قوة المعارضة غير قادرة تعطيل الاحتفال بالاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي
بقلم ممدوح نوفل في 24/07/1995
بالرغم من العملية العسكرية التي نفذتها حركة حماس يوم 24/7/94في رامات جان القريبة من تل ابيب، فسيقام في آب القادم في حديقة البيت الابيض في واشنطون، إحتفال رسمي للتوقيع على الاتفاق الجديد الذي ستتوصل له السلطة الفلسطينية، (بالنيابة عن منظمة التحرير؟) مع الحكومة الاسرائيلية. ورغم ان العالم أجمع يعرف ان هذا الاتفاق الجديد ليس اول اتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين ولن يكون الاخير، وانه جاء متأخرا عن موعده اكثرمن عام، وان عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي فقدت مصداقيتها، الا انه سيسمع خطابات رنانة حول التقدم في صنع السلام في الشرق الاوسط ، وكلمات طنانة حول شجاعة الرجلين في التقدم على هذا الطريق وفي مواجهة الارهاب. وستنال حركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي نصيبها الكامل في الخطابات. ولن يتطرق أي من الخطباء اطلاقا الى الارهاب الاسرائيلي الذي مورس ضد الفلسطينيين في “عصر السلام”، ولا الى دور التلاعب الاسرائيلي باتفاق اوسلو وتجريده من روحه وتعطيل تنفيذه، في اضعاف مصداقية عملية السلام. كما لن يتطرق احد الى دور عمليات القهر والاهانة والابتزاز واملاء الشروط على العبور وعلى العمل..الخ التي تمارسها سلطات الاحتلال يوميا ضد السلطة الفلسطينية وضد الناس في غزة واريحا في تشجيع كل صنوف الاعمال المضادة للاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وفي اضعاف الثقة بالسلطة الفلسطينية وبكل الاتجاه الفلسطيني الواقعي الذي تحمل المسؤولية عن المجازفة والاندفاع على طريق السلام، وعن تقديم ثمن توجهاته مقدما.
وفي الاحتفال سيشيد الجميع بالدور التاريخي والعظيم للرئيس كلينتون ومساعديه وكل الذين رعووا عملية السلام وساندوها.. فهل الاتفاق الجديد يستحق فعلا كل الطبل والتزمير الدولي الذي سنسمعه وسنراه؟ وما هو دور العوامل الاقيمية والدولية في إخراجه بصيغته النهائية؟ وما هي مدلولات التوصل له الان ؟ في سياق الاجابة على هذه الاسئلة يمكن رصد التالي:
اولا/ القراءة الموضوعية والهادئة لمصالح واوضاع وظروف الائتلاف الحاكم في اسرائيل والسلطة الفلسطينية تبين ان كلا الطرفين باتا أسيرين لعملية السلام، وليس بامكانهما العودة الى الوراء، وان عرفات ورابين ربطا مصيرهما السياسي بعملية السلام الذي انطلقت من مدريد عام 1991، وان لا خيار امامهما سوى مواصلة التفاوض والتوصل بين فترة واخرى الى نتائج عملية ملموسة، حتى ولو كانت صغيرة ومحدودة وغير مرغوبة،ومشوهة وفيها هضم لحقوق الطرف الضعيف وقهر له. وهما يدركان تماما ان التراجع يعني فشلهما وتسليم مقاليد الامور الى خصومهما.
وبغض النظر عن رأي المؤيدين والمتحفظين والمعترضين من العرب والفلسطينيين والاسرائيليين على الحركة الجارية على طريق ـ مدريد ـ واشنطون ـ اوسلو ـ تل ابيب ـ غزة اريحا ـ وعلى كل طبخة السلام الفلسطينية الاسرائيلية، وعن مواقفهم من الاتفاق الجديد القادم ، فالتوصل الى (أي) إتفاق فلسطيني اسرائيلي جديد حول الضفة الغربية، سيؤكد ان عملية (صنع السلام) العربي الاسرائيلي التي انطلقت من مدريد نهاية اكتوبر1991لا زالت حية ومتواصلة. وانها رغم عدم شعبيتها عند الطرفين، وفقدانها للمصداقية، بقيت على قيد الحياة، واصبحت قادرة على إنجاب اتفاقات جديدة. وان “اتفاق غزة واريحا اولا” صار له ثانيا، وسيكون هناك ثالثا بعكس توقعات الكثيرون الذين نعتوا ذاك الاتفاق “باتفاق غزة واريحا اولا واخيرا” .
صحيح ان بعض هذه الاتفاقات أقرب الى المخلوقات المشوهة الا انها بمجرد وجودها تصبح حقائق مادية على أرض الشرق الاوسط، ولها تأثيرها العملي والمباشر على حياة وعلاقات شعوبه وأنظمته، وبخاصة الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. والواقعية تفرض على الجميع، مؤيدين ومعارضين، محبين أو كارهين الاقرار بوجودها وعدم دفن الرؤوس في الرمال..وعدم تجاهلها والتعامل معها بصيغة أو باخرى موضوعية وبعيدة عن النزعات والرغبات الذاتية.
وسيؤكد الاتفاق الجديد ان باص السلام الذي انطلق من مدريد امتلك بعد محطة اوسلو طاقات ذاتية، مكنته هي وقوة الدفع الخارجية المحدودة التي تلقاها، من مواصلة التحرك، ومن تجاوز عبوات المتفجرات والالغام الطبيعية والمفتعلة التي زرعت في طريقه، ومن الانتقال ببطئ وبصورة تدريجية من محطة الى أخرى. وسيعطي لعملية السلام شحنات جديدة تساعدها على مواصلة فرض مزيدا من الحقائق والوقائع الجديدة في المنطقة. واظن انه يفرض على القوى المحلية والاقليمية التي عارضت عملية السلام، ونادت باسقاط اتفاق اوسلو الاقرار بضعف طاقاتها الذاتية. والاعتراف بانها لم تستطع تقديم البديل، وان أساليب عملها التي اتبعتها خلال العام الماضي كانت غير واقعية وغير فعالة وغير جماهيرية. وانها عجزت عن اجهاض العملية، او عرقلة تنفيذ اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة، اومنعهما من تفريخ اتفاقات جديدة. وان الاشياء التي طالبت وتطالب باسقاطها لا تنقص بل تزيد .
ثانيا/ يبين التحري عن دور العامل الدولي في التوصل الى الاتفاق الجديد القادم ان رابين نجح في تحييد هذا العامل، وفي شل قدرته على التأثير في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية. ونجح المفاوض الاسرائيلي في الاستفراد بالمفاوض الفلسطيني، وفي تكرس صيغة المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين. ويسجل له نجاحه في فصل مسار المفاوضات مع الفلسطينيين عن المسارات العربية الاخرى، وفي عزل المفاوض الفلسطيني عن المفاوضين العرب الاخرين. وفي خلق نوعا من التضارب الوهمي فيما بينهما. وفي خلق المناخ والظروف المواتية لانهاء الحد الادنى من التنسيق العربي الذي كان قائما(ايام مفاوضات مدريد وواشنطن) بين الاطراف العربية المشاركة في المفاوضات.
وفي سياق الوصول الى الاتفاق الجديد ثبت رابين مقولته الشهيرة بان تدخل الاخرين في المفاوضات يعقدها ولا يسهلها. وأخرج الراعيين والامم المتحدة والدول المانحة منها كليا، وحجم وهمش دورهم ودور مصر والنرويج حتى كشهود على الاتفاقات السابقة. وفرغه من مضمونه وحوله الى ما يشبه فريق الاطفاء الذي يستدعى عند الطوارىء فقط ولمرة واحدة للمساعدة في اطفاء الحريق، دون السماح له حتى بتحديد المسؤولية، او اعطاء التفسيرات لاسباب نشوء الحريق. وهذا نقيض للوضع القائم على المسارالسوري الان، حيث اصبحت الولايات المتحدة شريكا في المفاوضات، وصار لها الحق في تقديم الاقترحات الهادفة الى تقريب وجهات نظر الطرفين. وكل من يدقق في الاتفاق الجديد سيجده خاليا من اية اشارة الىامكانية الاستعانة بقوات foreign forces التي نصت عليها بروتوكولات القاهرة واتفاق اوسلو. وأظن انه من غير المفهوم لاحد حتى الان كيف ولماذا تخلت السلطة الفلسطينية ببساطة عن المراقبين الدوليين الذين تواجدوا في مدينة الخليل بعد المجزرة البشعة التي ارتكبها المجرم غولدشتاين في الحرم الابراهيمي الشريف؟.
ثالثا/ اظن أني لا أضيف جديدا اذا قلت أن إختيار واشنطن كمكان للتوقييع جاء بناء على رغبة أمريكية اولا، ومنفعة مباشرة لكل من روسيا ورابين وأبو عمار ثانيا. لقد كان بالإمكان إيجاد مكان ما في الشرق الاوسط أسهل واقرب من واشنطن، وكان بالامكان ان يكون الاحتفال بالتقدم الجديد في عملية السلام متواضعا، وصرف تكاليفه للعاطلين عن العمل في غزة مثلاأو للمهجرين الجائعين في البوسنة او أي بلد افريقي آخر..لاسيما وان ما سيحتفل بالتوقيع عليه ليس اتفاق السلام العادل والشامل والنهائي، بل اتفاق مرحلي جزئي، ضمن المرحلة الانتقالية التي ستتواصل حتى نهاية هذا القرن على اقل تقدير..ولم يكن للراعي الامريكي أي دور مميز في صنعه، وذات الشيء ينطبق على الراعي الروسي والدول المانحة.
فالمفاوضات التمهيدية إستمرت قرابة عام كامل بغياب الرعاية الامريكية، وتمت كلها بدون أي تدخل مباشر من أي طرف دولي آخر، ولم تعقد أي من جلساتها على الارض الامريكية. وتنقلت ما بين المدن المصرية، والاسرائيلية، ومناطق السلطة الفلسطينية. والكل يعرف ان الادارة الامريكية رفضت الاستجابة لكل صيحات الاستغاثة وطلبات التدخل التي اطلقها الطرف الفلسطيني خلال العام الاخير، ورفضت مجرد الادلاء بشهادتها حول تفسير إتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة. ومارست ضغوطا على الطرف الفلسطيني لقبول ما يعرضه رابين عليه وصلت حد ربط تقديم اموال الدعم بالاسراع في التوصل هذا الاتفاق.
الا ان حاجة إدارة الرئيس كلينتون الماسة الى خطوة سياسية إعلامية تعزز فيها أوضاعها الداخلية على أبواب عام إنتخابات الرئاسة الامريكية، دفعتها نحو دعوة الاطراف وبالحاح شديد للاحتفال بالزفاف في حديقة البيت الابيض قبل اتمام صفقة الخطبة..ولم تتردد للحظة واحدة في سرقة الجهود البسيطة والمتواضعة التي بذلها المصريون والنرويجيون .
وبغض النظرعن مستوى الذين سيوقعون على الإتفاق الفلسطيني- الاسرائيلي الجديد، فالادارة ترى في هذا الاحتفال عاملا مساعدا لها في التغطية على ضعفها وترددها، وفي التمويه على الفشل التي منيت به سياستها الخارجية حتى الان. وبخاصة عدم قدرتها على بلورة النظام الدولي الجديد الذي وعدت العالم به. والتمويه على تقصيرها في رعاية عملية السلام في الشرق الاوسط،، وعدم نجاحها في كبح جماح (الإرهاب الدولي)، والارهاب داخل الولايات المتحدة ذاتها، وعدم تمكنها من السيطرة على الصراعات الإقليمية المشتعلة في أنحاء متعددة من العالم وبخاصة المتأججة الان في بعض مناطق البلقان.
والتوقيع في واشنطن فيه منفعة أكيدة لروسيا، فمجرد دعوتها للمشاركة في رعاية التوقيع يذكر العالم بأنها لا زالت قوة كبرى يحسب حسابها، وتراعى مصالحها في منطقة مجاورة لها. وانها لازالت شريكا في رعاية عملية صنع السلام بين العرب والاسرئيلين.
أما منفعة رابين وابو عمار من التوقيع في واشنطن، فتكمن في تمكين الاول من توظيف هذا الحدث في إنتخابات الكنيست، ومن تخفيف حدة معارضة اليمين الاسرائيلي للاتفاق الجديد. وتذكير المواطن الاسرائيلي بأهمية إنسجام السياسة الاسرائيلية مع سياسة الولايات المتحدة الامريكية، وأهمية بقاء العلاقة بين الحكومة الاسرائيلية والادارة الامريكية دائما سليمة ومتطورة وغير متوترة. وتوظيف ذلك في الانتخابات القادمة، من خلال تذكير الناخب الاسرائيلي بالأزمة التي عاشتها العلاقة الاسرائيلية الامريكية في عهد الليكود بسبب الخلاف حول عملية السلام وحول ضمانات القروض. وتساعده أيضا في تحميل الادارة الامريكية تبعات هذا الاتفاق ومطالبته المادية والمعنوية، والضغط عليها لدفع او تأمين تكاليف إعادة الانتشار المحدود الذي سيقوم به جيش الاسرائيلي بموجب هذا الاتفاق، وهي على كل حال ليست قليلة، وتتضمن تكاليف بناء المنشئات العسكرية البديلة داخل اسرائيل. وشق الطرق الالتفافية الجديدة حول مدينتي رام الله وبيت لحم وعلى مساحات واسعة من الاراضي الفلسطينية المصادرة لتسهيل حركة المستوطنيين.
أما رئيس السلطة الفلسطينية فالتوقيع على الاتفاق في واشنطن خير له من توقيعه في أي مكان آخر. وشهادة الادارة الامريكية على الاتفاق الجديد خير له من أية شهادة اخرى، رغم معرفته المسبقة بأنها شهادة شكلية، لاسيما وان الراعي الامريكي تصرف في العام الاخير “كشاهد مشفش حاجة”. والتوقيع هناك يمكنه من التقرب من واشنطن، ومن إظهار إستجابته للضغوط الامريكية التي مورست علية، بما في ذلك ربط تقديم الاموال منaldonars بتسريع التوصل للاتفاق. ويمنحه فرصة مطالبة الإدارة الامريكية بالعمل على تغطية تكاليف تجنيد عشرة الاف رجل سوف يضافوا للتسعة عشر الف رجل الموجدين الان في قوات الشرطة الفلسطينية، وقوات الامن الوطني.
واعتقد ان القراءة الموضوعية للاتفاق الجديد ستؤكد انه غير قادر على اعادة المصداقية للاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، ولن ينجح في ازالة الشكوك الفلسطينية في الالتزام الاسرائيلي بتنفيذها. وان الاحتفال المهيب به لا يعكس حقيقته وحقيقة العلاقة بين اصحابه. واظن ان المهللون للاتفاق الجديد، والمبالغون في نتائجه الايجابية على القضية الفلسطينية وعلى الصراع العربي الاسرائيليي يخدعون ويضللون انفسهم ويحاولون تضليل وخداع الآخرين، وذات الشيء ينطبق على كل من يستهتر به ولا يستوعب انعكاساته المباشرة واللاحقة على العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، والفلسطينية العربية، والفلسطينية الفلسطينية.