الامريكية على افهام الجانب الفلسطيني بأن عليه ان يشطب من قاموسه ولغته كل حديث عن ضغط امريكي على اسرائيل. وافهامه ايضا انها تعتبرما قدمه رابين شيئا ليس بقليل وانه فاق تقديراتها. لقد جرب الفلسطينيون بعد اوسلو وبعد العبور الى غزة واريحا الاستنجاد اكثر من مرة براعيي عملية السلام وبخاصة الراعي الامريكي، وبالامم المتحدة، وبدول السوق الاوروبية المشتركة، الا ان جهودهم باءت بالفشل، وكان الجواب: ان من توصل مع الاسرائيليين الى اتفاق من حجم ونوع اتفاق اوسلو قادر على التوصل الى حلول للقضايا المختلف حولها، لا سيما وانها قضايا تفصيلية واصغر من اتفاق اوسلو واقل شئنا واقل تعقيدا. وفي كل مرة كانوا يتلقون النصائح بالتحلي بالصبر والاستمرار في المفاوضات. ومن الناحية العملية حافظت الادارة على التزاماتها بدعم الموقف الاسرائيلي في المحافل الدولية، وعطلت كل المحاولات الفلسطينية بالاستعانة بمجلس الامن الدولي. وكان آخرها استخدام حق النقض (الفيتو) بشان مصادرة اسرائيل للاراضي الفلسطينية في القدس .وبجانب ذلك مارست ضغوطا على الجانب الفلسطيني لقبول ما تعرضة اسرائيل، وتبنت وجهة النظر الاسرائيلية التي ربطت تنفيذ التزاماتها الواردة في الاتفاق بقدرة السلطة الفلسطينية على توفيرالامن للمستوطنيين وللمواطنيين الاسرائيليين في اسرائيل. ولم تتورع الادارة الامريكية عن استخدام المساعدات الاقتصادية كوسيلة للضغط على السلطة الفلسطينية حيث ربطت تقديمها في كثير من الاحيان بمدى التقدم في المفاوضات. 4) بالاضافة للدعم المالي حرصت الادارة الامريكية على توفير الدعم والحماية السياسية للاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي وللسلطة الفلسطينية. وتعمد المسؤولون الامريكييون الاكثار من التصريحات الداعمة للسلطة الفلسطسنية في مواجهة من تسميهم ارهابيين ومتطرفين. واكثروا من اتصالاتهم العلنية وعلى اعلى المستويات مع السلطة الفلسطينية، بما في ذلك القيام بزيارات مباشرة لمناطق السلطة الوطنية(غزة واريحا).ويمكن القول ان كل المسؤوليين الامريكيين الذين زاروا المنطقة منذ اتفاق اوسلو وحتى الان وهم كثروا تعمدوا اللقاء مع رئيس واركان السلطة الفلسطينية ليحرضوهم ضد الارهاب.. وليمارسوا الضغط عليهم للاستمرار في المفاوضات وفقا للرؤيا الاسرائيلية، ولاتخاذ اجراءات عملية ضد المتطرفين حتى ولو كانت متعارضة تماما مع الاعراف والتقاليد الديمقراطية.

(ب) الموقف التفاوضي الاسرائيلي منذ تشكيل السلطة وحتى الان
منذ توقيع اتفاق القاهرة تصرفت حكومة اسرائيل بدعم امريكي كامل. وكأن الظروف الجديدة تتيح لها تحقيق اقصى قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية، وتجعل منها القوة الاقليمية الكبرى دون ان تضطر مقابل ذلك الى تقديم ما يتطلبه قبولها كدولة من دول المنطقة، من تنازلات عن المكاسب التي حققتها في حروبها السابقة مع العرب. واللوحة العامة التي يمكن استقراؤها نتيجة للمواقف والسلوك الاسرائيلي خلال السنة الماضية اتجاه الفلسطينيين تدلل ان الهدف الاسرائيلي المركزي كان ولازال تقزيم صيغة الحل الانتقالي والنزول بسقفه الى ما دون الحد الادنى الذي جرى التوصل له في اتفاق اوسلو.واعاقة ومنع اقامة كيان وطني فلسطيني متماسك خلال المرحلة الانتقالية. وتحويل الحكم الذاتي الانتقالي الى حكم محدود النطاق والصلاحيات. وتمزيق الترابط الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، واضعاف ثقة الشعب الفلسطيني وثقة دول العالم بقدرة السلطة الفلسطينية على النهوض بمسؤولياتها عن شعب في الضفة والقطاع .
وبغض النظرعن التبريرات والتفسيرات التي يطرحها المفاوضون الاسرائيليون والفسطينيون،حول عدم تنفيذ اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة فالثابت للناس في الضفة والقطاع، ولجميع المتابعين والمراقبين للمفاوضات ان الدور التفاوضي الاسرائيليى منذ تشكيل السلطة الفلسطينية سار على النحو التالي :
ا) شل دور الراعيين واستبعاد الامم المتحدة والاستفراد بالمفاوض الفلسطيني
تدرك القيادة الاسرائيلية أن خلاصة موقفها حول مفهوم السلام تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية ولا تنسجم مع مواقف أي من حلفائها. فهي تعرف ان الاتحاد السوفياتي سابقا، وروسيا لاحقا مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ومع الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي العربية التي احتلت عام 1967، ومع ضمان أمن جميع دول المنطقة. كما وتعرف أن الادارة الامريكية لا توافقها تماماعلى كل مواقفها وبخاصة حول المستوطنات وتنفيذ القرارين 242و338. ولهذا حرصت القيادة الاسرائيلية منذ بداية العملية السياسية على اخراج الامم المتحدة كليا ، وتحجيم وتهميش الدور الرسمي لراعيي المؤتمر، ونجحت في حصره في حدود الدور الاستشاري، وفي تغييب حضورهما على طاولة المفاوضات.
وفي المفاوضات التي تلت اتفاق اوسلو وتشكيل السلطة الفلسينية واصل الجانب الاسرائيلي تكريس صيغة المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين، وروج لمقولته الشهيرة بان تدخل الاخرين في المفاوضات يعقدها ولا يسهلها، مستشهدا بالنجاح الكبير الذي حققته المفاوضات الثنائية السرية التي تمت في اوسلو. ونجح في اخراج الراعيين والامم المتحدة من المفاوضات كليا، وشل دورهما ودور مصر والنرويج كشهودعلى الاتفاقات.وفرغه من مضمونه وحوله الىما يشبه فريق الاطفاء الذي يستدعى عند الطوارىء فقط ولمرة واحدة وللمساعدة في اطفاء الحريق دون السماح له حتى بتحديد المسؤولية او اعطاء التفسيرات لاسباب نشوء الحريق.ويسجل للمفاوض الاسرائيلي نجاحه في فصل مسار المفاوضات مع الفلسطينيين عن المسارات العربية الاخرى، وفي خلق نوعا من التضارب الوهمي فيما بينهما.وايضا في عزل المفاوض الفلسطيني عن المفاوضين العرب الاخرين. وفي خلق المناخ والظروف لانهاء الحد الادنى من التنسيق العربي الذي كان قائما بين الاطراف العربية المشاركة في المفاوضات.
2) الغاء التواريخ وتجميد بعض بنود الاتفاقات
منذ التوقيع على بروتوكولات القاهرة في 4/5/ 94، ابتعدت المفاوضات عن الالتزام بنصوص الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وبخاصة اتفاق اعلان المبادىء والبروتوكولات المنبثقة عنه.، فقد تمكن الجانب الاسرائلي من الغاء التواريخ الواردة في الاتفاقات، ونجح في الفصل بين مصادرة الاراضي والاستيطان في القدس من جهة وبين الحل السياسي من جهة اخرى، وفي اخضاع المفاوضات لقاعدة : من حق المفاوض الفلسطيني ان يطرح على طاولة المفاوضات ما يشاء، لكن المفاوضات الجدية وتنفيذ نتائجها تتم فقط حول ما تبدي اسرائيل استعدادا لبحثة وتنفيذه . وكان من الطبيعي ان يقود العمل بهذه القاعدة الى مأزق في المفاوضات والى تجميد تنفيذ العديد من بنوداتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة. وبخاصة تلك التي تنص على انسحاب قوات الاحتلال من المناطق والمواقع المأهولة بالسكان، واجراء انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية. والى ابقاء قضايا مصادرة الاراضي، والتوسع في الاستيطان، واطلاق سراح المعتقلين، وتنظيم عودة النازحين والمبعدين، وتأمين الممر الآمن بين غزة واريحا، والتحكم في دخول وخروج القيادة الفلسطينية..الخ منذ ذلك التاريخ وحتى الان بانتظار كرم اخلاق رابين، وتحت رحمة الحكومة الاسرائيلية.
3) تغيير العناصر الاساسية في اتفاق اوسلو
القراءة الموضوعية للموقف الاسرائيلي وتجربة عام من المفاوضات تؤكد ان الموقف الاسرائيلي انتقل خلال الاشهرالاخيرة الى حد المجاهرة بنيته الرامية الىاستباق مفاوضات المرحلة النهائية وتغيير العناصر الاساسية في اتفاق اوسلو. فخلال الشهور الاخيرة تسائل العديد من الوزراء والعسكريين الاسرائيليين عما اذا كان على الفلسطينيين والاسرائيليين اجراء تعديلات على بعض نصوص اتفاق اوسلو بعدما ثبت انها غير قابلة للتنفيذ على حد تعبيرهم . وبعضهم طالب بتغييرها من جانب واحد اذا رفض الفلسطينييون. مستخدمين في ذلك ذريعة الامن والتواجد الاستيطاني الكثيف في الضفة الغربية والدعوة الاسرائيلية الى الاتفاق حول الانتخابات واجراؤها بمعزل عن الاتفاق حول انسحاب الجيش الاسرائيلي من الاماكن الاهلة بالسكان كلها تؤكد التوجه الاسرائيلي الرامي الى تحويل الحكم الذاتي في الضفة الغربية الى صيغة من صيغ التقاسم الوظيفي بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي. وهذه الخطة تعني بوضوح احتفاظ اسرائيل بالسيطرة الامنية والجغرافية، وتولي السلطة الفلسطينية الصلاحيات الادارية والوظيفية تحت ظل الحكم العسكري الاسرائيلي والابقاء على قوانين الاحتلال كمرجعية. وبالربط بين هذا التوجه وبين الاجراءات القائمة على الارض، والفصل الامني والاقتصادي، وتكريس عزل القدس، ومصادرة الاراضي لتوسيع الاستيطان وشق الطرق لمنع الاحتكاك بين الفلسطينيين والمستوطنيين، تتضح معالم الحل النهائي الذي تخطط له اسرائيل بقيادة حزب العمل.انه حل لا يتجاوز حدود وجود سلطة فلسطينية مقيدة وخاضعة في غزة واريحا وتمارس حكما ذاتيا اداريا وظيفيا في الضفة الغربية تحت السيطرة الامنية والاقتصادية والقانونية للاحتلال .
4) جعل امن المواطنيين الاسرائيلين ذريعة لكل شيء
تؤكد مجريات المفاوضات ان المفاوض الاسرائيلي نجح في اطالة امد المفاوضات مع الفلسطينيين وفي تجزئة المواضيع بحجة الامن. واستطاع جعل الاعتبار الامني للمواطنيين الاسرائيليين وليس لدولة اسرائيل هوالاعتبار الرئيسي لكل الخطوات الاسرائيلية التي تمت منذ دخول السلطة الىغزة وحتى الان. ويسجل للقيادة الاسرائيلية انها نجحت في تمويه مواقفها وفي اقناع الراي العام العالمي والدول المعنية بعملية السلام في المنطقة بمسؤولية الارهاب والارهابيين الفلسطينيين المدعومين من ايران…عن تعطيل تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين.وفي تحويل حركة حماس والجهاد الاسلامي الى بعبع يهدد امن اسرائيل وكل دول المنطقة، وكرسوا مسؤولية السلطة الفلسطينية عن كل ما تقوم به هاتان الحركتان ضد اسرائيل وضد المستوطنيين وضد الجيش الاسرائيلي الاسرائيلي. ورغم كل المحاولات لم يستطع المفاوض الفلسطيني زحزحة الموقف الاسرائيلي، ومنع الاعتبار الامني من التحكم في مسيرة المفاوضات. اعتقد ان لا ظلم ولاتجن على اذا أتهم رابين وبيريز والمفاوضون الاسرائيليون، بضرب مصلحة السلام العادل والشامل والدائم عرض الحائط وبممارسة الدجل والابتزاز، وبالبراعة في تضليل الرأي العام العالمي وفي تمويه المواقف على امتدا العام الاخير، وفي اجادة كسب الاصدقاء، والحصول على دعم كبير لمواقفما على حساب الفلسطينيين وعلى حساب مصلحة صنع السلام العادل بين الشعبين الفسطيني والاسرائيلي.
هـ) اخضاع المفاوضات والاتفاقات مع الفلسطينيين لاعتبارات الداخلية وبخاصة الانتخابات
بالرغم من ان المدة التي تفصلنا عن الانتخابات الاسرائيلية لازالت غير قصيرة، الا ان كل مدقق في المواقف الاسرائيلية الاخيرة يستطيع ببساطة تلمس دورالانتخابات فيها. وتلمس ان رابين والغالبية العظمى من قادة حزب العمل بدأوا يعملون على قاعدة عين على انتخابات الكنيست الرابعة عشر، وعين على الاتفاقات مع العرب. فالتنافس بين الليكود والعمل على صوت الناخب الاسرائيلي بدأ مبكرا وحملت رياحه الدعوة الى انتخابات برلمانية مبكرة، والى استفتاء الرأي العام الاسرائيلي على الانسحاب من الجولان واعادة النظر في الجوانب الامنية من اتفاق اوسلو. والواضح ان رابين قد حسم موقفه لصالح التشدد في المفاوضات مع الفلسطينيين والتساهل مع المستوطنيين والمتطرفين الاسرائيليين على امل كسب اصواتهم. وانه يعتقد ان التشدد في موضوع الامن، والتساهل مع المتطرفين يساعده على استعادة شعبيته التي فقدها، وتساعده على الفوز في الانتخابات القادمه. واعتقد ان فوز الحزب الجمهوري الامريكي في انتخابات مجلسي الكونغرس والشيوخ الامريكيين قد دخل ايضا في حسابات رابين، فهو على قناعة بأن الادارة الامريكية الحالية اعجزمن ان تمارس عليه اية ضغوطات جدية، وانها فقدت بشكل مبكر قدرتها على التاثير في الاوضاع الدولية وخاصة اوضاع الشرق الاوسط. ويعتقد ان بيع الشق الثاني من اتفاق اوسلو للادارة الامريكية القادمة افضل من بيعه لادارة ضعيفة اغلب الظن انها راحلة. واقدام الحكومة الاسرائلية مؤخرا على الاعلان عن مصادرة 540 دونما بطرقة استعراضية واستفزازية له وظيفة تتعلق بانتخابات الكنيست الى جانب حرص حزب العمل على وضع مستقبل هذه المدينة كليا خارج المفاوضات. لقد اراد رابين وقادة حزب العمل ان يفتحوا حملتهم الانتخابية بقضية القدس بالذات ليجردوا الليكود من ورقة القدس وليزيلوا بعض التشويهات التي الحقها بمواقف حزب العمل حول مستقبل هذه المدينة. وليؤكدوا عمليا للناخب الاسرائيلي انه بالرغم من اتفاق اوسلو ومن تشكيل السلطة الفلسطينية فالقدس كانت وستبقى في نظر حزب العمل عاصمة اسرائيل الابدية. والواضح ان اقتراب موعد الانتخابات الاسرائيلية سوف يعني المزيد من اخضاع المفاوضات مع الفلسطينيين للاعتبارات الانتخابية وللمصالح الحزبية الضيقة مع عدم اخذ المصالح الفلسطينية بعين الاعتبار.
ثالثا/ مراجعة لمواقف السلطة الفلسطينية في المفاوضات
لعل من الضروري قبل الدخول في استعراض دور ومواقف السلطة الفلسطينية في المفاوضات خلال العام الاول من عمرها التأكيد على النقطتين التاليتين: (ا) ان السلطة الوطنية الفلسطينية كهئية وكافراد وكتنظيمات تتحمل المسؤلية الكاملة عن كل الانجازات التي تحققت والاخفاقات التي حصلت في المفاوضات التي تمت منذ التوقيع على بروتوكولات القاهرة وحتى الان. ولا نكشف سرا اذا قلنا ان اطر وهيئات م ت ف بما في ذلك اللجنة التنفيذية واللجنة العليا لمتابعة المفاوضات لم يكن لها أي دورعلىالاطلاق في هذة المفاوضات علما بانها وفقا لقرار المجلس المركزي هي المسؤولة من الناحية القانونية والرسمية عن ادارتها وتوجيهها. واعتقد تعطيل دور اللجنة العليا لمتابعة المفاوضات، وابعاد او ابتعاد الوفد الفلسطيني الذي قاد المفاوضات في واشنطن برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي قد الحق اضرارا كبيرة بالدور الفلسطيني في هذه المفاوضات.حيث تم هدر طاقات فلسطينية هامة اعترف بها كل الذين تابعوا المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من مدريد وحتى اوسلو.وخسرت المفاوضات الفلسطينية خبرات وفد الداخل الثمينة وبخاصة في الشؤؤون الاسرائيلية، وفقدت بعض الدعم الشعبي الذي كانت تؤمنها مصداقية الوفد عند اهل الضفة والقطاع.
(ب) ان ما سيرد من ملاحظات نقديةعلى دور المفاوض الفلسطيني لا يعني ان اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة التي على اساسها تمت المفاوضات كانت خالية من النقواص والثغرات. ولا بد من الاقرار ان هذين الاتفاقين حددا سلفا الدائرة لحركة المفاوض الفلسطيني.
(جـ) بالرغم من هدر الكثير من الحقوق الفلسطينية الواردة في اتفاق اوسلو، فالتقييم الموضوعي بالمنظورالاستراتيجي للصراع يفرض اعتبار كل ما تم انتزاعة من الاسرائيليين مهما كان بسيطا او كبيرا هي مكاسب وانجازات تحسن الموقع الفلسطيني في مراحل المفاوضات اللاحقة اذا احسن المفاوضون الفلسطينيون استخدامها.لاسيما وان اتفاق اوسلو لم يأتي بالحل العادل والشامل والدائم وهذا يعني ان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي سيبقى مفتوحا حول القضايا الاساسية ولحين التوصل الى اتفاق عادل حولها . ولا شك ان فوز الليكود في الانتخابات القادمة قد يؤجج الصراع من جديد. اما بشان دور السلطة الفلسطينية في ادارة المفاوضات فالمراجعة الموضوعية تثبت الاستخلاصات الاساسية التالية:
1) ارتكاب اخطاء في تقدير الموقف الاسرائيلي والسقوط في الاوهام
بعد التوصل الى اتفاق اوسلو ساد صفوف القيادة الفلسطينية اعتقاد بأن السلام العادل والشامل بات يطرق الأبواب الفلسطينية وأبواب منطقة الشرق الأوسط. ونما ذلك الاعتقاد وانتشرعلى أرضية أن ما تضمنه اتفاق اوسلو ليس تحقيق لبعض المصالح فلسطينية فقط، وإنما هناك مصالح إسرائيلية ومصالح دول كبرى فاعلة في المنطقة تحققت أيضا. وان تلاقي المصالح الفلسطينية والإسرائيلية والدولية يشكل ضمانة حقيقية للاتفاق، ويعطي الضمانات الكافية للمضي قدما في تنفيذ كل بنوده حسب التوقيتات الزمنية الواردة فيه. وفي حينها صدقت معظم القيادة الفلسطينية المشرفةعلى المفاوضات ما قالته القيادة الإسرائيلية “من المعروف أن الإسرائيلي عنيد ومتعب في المفاوضات إلا انه مريح عند التنفيذ فهو صاحب كلمة ويحرص على التنفيذ الدقيق لكل ما يوقعه”. لكن هذا الاعتقاد سرعان ما بدأ يتبدد بعد وقوع التماس الأولي مع الجانب الإسرائيلي في المفاوضات التي جرت حول تطبيق المرحلة الأولى من اتفاق إعلان المبادئ والتي اصطلح على تسميتها “غزة أريحا أولا”، حيث عطل رابين تنفيذ الكثير من بنود الاتفاق، وتأخر عبور الشرطة الفلسطينية إلى غزة أريحا ستة اشهر كاملة (من اكتوبر93وحتى ايار94) . ورغم حديث رابين عن “لا تواريخ مقدسة مع الفلسطينيين ” إلا أن القيادة الفلسطينية لدغت مرة ثانية بعد التوقيع على بروتوكولات القاهرة، ومرة ثالثة خلال المفاوضات التي تمت بعد العبورالفلسطيني إلى غزة أريحا، حول تنفيذ المادتين الثالثة والثالثة عشرمن اتفاق إعلان المبادئ والتي تنص على اجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس السلطة الفلسطينية وعلى انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة بالسكان في الضفة الغربية، واعادة نشرها في مواقع محددة يتفق عليها الطرفان. ورغم كل هذه اللدغات يبدو أن المفاوض الفلسطيني لا زال ماض في ذات التقديرات الخاطئة ولازال اسيرا للرغبات الذاتية ويبني مواقفه على اوهام. ولازال يعول على الوعود والمواعيد الإسرائيلية الجديدة، فبدلا من التركيزعلى تجميد بيرز ورابين لنصوص الاتفاقات عاما كاملا نراه يذر الرماد في العيون، وينشر الأمل الخادع في صفوف الشعب الفلسطيني حول اقتراب الاتفاق على اعادة الانتشار وتحديد موعد الانتخابات. وبدلا من مطالبة الدول الشاهدة على توقيع الاتفاق وفي مقدمها الراعي الأمريكي بتحمل مسؤولياته، ومن الاقدام على بعض الخطوات التي تلزمها على تحمل مسؤولياتها نراه يراهن على وقوع تطور في الموقف الاسرائيلي.
2) الخضوع للابتزاز الاسرائيلي وتضييع الكثير من الحقوق الفلسطنية
بعد التوقيع على اتفاق اعلان المبادىء في واشنطن في ايلول 1993بدأت محاولات اسرائيلية جادة لتكريس صيغة بديلة للتعامل مع هذا الاتفاق ومع بنوده المختلفة، ومع اسس وقواعد تطبقة، تتناقض مع جوهر الاتفاق. فبدلا عن كون التفاوض بين الطرفين هو الوسيلة لوضع نصوص الاتفاق موضع التطبيق العملي، فرض الطرف الاسرائيلي تدريجيا صيغة اخرى يقرر فيها الجانب الاسرائيلي وحدة ما ينبغي تطبيقه وما يجب ارجاؤه او وقفه. ولم يتردد راببين في اطلاق تصريحات علنية قال فيها”لا تواريخ مقدسة في الاتفاقات مع الفلسطينيين” واضاف “خير لنا وللفلسطينيين ان نتأخر في تنفيذ الاتفاقات من ان نختلف على التفاصيل”
وبدلا من الاصرار على تنفيذ الاتفاق والتمسك بتواريخه، ورفض التفاوض على اساس هذه القاعدة، واللجوء الى استدراج تدخلات دولية وعربية، خضع المفاوض الفلسطيني للابتزاز الاسرائيلي، وتساهل في تجاوز التواريخ المثبتة في الاتفاقات. ولاحقا وافق على “بروتوكولات القاهرة” والتي تضمنت تفسيرات اسرائيلية مجحفة لاتفاق اوسلو، وجزأت المرحلة الانتقالية وقسمت غزة واريحا الى مراحل متعددة. وبعد العبور الى غزة واريحا انجرف المفاوض الفلسطيني مع المفاوض الاسرائيلية في تهميش دور الراعيين ولم يفكر بالاستناجاد بالعرب، وصدق الاقوال بأن تدخل قوى اخرى في المفاوضات يعقدها. ولم يتمسك بالبنود المتعلقة بالتواجد الدولي(الاجنبي) في غزة واريحا. ولاحقا انساق مع التكتتيكات الاسرائيلية التي ابتعدت بالمفاوضات عن تنفيذ اعلان المبادىء والبروتوكولات المنبثقةعنه. ولهذا تأخر اطلاق سراح آلاف المعتقلين، ولازال ما يزيد عن خمسة الاف منهم يتألمون خلف القضبان. ونجح المفاوض الاسرائيلي في ابقائهم ورقة ابتزاز بيدة. وذات الشيء حصل في قضية المبعدين. ولم ينجح المفاوض الفلسطيني في تخفيف القبضة الاسرائيلية على المعابر، حيث استمر التحكم الاسرائيلي الكلي بها ووضع الفيتوات على عبور هذا القائد او ذاك الكادر، وتم تجاوز الاتفاق الاقتصادي الذي وقع في باريس، ولم يجري البحث الجدي في مساحة اريحا ومساحة المواصي على شواطىء قطاع غزة. وتأخرنقل السلطات المدنية، وتعطل اعادة الانتشار واجراء انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية رغم وجود نصوص واضحة وصريحة فيها. ومسؤولية المفاوض الفلسطيني عن ذلك لا تزول بالقول ان ان الجانب الاسرائيلي كان متعنتا وان العالم لم يستطع ردعه عن تجاوز الاتفاقات.
3) ضعف الوفد وغياب الخطة التفاوضية وكشف الاوراق الفلسطينية
بتأمل سريع لمسيرة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية يمكن الاستنتاج ببساطة ان هذه المفاوضات قد جرت منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الان بدون خطة تفاوضية واضحة، وانها امتازت بالنطنطة فوق المواضيع وسارت بدون مرجعية جماعية. فلا القديم منها بقي ولا الجديد قام. فقد اختفت اللجنة الفلسطينية العليا المعنية عن متابعة المفاوضات وتوجيهها.
وبدون انتقاص من قيمة أحد أظن ان المقارنة بين خبرات وطاقات الوفد الفلسطيني الذي تولى المفاوضات بعد اوسلومع من كان يفاوض في واشنطن تؤكد ان الجانب الفلسطيني خسر بخروج او اخراج وفد واشنطن من المفاوضات خبرات وكفاءات فلسطينية هامة. وان حصر الدور التفاوضي الفلسطيني في بضعة افراد وتدويرهم وتنقيلهم على كل لجان التفاوض المتعددة كان بمثابة ظاهرة غير صحيحة وغير صحية على الاطلاق. ولا نتجنى على احد اذا قلنا ان التجربة اكدت ان مفاوضوا ما بعد اوسلو قاوموا بطرق متعددة انضمام مفاوضين جدد خاصة اذا كانوا اقوياء. وانهم بفقدانهم الخبراء والمستشارين فقدوا زمام المبادرة في المفاوضات وعملوا بردات الفعل. واصيبوا بمرض تبسيط الامور وتسطيحها، وتسرعوا في اطلاق الاحكام حول المواقف الاسرائيلية . ولم يحسنوا الدفاع عن الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات. ولم يستطيعوا كسب الاصدقا وبناء التحالفات الضرورية لتدعيم مواقفها. وانهم تساهلوا وقصروا في استخدام الاوراق المتوفرة بين ايديهم . لقد تأخر معظم المفاوضون الفلسطينيون كثيرا قبل ان يدركوا ان رابين قرر تجميد الشق الثاني من اتفاق اوسلو الى ما بعد خريف 96، وأظن ان بعضهم كان يدركها ولم يشأ الاقرار بها كي لا يحمل المسؤلية عن التضليل وعن نقل المعلومات االخاطئة. والبعض الاخر تصرف ولا زال يتصرف بسذاجة وبنفسية الضعيف المهزوم وصدق ولازال يصدق ما يقال له من بعض الاسرائيليين حول الارهاب والارهابيين، ويضع رغباته وامنياته الشخصية بديلا للحقائق.
اما بشأن كشف الاوراق الفلسطينية فمسيرة المفاوضات منذ غياب لجنة المفاوضات تؤكد ان المفاوض الاسرائيلي لم يكن بحاجة الى بذل الجهود والقيام بالمناورات للتعرف على الموقف الفلسطيني في كل جولة من جولات المفاوضات التي تمت. فالاسهال الاعلامي والصراع الداخلي والتنافس الشخصي كانت كفيلة بذلك. وبسرعة اكتشف المفاوض الاسرائيلي ان المسائل الرمزية لها الاولوية عند المفاوض الفلسطيني. وان ما ترفضه السلطة الفلسطينية اليوم تقبله بعد بضعة ايام او بضعة اسابيع. وما تشكو وتصرخ منه الان تتحمله وتتعايش معه بعد فترة وجيزة. وما تطالب به في هذه الجولة من المفاوضات قد تنساه في الجولة التي تليها، وتتراجع عنه بسرعه اذا ما قدمت لها ترضيات رمزية في مجال آخر أو قضية اخرى.
4)غياب الدعم والاسناد الشعبي للمفاوض الفلسطيني
وبجانب ذلك كله يمكن القول ان المفاوض الفلسطيني دخل مفاوضات ما بعد اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة بدون أي اسناد او دعم شعبي فلسطيني.وانه في المراحل اللاحقة سار في درب المفاوضات وهو مكشوف وبدون أي غطاء من الشعب الفلسطيني ومن قواه السياسية بما في ذلك تلك المشاركة السلطة الفلسطينية. فبعد المماطلة الاسرائيلية في تنفيذ اتفاق اوسلو فقدت المفاوضات الفلسطينيةالاسرائيلية مصدقايتها وظهرت في الساحة الفلسطينية اصوات وازنة طالبت بتعليق المفاوضات ، بما في ذلك صوت ابو مازن الذي قاد المفاوضات السرية ووقع اتفاق اوسلو. ولعل عدم اقدام المفاوض الفلسطيني على مكاشفة شعبه بالصعوبات وبثه ونشرة في بعض مراحل المفاوضات اجواء ايجابية مخادعة ساهمت بدورها في فقدانه المصداقية عند الناس في الضفة والقطاع وعند الفلسطينيين في الشتات .