القضايا العالقة غير قادرة على تعطيل الاحتفال بالاتفاق
بقلم ممدوح نوفل في 26/07/1995
اولا/
اخيرا وبعد مماطلة في المفاوضات استمرت اكثر من عام، قرر رابين الافراج عن بعض اجزاء الشق الثاني من اتفاق اوسلو. وتوصل الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي فجر يوم 10/8/95 في طابا، الى اتفاق تفاهم اولي حول توسيع نطاق الحكم الذاتي الفلسطيني الانتقالي ومده من غزة واريحا الى الضفة الغربية. ومنذ اللحظة الاولى للاعلان عنه اثار الاتفاق الجديد، في الساحتين الفلسطينية والعربية، زوبعة من ردود الافعال المتباينة ومن التساؤلات. منها هل سيتمكن الطرفان من استكمال اتفاقهما الناقص؟ ام ان القضايا العالقة ستنسف ما اتفق عليه؟ وهل ستلتزم اسرائيل بتنفيذ الاتفاق الجديد؟ ام انها سوف تتعامل معه كما تعاملت مع الاتفاقات التي سبقته؟ والواضح ان ردود الافعال والتساؤلات لن تهدأ خلال فترة قصير، وان الاتفاق الجديد سيبقى لفترة طويلة موضع جدل واسع داخل المجتمعين الفلسطيني والاسرائيلي، مثله مثل الاتفاقات التي سبقته. وسيعود الناس لتقييمه بين فترة واخرى، وبخاصة عند كل منعطف حاد تعبره العلاقات الفلسطينية الفلسطينية، والاسرائيلية الفلسطينية، والاسرائيلية الاسرائيلية. واظن انه اول اتفاق تظهر حوله خلافات بين اعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض، ويحاول بعضهم التنصل منه والتهرب من المسؤولية عنه باسلوب غير مباشر وغير صريح.
والقراءة الموضوعية للاتفاق الجديد تفرض جلب اتفاقي اوسلو وبروتوكولات القاهرة للتدقيق فيهما باعتباره الابن الشرعي لهما، وافراز من افرازاتهما.ولعل قراءته بالجملة هي الانسب والاقدر على توضيحه وتحري أبعاه على الطرفين. فقراءته التفصيلية متعذرة في مثل هذا المقال، وقد تتسبب في الغرق في تفاصيله الواسعة. فعدد صفحاته كثيره وتزيد عن 200 صفحة، وملحق به خرائط متعددة ومتنوعة الالوان والمقاسات، وفيه أسماء طرق وقرى لا يعرفها إلا أبناء الضفة الغربية والمستوطنيين. وبالتمعن في الاعلان الجديد، وفي الدوافع والاسباب الحقيقية التي دفعت بالطرفين نحو تحقيق هذه الخطوة الجديدة الان يمكن تثبيت الاستخلاصات الرئيسية التالية:
1) شطب اتفاق اوسلو
نجح المفاوض الاسرائيلي في تكريس مقولة رابين الشهيرة بان لا تواريخ مقدسة في الاتفاقات مع الفلسطينيين وجعلها قاعدة للمفاوضات، واضاف عليها ما هو اخطر منها، وهو ان لا نصوص ولا اتفاقات مقدسة مع الفلسطينيين. فالاتفاق الجديد ينسف من الناحية العملية اتفاق اوسلو ويكرس نفسه بديلا عنه. فما أعطاه للفلسطينيين اقل بكثير من حقوقهم المنصوص عليها في اتفاق اوسلو وبرتوكولات القاهرة. ونصوصه تضمن تعديلات جوهرية على العديد من نصوصهما. وبخاصة المتعلقة بانحساب الجيش الاسرائيلي من المناطق الاهلة بالسكان قبل الانتخابات، وتسليمها للشرطة الفلسطينية، وباعادة الانتشاره من جديد بعد انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية. فاتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة يقسمان الارض الفلسطينية الى منطقتين الاولى تبقى تحت السيطرة الاسرائيلية لحين التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي وتضم الاراضي المقام عليها مستوطنات ومعسكرات. والثانية ما تبقى من الارض الفلسطينية على ان تسلم للسلطة الفلسطينية في المرحلة الثانية من تنفيذ اتفاق اوسلو. وينصان ايضا على انسحاب القوات الاسرائيلية من كل المناطق الاهلة بالسكان قبل الانتخابات وتسليمها للشرطة الفلسطينية المكلفة بالاشراف على امن الانتخابات. وان يكون هناك اعادة انتشارآخر جديد بعد الانتخابات، حيث تتمركز القوات الاسرائيلية في مواقع جديدة محددة يتفق عليها.
اما الاتفاق الجديد فقسم ارض الضفة الغربية الى ثلاثة اقسام، الاول منطقة (ج) وتشمل المسوطنات وطرقها، والقدس بحدودها الحالية،والاراضي التي استقطعتلاغراض عسكرية، واراضي القرى المجاورة للمستوطنات. ويرفض الجانب الاسرائيلي حتى الان رسم حدودها بدقة، ويصر على ضم مدينة الخليل لهذه المنطقة. والثاني منطقة (ب) وتضم الريف الفلسطيني بما في ذلك الاراضي الاميرية. ويصر الاسرائيلي على ابقائها خاضعة لسيطرته الامنية، وعلى بقاء السيادة عليها معلقة.اما الثالث فهو المنطقة(ا) وتشمل اراضي المدن ويصر الجانب الاسرائيلي على حصرها في حدود الخرائط الهيكلية لمدن نابلس، رام الله، جنين، طولكرم، قلقيلية، وبيت لحم. وبجانب ذلك جزأ الاتفاق الجديد الانسحاب من المناطق المأهولة الى مرحلتين الاولى يتم تنفيذها مباشرة وتشمل المنطقة (ا) ومعها 418 قرية في المنطقة (ب). والثانية مؤجلة التنفيذ الى ما بعد انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية. وقسم الانسحاب منها الى ثلاث مراحل يفصل كل واحدة منها عن الاخرى فترة 6شهور يقدر لها ان تنتهي في صيف 1997هذا اذا صدقت النوايا. ويسلب الاتفاق الجديد المسؤولية عن الامن العام من الشرطة الفلسطينية في المنطقة(ب) ويعطي للجيش الاسرائيلي المسؤولية العليا فيها بما في ذلك حق التواجد في العديد من القرى، والسيطرة على كل طرق الضفة. والحق في مطاردة المطلوبين والمخلين بالامن..عند اللزوم داخل المدن والقرىالفلسطينية. ويفرض قيودا على حركة الشرطة الفلسطينية وتنقلاتها بين المنطقة (ا) والمنطقة( ب) ويربط نشاطاتها بموافقته المسبقة.
لاشك ان رابين استثمرا الاوضاع والظروف الفلسطينية والعربية والدولية،وسوء ادارة المفاوضات بشكل جيد، ونجح في التلاعب بنصوص وتواريخ اتفاقي اوسلو وبروتوكولات القاهرة. لكنه يعرف في قرارة نفسه ان ما قام به ليس سوى هروب الى الامام من مواجهة الحقائق ومن دفع الاستحقاقات المطلوبة. ويعرف ايضا ان فرض رغباته على الطرف الفسطيني شيء، وصنع سلام دائم وعادل وخلق تعايش بين الشعبين شيء آخر. وأظن أن الحكومة الاسرائيلية تعرف تماماً أن السلام العادل والشامل والدائم لا يمكن تحقيقه قبل أن يحقق الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة، وقبل الوصول الى اتفاق حول القضايا الكبرى المؤجلة وفي مقدمتها انهاء الوجود الاستيطاني في الضفة والقطاع غزة.
2) القضايا العالقة لا تعطل الاحتفال بالاتفاق
صحيح ان ما اعلن عنه هو اتفاق تفاهم اولي، وان الاتفاق النهائي لم يستكمل، وان عددا من القضايا الفرعية والاساسية لازالت معلقة وتحتاج الى مزيد من المفاوضات، واهمها الوضع في مدينة الخليل،عدد اعضاء مجلس السلطة الفلسطينية، مشاركة اهل القدس في الانتخابات، وموعد اجراء الانتخابات، والعدد النهائي للمعتقلين الذين سيتم الافراج عنهم، ومشكلة السيطرة على المياه وادارتها، ونقل بعض الصلاحيات المدنية الاضافية، وحركة قوات الامن الفلسطيني ونشاطها في بعض المناطق الريفية، ووضع الاماكن الدينية اليهودية في الضفة الغربية. الا ان الصحيح ايضا ان هذه القضايا المعلقة غير قادرة على تعطيل الاحتفال بالاتفاق الجديد، والذي اتفق على ان يكون في الثلث الاول من الشهر القادم في واشنطن. فالمفاوضات حولها جار على قدم وساق. وما انجز ليس بقليل، وهو كاف لاتمام الصفقة بصيغة او اخرى. اضف لذلك ان والدوافع والاسباب التي دفعت برابين الى الافراج الجزئي والمشوة عن الشق الثاني من اتفاق اوسلو لا زالت قائمة، واظنها زادت قليلا بعد اعلان طابا. وذات الشيء ينطبق على رئيس اللجنة التنفيذية وقبولة بعملية النسف التي تمت لاتفاق اوسلو.واعتقد ان تصريحات بعض الوزراء الفلسطينيين التي قللت من قيمه ما تم في طابا تعكس عدم معرفة بعضهم لحقيقة ما جرى، وتبين مدى استخفاف البعض الاخر بذلك.
ولا نذيع سرا اذا قلنا ان الفروقات في المواقف حول بعض القضايا المعلقة المذكورة اعلاه ليست كبيرة لاسيما وانها تجاوزت المبادئ العامة، وبات بالامكان التوصل الى قواسم مشتركة حول بعضها الاخر بعدما قبل الجانب الفلسطيني مكرها وضع اتفاق اوسلوعلى الرف، وقبل تجزأة ومرحلة حقوقه التي نص عليها ذاك الاتفاق. وبعدما صار جهد المفاوض الفلسطيني يتركز حول الحصول على بعض التحسينات المعنوية. فالتواجد العسكري الاسرائيلي قبل وبعض الانتخابات في مدينة الخليل، وفي العديد من القرى الفلسطينية القريبة من المستوطنات، صار مسلم به فلسطينيا . والخلاف يدورحول عدد افراد الشرطة وعدد مراكزها فيها، وحول صلاحياتها ومدى استقلال نشاطاتها. اما بشأن عدد اعضاء المجلس الانتقالي المنوي انتخابه، ومشاركة اهل القدس في الانتخابات فالتداول جار حول العنوان المزدوج للمرشحين، وحول وضع صناديق الاقتراع في البريد. وأعتقد ان اشراك الراعي الامريكي في المفاوضات حول المياه مؤشر على رغبة الطرف الفلسطيني بالوصول الى اتفاق حول الموضوع، لاسيما وأنه وافق على حصر البحث في زيادة حصته وليس سيطرته عليها ووافق على اعتماد البحث عن مصادرجديدة للمياه كحل مؤقت للاشكال. والواضح ان موافقة رابين على اشراك الادارة الامريكية في حل هذه المشكلة دون سواها هي تعبير عن رغبته في تحميلها مسؤولية تغطية بعض النفقات المالية المطلوبة وليس اكثر.
وبغض النظر عن رأي المعارضين للاتفاق، ورأي بعض المفاوضين الفلسطينيين بضرورة عدم الاستعجال، فالاتفاق الجديد سيستكمل بصيغة او اخرى في غضون اسابيع قليلة.وصيغته النهائية لن تشذ عن الاطار العام لاعلان(طابا) بين بيريز وابو عمار. وسيتم التوقيع علية في واشنطن في احتفال دولي مهيب..حتى ولو بقي ناقصا، وبقيت بعض قضاياه معلقة لمفاوضات لاحقة. فتجربة الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية السابقة سارت وفق هذا السيناريو.
اعتقد ان المفاوض الفلسطيني قد تسرع في القبول بانصاف وارباع الحلول لبعض القضايا وكان خيرا له لو انه ابقاها معلقة واجلها الى مفاوضات لاحقة بعد الانتخابات الفلسطينية. ولعل تطبيق هذا الخط على بقية القضايا العالقة خير من القبول بحلول قد تلحق لاحقا اضرارا بالقضية وطنية، لاسيما وان مفاوضات المرحلة النهائية يفترض ان تبدأ بعد عشر شهور من الان. فالرئيسي في هذه المرحلة هو درء اكبر قدر من الاخطار وعدم اغلاق الطريق امام النضال لانتزاع قائمة الحقوق الوطنية المرحلية والتاريخية.
3) الشق الثاني من الاتفاق غير مطروح للتنفيذ
اما بشأن تطبيق الاتفاق الجديد وتنفيذه على الارض فالواضح انه لن يكون سهلا، ولن يسير في طريق مستقيم. فتجربة الاتفاقات السابقة اكدت ان النوايا الاسرائيلية ليست صادقة اتجاه البحث عن صنع سلام عادل وشامل مع الفلسطينيين. واكدت عدم احترام المفاوض الاسرائيلي للاتفاقات مع الفلسطينيين. واصرار بيريز على ربط تنفيذ الاتفاق الجديد بتوفر الامن للاسرائيليين حيثما تواجدوا، بما في ذلك المستوطنيين تعبير عن حفظ “خط الرجعة” للتراجع عن بعض نصوص الاتفاق او تعديلها لاحقا. واظن ان خلافات واسعة ستقع خلال تنفيذ الشق الثاني من الاتفاق الجديد. بعضها سيكون ناتجا عن طبيعة النصوص، وبعضها الاخر سيفتعله الطرف الاسرائيلي القوي ليتلاعب بالتوقيتات الزمنية وليعطل تنفيذ بعض البنود التي وافق عليها في طابا.
ان فرض الطرف الاسرائيلي على الجانب الفليسطيني نصوص هذا الاتفاق يؤكد نواياه في النزول بسقف الحكم الذاتي الذي نص عليه اتفاق اوسلو الى ما دون الحكم الذاتي الكامل ومنعه من التحول مستقبلا الى كيان فلسطيني موحد ومتماسك. فهل استعدت السلطة الفلسطينية لمواجهة هذه التوجهات الاسرائيلية؟ ومواجهة المطامع الاسرائيلية في الارض الفلسطينية؟ ومواجهة تفاعلات الاتفاق؟ وهل ستشارك المعارضة الفلسطينية في تحمل اعباء المرحلة الجديدة؟ حقيقة اشك في ذلك.والجواب العملي سنلمسه في الاسابع القادمة.
ثانيا/ الاتفاق الجديد سيثير العديد من الاشكالات عند الطرفين
قبل الدخول في بحث نتائج الاتفاق على الطرفين اعتقد ان من الضروري التاكيد على ان الاتفاق الجديد ليس اتفاق السلام الشامل والكامل والعادل الذي من اجله ذهب الفلسطينييون الى مدريد قبل اربع سنوات ودخلوا عملية السلام. اوالذي سعت له القوى الفلسطينية والاسرائيلية والاقليمية والدولية المؤمنة بالسلام الحقيقي بين الطرفين. فهو ليس اكثر من اتفاق جزئي ناقص حول قضايا مرحلية في اطاراتفاق انتقالي حول تسوية مؤقته طويلة الاجل. واظن ان هذا التعريف لا يتضمن أي تجنى على احد ولا ينتقص من قيمة الاتفاق، ولا يمس نتائجه. وانطلاقا من المقولة السياسية القائلة بأن الأمور تقاس بنتائجها وبمدى تأثيرهاعلى مسار عملية البحث عن السلام الجارية في المنطقة، وعلى اوضاع الطرفين ومدى تقريبهما من اهدافهما الاساسية يمكن تثبيت الاستخلاصات التالية
اولا/ بغض النظر عن الموقف من الاتفاق الجديد فقد جاء في وقت كانت عملية السلام الجارية في المنطقة في أمس الحاجة لدفعة جديدة تنقلها خطوة اضافية الى الامام، بعدما بقيت تراوح مكانها فترة زادت عن العام. وبعدما فقدت صدقيتها عند الناس وعند القوى المؤمنة بصنع سلام حقيقي في المنطقة. واعتقد ان اشد المعارضين لعملية السلام ولكل الاتفاقات التي تم التوصل لها على المسار الفلسطيني والمسارات العربية الاخرى لا يستطيعون انكار ان الاتفاق الجديد اعطى دفعة جديدة لرحلة البحث الطويلة جدا عن حل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي بالطرق السلمية التي إنطلقت من مدريد نهاية اكتوبر1991. وانه أمد (عملية السلام) بحقنة جديدة تستطيع العيش عليها من الان والى ما بعد الانتخابات الامريكية. واخرجها من حالة الجمود الى حالة جديدة سيكون فيها الكثير من الحركة والنشاط. تعوضها عن ارهاق الذات في البحث عن خطوة جديدة على المسارين السوري واللبناني من الان ولعام كامل على الاقل. وانه سيكون له ما بعده، وسوف يتحول الى حقائق مادية جديدة على ارض المنطقة، وفي العلاقات الاسرائيلية الفلسطينية، والفلسطينية الفلسطينية. وبذات الوقت يخطأ اشد المتحمسين لهذا الاتفاق والمدافعيين عنه من فلسطينيين واسرائيليين ودوليين اذا اعتقدوا انه سينقذ عملية السلام من مأزقها الاستراتيجي الذي عبرته منذ تلاعب رابين بتواريخ وبنصوص اتفاقات اتفاق اوسلو. وايضا اذا تخليوا انه قادر على اعادة المصداقية لها، وبخاصة في الشارع العربي وفي صفوف الفلسطينيين العاديين المقيميين في الضفة الغربية وقطاع غزة وخارجهما.
ثانيا/اعتقد اننا لا ندافع عن احد، ولا نتجنى على احد، اذا قلنا ان الاتفاق الجديد هو اتفاق بين طرف قوي وآخر ضعيف. وانه فرض على الفلسطيني الضعيف من قبل الاسرائيلي القوي دونما اية مراعاة لظروفه واوضاعه وعلاقاته الداخلية والخارجية.ودونما مراعة لمتطلبات صنع السلام العادل والدائم. وان محاكمته بصورة عادلة ومسؤولة تفرض عدم تجريده من سياقه الزمني، وأخذ الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة بالطرفين بعين الاعتبار. فالاتفاق تعبير عن مصالح آنية مباشرة للطرفين. وهو من جهة محصلة لموازين القوى بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي المختلة تماما لصالح الثاني. ونتيجة للاوضاع الاقليمية والدولية المحيطة بالطرفين والضاغطة على الاول والمريحة كليا للثاني. وهو من جهة اخرى ليس ابن لحظته بل نتيجة طبيعية للمنهج والطريقة التي ادار بها المفاوضون الفلسطينييون مفاوضاتهم منذ ما بعد التوقيع على اتفاق اوسلو وحتى الان، وخضوعهم المتواصل لابتزازات رابين. وعدم القدرة على استثمار كل الاوراق المتاحة بما في ذلك ورقة الموقف الشعبي الفلسطيني، وورقة المعارضة الفلسطينية، والورقة او الاوراق العربية. واعتقد ان احتجاج المفاوضين الفلسطينيين وبعض اركان السلطة الفلسطينية على “التنازلات” التي قدمها ابو عمار في الساعات الاخيرة في طابا لا تعفيهم من المسؤولية عن الوصول الى هذا الاتفاق الذي يعترضون عليه. فهم جميعا مسؤولون بنسب متفاوته عن دفع المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية نحو هذه النتيجة شبه المحتمة. لا سيما وان بعضهم اندفع بعد اوسلو في خط أدى الى تجريد المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من شعبيتها ومن عمقها العربي. وصدّقوا مقولة الاسرائيليين بان تدخل اطراف اخرى، بما في ذلك الراعي الامريكي والوسيط النرويجي والمصري يفسد المفاوضات ويعقدها. واظن ان التاريخ سوف يحمل ايضا المعارضة الفلسطينية بكل تلاوينها جانبا من المسؤولية عن الهدر الكبير الذي وقع في الحقوق التي نص عليها اتفاق اوسلو. فهي بمعارضتها السلبية الجامدة، وبسياسة ادارة الظهر بصورة كاملة للسلطة ولمؤسسات المنظمة، وللوقائع والحقائق التي خلقت على ارض الضفة والقطاع ساهمت في الوصول الى هذا الاتفاق الجديد. واعتقد ان استمرار تعامل المعارضة مع الاتفاق الجديد ونتائجه بذات الاساليب التي تعاملت فيها مع الاتفاقات السابقة لن يساهم في تقليص المخاطر الكثيرة التي يحملها.
ثالثا/ قبل الاعلان عن التوصل الى اعلان طابا، تحرك الصراع الاسرائيلي الداخلي بين قوى اليمين وبين الائتلاف الحاكم. ونظم مجلس المستوطنات بدعم من الاحزاب اليمينية حملة سياسية واسعة لنسف أي اتفاق حول توسيع الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية يمكن أن يتوصل له المفاوضون الفلسطينيون والاسرائليون. وقاموا بتحركات شعبية واسعة خرجت في بعض مظاهرها عن المألوف اسرائيليا، واستقطبوا اقسام واسعة من الشارع الاسرائيلي ونجحوا في تمرير اغلاق العديد من الطرق ليس في الضفة الغربية فحسب بل وداخل اسرائيل ذاتها. ومرروا تصادمهم مع قوات الشرطة وحرس الحدود. وقاموا باحتلال العديد من التلال الفلسطينية المجاورة لمستوطتناتهم، ونظموا حركة أعتصام وسلسلة تظاهرات صاخبة وطالبوا بوقف المفاوضات مع الفلسطينيين. وبإجراء استفتاء شعبي حول الموضوع. وبإغلاق بيت الشرق المقر السابق للوفد الفلسطيني الى مفاوضات السلام في مدريد وواشنطن. وترافقت هذه التحركات والنشاطات الميدانية مع محاولات إسقاط حكومة رابين، وتم تقديم عدة اقتراحات داخل الكنيست بحجب الثقة عنها. واصدر عدد من حاخامات اسرائيل فتوى دعوا فيها جنود الجيش الى عصيان الاوامر العسكرية المتعلقة باخلاء المستوطنيين والمستوطنات. وفي حينها ربح المستوطنون الجولة الاولى من الصدام، وأظهروا تفوقهم على رابين وعلى كل قوى السلام في اسرائيل التي لم تحرك ساكنا. واضطر رابين في حينها الى تغيير تعامله معهم. وفرضوا عليه اللقاء مع مجلس المستوطنات وفتح حوار رسمي معهم علما بانه كان يرفض اللقاء بهم. وفي حينها لم يتردد بيريز في اعطاء تصريح قال فيه بان كل المستوطنات ستبقى في مكانها. وترافق ذلك كله مع صدور قرار من المحكمة العليا بالسماح لامناء الهيكل بالصلاة في المسجد الاقصى. ولم يتردد الوزير شمعون شطريت في اعطاء تصريح علني دعا فيه الى تطبيق ما يجري في الحرم الابراهيمي على المسجد الاقصى.
وبالمقابل لم تحرك القوى الوطنية الفلسطينية الحاكمة او المعارضة ساكنا، وجل ما قام به بعضها لم يتعدى اصدار بيان. وترك المواطنون الفلسطينيون يدافعون عن التلال الفلسطينية، ويتصدوا وحدهم لقطعان المستوطنيين. ولم تنجح احزاب السلطة ولا احزاب المعارضة في تنظيم مآزرة جدية للمدافعين عن التلال والمتصدين للمستوطنيين. واذا كان غير واضح حتى الان مدى تأثير هذه التحركات على المفاوضات والمتفاوضين في طابا، ودورها في اخراج الاعلان بالصيغة التي خرجت فيه فالمؤكد انها خدمت المفاوض الاسرائيلي، وساهمت في خلق حالة من الضغط المادي والمعنوي والنفسي على المفاوض الفلسطيني.
والان وبعد التوصل الى اعلان طابا ارتفعت درجات حرارة الصراع في اسرائيل. وتتهم الاحزاب اليمينية الحكومة الاسرائيلية بالتفريط بأرض اسرائيل، وبأمن الاسرائيلين، وصعد المستوطنون من تحركاتهم وصعدوا الى التلال الفلسطينية بأسلحتهم ولم يتورع بعضهم في اطلاق النار على المواطنيين الفلسطينيين. والواضح حسب تصريحات زعماء المستوطنيين، ووفقا للمصالح المباشرة والاستراتيجية البعيدة للاحزاب اليمينية أن هذه التحركات السياسية والنشاطات الميدانية سوف تتواصل لفترة زمنية لاحقة.
اما على الصعيد الفلسطيني فالتحرك العملي الوحيد ظل محصورا في مواجهة اصحاب الارض للمستوطنيين، ولم يشاهد العالم قائدا فلسطينيا معارضا ولا وزيرا من السلطة يتضامن مع الفلاحين علما بانهم جميعا شاهدوا رؤساء الاحزاب الاسرائيلية جميعا وفي مقدمتهم شامير ونتنياهو وهم يتضامنون مع المستوطنيين الذين اعتصموا امام بيت الشرق في القدس..!
وبغض النظر عن النتائج التي ستسفر عنها المفاوضات التكميلية الجارية الان في طابا فالواضح ان الساحة الفلسطينية مقبلة في الاسابيع والشهر القليلة القادمة على مزيد من التمزق والتشرذم الداخلي.لاسيما وان القسم الاول من اتفاق طابا تحدث عن اجراء انتخابات في غضون شهور قليلة. وهناك قوى واتجاهات فلسطينية معارضة ومشاركة في الحكم تعارضها. بعضها يعارض الانتخابات انطلاقا من اعتبارات تنظيمية وذاتية ضيقة، وبعضها الاخر يعارضها انطلاقا من رؤيا وطنية اعتقد انها خاطئة تماما. فمعارضة الاتفاق الجديد وكل الاتفاقات التي سبقته شيء، اما معارضة اجراء الانتخابات فشيء آخر يختلف تماما..
واعتقد ان النقطه السابعة في الاتفاق الجديد ستكون هي الاخرى عامل تفجير لصراعات جديدة في الساحة الفلسطينية. فهي تتحدث عن “تعديل ميثاق منظمة التحرير وشطب البنود التي تشيرالى تدمير دولة اسرائيل، بعد شهرين من بدء المجلس الفلسطيني المنتخب اعماله”.وبغض النظر عن الظروف التي احاطت بالمفاوض الفلسطيني فاني اعتقد ان موافقته على ادراجها في الاتفاق بهذه الصيغة الملزمة كانت خطأ جسيما. ثمنه المرئي هو هروب الطرف الاسرائيلي من تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق طابا. فالمفاوضون الفلسطينيون وكل وزراء السلطة الفلسطينية يعرفون ان الغالبية الساحقة من اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني ترفض شطب الميثاق الوطني وشطب المنظمة قبل قيام الدولة المستقلة على ارض الضفة الغربية والقطاع. لاسيما وان كل الاتفاقات مع الاسرائيليين لم تمكن عددا كبيرا منهم من العودة الى غزة واريحا، ناهيك عن الموقف الاسرائيلي من القضايا الوطنية الكبرى الاخرى.
واعتقد ان الجانب الاسرائيلي سيشهد هو الاخر احتدام في الصراع الداخلي وسوف ترتفع درجة حرارته في الاسابيع والشهور القليلة القادمة اكثر فأكثر. وبغض النظر عن رأي الفلسطينيين المؤيدين اوالمعارضين للاتفاق الجديد، فالمستوطنون والاحزاب اليمينية الاسرائيلية الاخرى ينظرون له على انه بداية نسف لركنين من اركان العقيدة الصهيونية. الاول نسف فكرة اسرائيل الكبرى على ارض الميعاد التي اعطاها الرب لبني اسرائيل.. والثاني نسف حق كل يهود العالم في العودة الى ارض الميعاد هذه، والحق في استيطانها. ويعتبرون تنفيذ الاتفاق الجديد بنصوصه الحالية تعزيز للكيانية الفلسطينية يقود على المدى البعيد الى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. واظنهم جادون حين يقولون بأنهم سيواصلوا نضالهم لاسقاط الاتفاق الجديد واسقاط الحكومة. ولا يستطيع احد ان يسقط من حساباته امكانية اقتداء بعضهم بخطى المجرم غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الايراهيمي الشريف في 10 رمضان 1994(شباط 1994) قبل التوصل الى اتفاق القاهرة وقبل الشروع في تنفيذ اتفاق اوسلو.
واذا كانت الديمقراطية والاحتكام لها كفيلان بضبط الصراع الاسرائيلي الداخلي القادم، فهل سينجح الفلسطينيون في تنظيم خلافاتهم، وضبط صراعاتهم في اطار الوحدة الوطنية، وتوظيفها في خدمة المصالح الوطنية العليا؟ سؤال مطروح على الجميع.