هل ستعبر الشرطة الفلسطينية مدن الضفة الغربية بأمان وسلام؟
بقلم ممدوح نوفل في 09/08/1995
بغض النظر عن القضايا التي لا زالت مطروحة على أجندة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وعن بعض التصريحات المتشددة التي تصدر بين حين وآخر عن الطرفين، فالواضح أنهما لن يتأخرا كثيرا في الاعلان عن التوصل الى اتفاقهما الجديد. فليس بامكانهما العودة الى الوراء، وظروفهما واوضاعهما الداخلية والخارجية ومصالحهما المباشرة لا تسمح لهما المراوحة في ذات المكان فترة اطول، وتفرض عليهما التحرك ولو خطوات بسيطة الى الامام.وذات الشيء ينطبق على اوضاع ومصالح الاطراف الدولية المستفيدة من هذا الاتفاق وبخاصة مصالح ادارة الرئيس كلينتون.
ووفقا للمتوفر من معلومات يمكن القول أن كابوس الاحتلال سيبدأ الشهر القادم بالزوال التدريجي عن كاهل سكان مدن الضفة الغربية وبلداتها الكبرى. وان طلائع قوات الشرطة الفلسطينية المسلحة والمكونة من 12000رجل سوف تعبرمن غزة واريحا ومن معبري رفح ونهر الاردن الى المدن الفلسطينية. ولا نكشف سرا اذا قلنا ان ما يقارب ال 3000 رجل من الامن الوقائي، والامن المركزي، والامن العسكري، وأمن الرئاسة ومن بقية اجهزة الامن الفلسطينية الاخرى يتواجدون منذ عدة شهور بعلم القيادة الاسرائيلية في هذه المدن والبلدات. وان بعضهم يعمل تحت اسم حركة فتح، وآخرون يتواجدون ويعملون باسم الجهاز الامني الذي ينتمون له.
ويخطأ من يعتقد ان التأخر الذي حصل في تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو كان بسبب طبيعة القضايا المطروحة على طاولة المفاوضات، أو بسبب تشدد وتصلب المفاوضون من الطرفين. فالكل يتذكر كيف تم معالجة تسع قضايا جوهرية على الهاتف يوم 17/8/ 1993 بين بيريز في استكهولم وخلية اوسلو في تونس، عندما كانت المصالح الاسرائيلية تقتضي التوصل الى اتفاق اوسلو. ومنذ التوقيع على بروتوكولات القاهرة في 4/5/ 94 اعتمدت المؤسستين العسكرية والسياسية موقفا موحدا ازاء تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين خلاصته:
(1) اخضاع ابوعمار وسلطتة حديثة التشكيل للاختبار. وامتحان قدرتها،على ضبط الامن في غزة واريحا، وليس في ادارة الاموال وتوظيفها في مجالات تطوير الصحة والتعليم والثقافة والاسكان والزراعة وبقية فروع الاقتصاد الفلسطيني. وفي حينها كان الشك في مواقف رئيس السلطة الفلسطينية وفي قدراته على السيطرة على اوضاع غزة طاغيا على تفكيرالقيادة الاسرائيلية. وكان السؤال الرئيسي المطروح هل ياسر عرفات رجل المرحلة الانتقالية كلها، أم أنه رجل مرحلة “غزة واريحا اولا” فقط ؟
(2) إعطاء الجيش وأجهزة الامن الاسرائيلية الفرصة والوقت اللازمين لاعداد وتهيئة الذات لتقبل منظمة التحرير الفلسطينية (نظريا) باعتبارها قوة غير معادية لاسرائيل. والتعامل معها باعتبارها شريكة في صنع السلام وفي انهاء حالة الحرب والعداء بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. وايضا اعطائها الفرصة والوقت اللازمين للتعرف على قيادة وكوادر الشرطة الفلسطينية عن قرب. ومراقبة سلوكهم وبخاصة ازاء مسألة التعاون والتنسيق الميداني المشترك في مهام ضبط الامن، وفي التعامل مع المعارضة (ومكافحة الارهاب والارهابيين). ولتغيير النظرة لهم من نظرة (قتلة ومخربيين) الى بشر واناس عاديين، وجنود نظاميين يعملون في اطار مؤسسة غيرارهابية وينضبطون لها. ولتقريب الامر للاذهان وتبسيطة عند الاسرائيليين اخترعت القيادة الاسرائيلية في حينها قصة التمييز بين العسكريين الفلسطينيين الملطخة اياديهم بالدم الاسرائيلي، وبين العسكريين الآخرين. وركزت في الذهن الاسرائيلي بأن هناك مقاتل فلسطيني شريف نظيف اليدين، وآخر غير شريف وملطخ اليدين بالدم الاسرائيلي.
(3) أخذ الوقت اللازم لتحسيس الرأي العام الاسرائيلي بفوائد الاتفاق مع الفلسطينيين. وتعريفه بجزء يسير من حقيقة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. والاعتراف غير الصريح وغير الكامل، بان عرب الضفة الغربية وقطاع غزة هم شعب اسمه الشعب الفلسطيني. وتهيئة الرأي العام الاسرائيلي لتقبل فكرة انسحاب جيش الدفاع الاسرائيلي من بعض اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة لانها ليست اراضي اسرائيلية. وترويضه على فكرة وجود سلطة فلسطينية تدير هذه الاراضي وتدير حياة سكانها بمعزل عن التدخل الاسرائيلي المباشر.
والآن وبعد 24 شهرا كاملة من عمر اتفاق اوسلو، وفي عيد ميلاده الثاني13 /9/ يمكن القول ان رابين قطع شوطا كبيرا في عمليات التهيئة والترويض للمجتمع الاسرائيلي. واظهر له منافع الاتفاق مع الفلسطينيين، وبين له انه المدخل الى الاتفاقات مع العرب الاخرين، والى فتح الطرق امام الاقتصاد الاسرائيلي نحو الاسواق العربية. وخلال ذات الفترة جرّع رابين المعارضة الاسرائيلية اتفاق “غزة واريحا اولا” وكل افرازاته ونتائجه العملية. وجس نبضها حول الانسحاب من الضفة الغربية. وشد الحبل معها داخل الكنيست وخارجها حتى نهايته، بما في ذلك اطلاق العنان للمستوطنيين والتسامح معهم في تجاوز الاعراف والقوانيين. ونجح الى حد ما في اظهار حزب الليكود وبقية أحزاب المعارضة بانهم متطرفون ويدعمون اقلية صغيرة خارجة على القانون، ويعرضون الديمقراطية الاسرائيلية للخطر الحقيقي. ولم يتورع عن بث الاشاعات حول وجود تعاون ما بين المتطرفين الاسرائيليين والمتطرفين الفلسطينيين.
وخلال ال14 شهرا الاخيرة استكمل رابين واركانه عمليات الاختبار والتعرف الضروريتين على مواقف ابوعمار ومواقف السلطة الفلسطينية. وعلى السلوك العملي للشرطة الفلسطينية. وورغم تصريحاتهم الابتزازية المتواصلة، أظن ان النتائج التي توصلوا لها فاقت تقديراتهم . فقد نجح رئيس السلطة الفلسطينية في اقناع رابين وكل اركان حكومته،ورعاة الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، بانه رغم المعارضة الفلسطينية والعربية الشديدة التي يواجهها فهو الرجل القوي، والقائد الفلسطيني الوحيد القادر على اتخاذ القرار.وانه مستعد للمضي في الشوط حتى نهايته. وقادر على تنفيذ كل ما يوقع عليه، تنفيذا حرفيا ودقيقا وامينا. وبخاصة في المسائل الامنية التي تهتم بها اسرائيل. ولم يستطيعوا تسجيل نقضه لاي بند جوهري من بنود الاتفاقات التي وقعها معهم. واظنهم قرروا انه ليس رجل غزة واريحا اولافحسب بل ورجل المرحلة الانتقالية بكاملها .
اما بشأن التعرف على سلوك الشرطة الفلسطينية فأظنهم اخذوا وقتهم الكافي، وتعرفوا بصورة تفصيلية على ذهنية ونفسية الغالبية العظمى من قيادتها، وعلى نمط تفكيرها ونوعية اهتماماتها. وتأكدوا خلال العام الاخير بان “المخربين الفلسطينيين” قابلين للتحول السريع الى جنود نظاميين، ينضبطون لكل الاوامر والتعليمات التي تصدر لهم، ويلتزمون بتنفيذها بصورة دقيقة. بما في ذلك التحرك في دوريات مشتركة والتعاون في مجالات العمل الامني المشترك. وأظن ان مراكز الابحاث والدراسات الامنية فوجئت بمسوى الربط والضبط داخل المؤسسة العسكرية الفلسطينية. فلم يسجل على الشرطة الفلسطينية خلال عام كامل أية مخالفة أساسية تمس المصالح الامنية الاسرائيلية، رغم بعض الاهنات والكثير من الاستفزازات التي تعرضت لها من قبل المتطرفين الاسرائيليين، رغم المعاناة الكبيرة التي تعرضت لها الشرطة وكل الشعب الفلسطيني خلال العام الاخير، داخل وخارج المناطق الفلسطينية التي تتواجد فيها الشرطة الفلسطينية.
لا شك ان نجاح ابوعمار والسلطة وقادة الشرطة واجهزة الامن الفلسطينية في هذا الاختبار كان له دورا حاسما في قرار رابين بالافراج الجزئي عن القسم الثاني من اتفاق اوسلو. وفي فتح الطرق والمعابر بعد اسابيع قليلة امام الشرطة الفلسطينية للعبور بسلام وامان الى مدن الضقة الغربية وبلداتها الكبرى. وتدرك السلطة الفلسطينية وقيادة الشرطة أنها مقبلة على اختبار اسرائيلي جديد، وان الشرط الاسرائيلي لتنفيذ الشق الثاني من الاتفاق الجديد، هونجاح السلطة والشرطة وأجهزة الامن الفلسطينية في السيطرة الامنية على المدن والبلدات الفلسطينية التي ستعبرها، وضبط الاوضاع فيها. وهو بالمفهوم الاسرائيلي يعني التعاون والتنسيق والعمل المشترك لمنع تحول مدن الضفة الغربية الى قواعد انطلاق للعمل العسكري ضد المستوطنات والمستوطنيين، الذين يعلنون صباح ومساء بانهم سيبذلون كل جهد مستطاع لتعطيل تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو.
واذا كان الرأي العام الفلسطيني منقسم الان حول تقييم موقع هذه الخطوة في سياق النضال من اجل تحقيق الاهداف الوطنية الفلسطينية المباشرة والبعيدة، فالواقعية تفرض على المعارضين لعملية السلام وللاتفاق الجديد والاتفاقات القديمة التعامل معها باعتبارها حقيقة وبامكانهم ان يصفوها بانها سيئة ومرة. واعتقد ان من حق المؤيدين لعملية السلام واصحاب الاتفاق الجديد أن يعتبروها عكس ذلك تماما، وان يقولوا هذا ما استطعنا انتزاعه في ظل موازين القوى وفي ظل الاوضاع العربية والدولية غير المواتية. واذا كانت وقائع الحياة في مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية هي التي ستعطينا في الشهور والسنوات القادمة الحكم النهائي اليقين، فالثابت ان اسس نجاح الشرطة الفلسطينية والاجهزة الامنية الفلسطينية في السيطرة على المناطق التي سوف تعبرها متوفرة بنسبة اعلى بكثير من تلك التي توفرت لها عند عبورها الى غزة واريحا. ويمكن القول سلفا انها ستنجح في ضبط الامن فيها لاعتبارات عديدة : اولها ان أهالي مدن الضفة الضفة الغربية وقراها ومخيماتها قد سئموا حالة فقدان الامن الاجتماعي، وبحاجة الى شرطة وسلطة غير سلطة الاحتلال، توفر لهم الامن، وتخلصهم من الفوضى العامة ومن الفلتان الامني. وتوقف التعديات على حرياتهم وممتلكاتهم الشخصية. وثانيها ان الشرطة اخذت الوقت الكافي لتحضير الذات للمهمة الجديدة. وستدخل وعندها خبرة عام في الاعمال الامنية والشرطية، وفي التنسيق مع الاسرائيليين في المجال الامني. وتدخل ولديها معلومات وافية عن الاوضاع الاجتماعية وعن كل القوى السياسية الفلسطينية جمعتها لها مجموعات الامن الموجودة في مدن وبلدات الضفة منذ بضعة شهو. وثالها ان الشرطة الفلسطينية تدخل الى مدن الضفة الغربية بدون مقاومة احد، وتدخلها وهي تستند الى قاعدة شعبية تتمثل بالحد الادنى بتنظيم حركة فتح وانصاره. وأظن ان قوى المعارضة الفلسطينية المتواجدة في مدن الضفة سوف تجد نفسها في وضع لا يمكنها من رفع شعار رفض دخول الشرطة الفلسطينية. فمثل هذا الشعار يعني للناس بقاء جيش الاحتلال وبقاء الفلتان الامني.
لا شك ان النجاح المتوقع للشرطة الفلسطينية سوف يكون مؤقتا، وسوف يبقى مهزوزا ومعرضا للانتكاس طالما بقي الاحتلال فوق الارض الفلسطينية.واذا بقي المستوطنون يسرحون ويمرحون على هواهم. واذا لم تتوفر لقمة عيش للناس. ولم يتوفرالقانون ولم يتم تطبيقه بصورة عادلة على الجميع. واذا تعاكس العمل مع القاعدة المعروفة “الشرطة موجودة لخدمة الشعب”.
أعتقد ان دخول الشرطة الفلسطينية الى مدن الضفة الغربية يعني دخول العلاقات الفلسطينية الداخلية طورا جديدا. وهذا الطور يفرض على الجميع التعامل بواقعية وبمسؤولية وطنية عالية. فالخطأ فيه قد يقود الى وقوع ما لا يحمد عقباه على الجميع. فهل سيتوجه الجميع نحو الحوار الوطني؟ ام انهم سيدخلون مرحلة جديدة من الصراع تكون اقسى واكثر ايلاما من الذي شهدناه في العامين الاخيرين؟