الذكرى الرابعة لمؤتمر مدريد مناسبة لمراجعة الحسابات
بقلم ممدوح نوفل في 27/10/1995
في30 اكتوبر الماضي مرت الذكرى الرابعة ل “مؤتمر مدريد لصنع السلام في منطقة الشرق الاوسط ” فقبل اربع سنوات نجح وزير خارجية الولايات المتحدة السابق (بيكر) في اخراج العرب والاسرائيليين من خنادق القتال التي تمترسوا فيها 45عاما. وجرهم بطريقه دبلوماسية الى العاصمة الاسبانية (مدريد). والزمهم الجلوس خلف طاولات المفاوضات وجها لوجها، للبحث في مبادرة امريكية جديدة اطلقها في 6 آذار1991 رئيس الولايات المتحدة الامريكية السابق (بوش) نصت على: صنع السلام العادل والشامل في منطقة الشرق الاوسط، وتسوية الصراع العربي الاسرائيلي على اساس قرارات الامم المتحدة242و338، والارض مقابل السلام، وضمان الامن والاعتراف العربي باسرائيل، وضمان الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني.
واذا كان الثنائي بوش- بيكر لم يستطيعا متابعة مبادرتهما ولم يتمكنا -كافراد- من قطف ثمارها، فالتاريخ سوف يسجل لهما دورهما في إيصال المنطقة إلى المرحلة الجديدة التي تعيشها الان. وعلى كل حال لم ينكر الرئيس كلينتون ووزير خارجيته كريستوفر، دورالثنائي بوش-بيكر في التوصل الى الاتفاقات الفلسطينية والاردنية الاسرائيلية التي تم الاحتفال بالتوقيع عليها في حديقة البيت. ولا يمكن لأي باحث موضوعي في مسار عملية السلام الجارية بين العرب والاسرائيليين تجاهل دورهما، وتجاهل قيمة التقاطهما للحظة التاريخية المناسبة(انتهاء الحرب الباردة، الانتفاضة، وحرب الخليج) ونجاحهما في وضع قطارالسلام الشرق أوسطي على سكته التي عبدت في مدريد، وفي حشر جميع الأطراف في عرباته والزامهم البقاء فيها، وتجنيبه المنزلقات المعقدة التي واجهته خلال العام الأول من مسيرته الوعرة والمعقدة.
وبيكر الإنسان العادي مدير الأعمال حالياً، هو وحده القادر على الإجابة على الاسئلة التالية : هل كان بيكر الوزير واثقاً من نجاح مبادرته، ومن وصول العملية التي بدأها إلى الاتفاقات التي توصلت لها حتى الان؟ أم أن شكوكاً معينة ساورته عند الانطلاق وخلال مسيرة المفاوضات التي رعاها خمسة عشر شهرا؟ وهل كان يتصور قبل اربع سنوات ان تصل اوضاع منطقة الشرق الاوسط، والعلاقات العربية الاسرائيلية الى ما هي عليه الان ؟
وبصرف النظر الجواب، وعن المدى الذي قطعته عملية السلام باتجاه تحقيق اهدافها، وعن المواقف المؤيدة او المعارضة لها، فالثابت ان مؤتمر مدريد كان ولا زال نقطة البداية والانطلاق لكل الذي تعيشه المنطقة الان، فالعملية تحركت من هناك، واحدثت خلال حركتها تغيرات جوهرية في حياة اهلها، وهزت اوضاع الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي بقوة.
وعملية بهذا الحجم من التاثير تستحق بعد اربع سنوات، أن يقوم الباحثون والمفكرون العرب ومن ضمنهم الفلسطينيون، افرادا ومؤسسات، بمراجعتها بصورة موضوعية ومعمقة. والتوقف امام نتائجها، واستشراق آفاقها المستقبلية، واستخلاص الدروس المستفادة منها. واظنهم يخطئون اذا تصرفوا تجاه مؤتمر مدريد كما تتصرف الفراشات اتجاه الشرنقة التي تخرج منها ولا تعود اليها. واذا كانت المصلحة الوطنية الفلسطينية والمصالح العربية المشتركة تفرض على الجميع جعل هذه الذكرى مناسبة لمراجعة مواقفهم منها وتدقيق حساباتهم فيها، والبحث عن قواسم المشتركة، فرؤية الحقائق التالية والاقرار بها يساعد في ذلك:
1) قبل انعقاد مؤتمر مدريد اختلف العرب حول وظيفته واهدافه وحول تقدير نتائج المشاركة فيه. وطرحت في حينه في الساحتين العربية والفلسطينية اسئلة متعددة منها: هل سيتمكن مؤتمر مدريد من النجاح ومن التوصل الى نتائج ملموسة؟ وهل يمكن للمفاوضات مع شامير ان تستمر ؟ أم أن مصيرها سيكون كمصير المحاولات الدولية الكثيرة التي سبقتها؟
قبل مدريد وقبل سنتين او ثلاث سنوات، وقبل التوصل الى المعاهدة الاردنية الاسرائيلية والى اتفاقات طابا والقاهرة واسلو كان لهذه الاسئلة ما يبررها، اما الان فيفترض ان لا تكون مطروحة. فالمفاوضات تواصلت وقلبت أوضاع المنطقة رأسا على عقب، وخلقت حقائق جديدة على الارض كان بعضها حتى فترة قريبة ضربا من الخيال. بعضها جاء في صالح العرب وبعضها يحمل مخاطر جدية على مستقبلهم. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على ان جميع الاطراف باتوا اسرى لها، وأن الاستمرار فيها اصبح الخيار الوحيد عند الاردنيين والفلسطينيين، واظنه صار كذلك بالنسبة للبنانيين والسوريين. واكت وقائع الحياة ان اساليب الاعاقة والعرقلة والتعطيل التي استخدمتها المعارضة لم تنجح في تحقيق غاياتها، واظنها غير مجدية في المرحلة اللاحقة، وتفرض اعادة النظر فيها .
2) لا شك أن استمرار العملية وتواصل المفاوضات مدة اربع سنوات كاملة، وتوصلها الى عدد من الاتفاقات مكنها من مراكمة قوة دفع ذاتية لم تتمكن أي من المحاولات الامريكية او الدولية السابقة من مراكمتها. فكل المبادرات التي سبقت مؤتمر مدريد لم تعمر سوى أسابيع قليلة وبعضها عمر اياما معدودة( باستثناء مفاوضات كامب ديفيد). صحيح أن قوة الدفع الذاتية لم تبلغ مستوى يمكن العملية من الوصول الى الاهداف النهائية الكبرى التي حددها مهندسها (بيكر) الا أن من الخطأ تجاهل قيمة التطور الذي وقع على اهداف الاطراف من المشاركة فيها، وتجاهل أثر ذلك على المفاوضات اللاحقة. فالجانب الاسرائيلي ذهب في عهد الليكود الى مدريد وفي ذهنه تحاشي التصادم مع الادارة الامريكية، وانهاء الانتفاضة، وتسريع هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي واستيعابهم، والعمل على تعطيل وتخريب العملية من داخلها. اما الان فالعملية تحولت عند حزب العمل الى استراتيجية متكاملة، يشتق منها سياساته الخارجية والداخلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويتصرف على اساس انها وسيلته الرئيسية الى تطبيع العلاقات مع الدول العربية. وذات الشيء ينطبق على الاطراف العربية المشاركة فيها. فكلهم تجاوزوا حالة التردد والتحفظ التي طغت على مواقفهم في العامين الاولين من المفاوضات. واصبحت استمرارية المشاركة في عملية البحث عن صنع السلام في المنطقة ركنا اساسيا في سياساتهم وعلاقاتهم الداخلية والاقليمية والدولية. ويستطيع كل من يدقق في مسار المفاوضات ملاحظة انه بدخول م ت ف على خط المفاوضات مباشرة، وتشكيل السلطة الفلسطينية امتلكت العملية قوة دفع اضافية هائلة اظنها تكفي لاستمرارها على المسار الفلسطيني الاسرائيلي بضع سنوات اخرى.
ولعل انعقاد مؤتمر التنمية الاقتصادية في الشرق لاوسط العام الماضي في الدار البيضاء، وانعقاد القمة الامريكية، المصرية، الاردنية، الفلسطينية،الاسرائيلية اواخر شهر ايلول الماضي في واشنطن، وانعقاد مؤتمر عمان الاقتصادي هذه الايام وبهذا الحشد الدولي الكبير، تظهر نوعية الطاقة الذاتية والدولية التي صارت تحرك عملية السلام، وتبين المنحى الرئيسي الذي ستسير فيه المفاوضات العربية الاسرائيلية خلال السنوات القادمة.
3) لا يستطيع أي من اصحاب وجهات النظر المتباينة حول عملية السلام الادعاء بان نتائج العملية ووقائع الحياة اكدت صحة وجهة نظرة كاملة، او الجزم بان مسيراتها اللاحقة ونتيجتها النهائية سوف تؤكدها وتفند سواها. فمراجعة المواقف تؤكد ان المعارضين بالغوا في تقدير مساوئ المشاركة في عملية السلام، ويبالغون الان في تقدير مخاطر ومساوئ الاتفاقات التي تم التوصل لها، وبالمقابل بالغ المؤيدون في تقدير طبيعة المفاوضات ونتائج المشاركة فيها، وطبيعة دور الراعي الامريكي، وكثير منهم يبالغ الان في تجميل الاوضاع وتجميل فوائد الاتفاقات التي تم التوصل لها، ويقلل من الاخطار الاستراتيجية التي تحملها في ثناياها.
واذا كان ليس بامكان المعارضون لعملية السلام الاستمرار في تعاملهم معها وكأنها لم تحقق شيئا على الاطلاق سوى السلبيات ، فالمؤيدون لها لا يستطيعون الجزم بان وصول قطار السلام الذي انطلق من مدريد ووصل محطات اوسلو، القاهرة، وادي عربة، وطابا، قادر على الوصول الى محطته النهائية. أي انهاء الصراع العربي الاسرائيلي، وصنع السلام (وليس التسوية) العادل والشامل والدائم في المنطقة، وفتح صفحة جديدة في العلاقة بين الشعوب العربية وشعب اسرائيل. فالوصول الى هذه المحطة يتطلب تغيير جذري في التفكير الاسرائيلي، ويتطلب الانسحاب من الجولان، ومن جنوب لبنان، والانسحاب الكامل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وازالة المستوطنيين والمستوطنات منهما، وحل قضية اللاجئين حلا عادلا ووفقا لقرارات الشرعية الدولية. والتوقف عن اعتبار مدينة القدس بشقيها الغربي والشرقي عاصمة اسرائيل الابدية، والاقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيرة بنفسة، وفي اقامة دولته المستقلة.
ومن البداهة القول ان الوصول الى اتفاقات اولية مرحلية وجزئية وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين عدد من الانظمة العربية والحكومة الاسرائيلية لا يعني الوصول الى السلام الشامل والعادل والدائم، ولا يعني ايضا زوال رواسب العداء والشك الذي غرسته علاقات المرحلة الطويلة الماضية في الذاكرة الفلسطينية والعربية وفي الذاكرة الاسرائيلية. فمسحها وزوال آثارها يحتاج الى وقت طويل وجهد كبير. وتسريع زوالها من الذاكرة الفلسطينية بالتحديد يحتاج الى اعتراف اسرائيلي وبريطاني بالمسؤولية بنسبة أو بأخرى عن الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني خلال النصف الاخير من هذا القرن. والى إعتراف دولي وأمريكي على وجه الخوص بالمسؤلية عن استمرار العذاب الفلسطيني قرابة نصف قرن من الزمن. ومن البداهة القول ايضا ان عدم معالجة القضايا الاساسية المذكورة اعلاه يسكّن القضية، ويخدّر الصراع لفترة، ويبقي ما تحقق على المسارين الفلسطيني والاردني عرضة للمراوحة في ذات المكان. وقد يقود على المدى الطويل الى تآكله وتراجعها وانتهاء مفعوله.
4) وفي سياق الحديث عن مراجعة الحسابات اعتقد ان على الجميع الاقرار بان عبور القيادة الفلسطينية ومعها الغالبية الساحقة من كوادر م. ت. ف. المدنية والعسكرية الى غزة واريحا وبقية مناطق الضفة الغربية، وتشكيل السلطة الوطنية هناك، وتعامل العالم مع هذه السلطة باعتبارها القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، قد نقلت مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية، ومركز القرار الفلسطيني من الخارج الى الداخل، وحررتهما الى حد كبير من التدخلات العربية الرسمية المتنوعة، واوجدت هيكلا لكيان سياسي فلسطيني على الارض.
واذا كان الانتقال والتحرر ووجود الكيان السياسي تعتبر موضوعيا انجازات وطنية، فان على المفكرين الفلسطينيين معالجة المعضلات الموضوعية التي رافقتهما واهمها: تقييد علاقة السلطة الفلسطينية مع اسرائيل بعدد من الاتفاقات، وتنامي التدخل الاسرائيلي في بناء اسس هذا الكيان، وتدخل الدول المانحة وبخاصة الامريكي في صياغة القرارالفلسطيني. وضمور دور م. ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب الفلسطيني، وتعرضها كمؤسسة للتآكل والاهتراء، في وقت ما زال نصف الشعب الفلسطيني يعيش خارج وطنه، وما زالت قضايا الارض والمياه واللاجئين والنازحين والمستوطنات والقدس والحدود بدون حلول .
وفي الذكرى الرابعة لانعقاد مؤتمر مدريد يجب القول بصوت مرتفع لكل الاطراف العربية التي شاركت فيه: ان تفرقكم وغياب التنسيق فيما بينكم الحق اضرارا بالقضايا العربية العادلة، واضعف مواقفكم التفاوضية. ومكّن الجانب الاسرائيلي من دفع العملية نحو الابتعاد كثيرا عن الاسس والقواعد التي قامت عليها في مدريد. وجعل المفاوضات تسير منذ التوقيع على اتفاق اوسلو وعلى المعاهدة الاردنية الاسرائيلية بدون تدخل مباشراو مراقبة جدية من قبل الراعيين. ومكن الراعي الامريكي من حصر دوره في امرين الاول ممارسة الضغط المادي والمعنوي على الاطراف العربية، ودفعها باتجاه التجاوب مع المواقف الاسرائيلية والاقتراب منها. والثاني قطف ثمار الاتفاقات وتوظيفها في توسيع مصالحه في المنطقة وعلى المستوى الدولي، وفي خدمة مصالحه الحزبية الداخلية، ودون أي مقابل يقدمه للاطراف العربية.
ولعل اخطر الامور واسوأها بالنسبة الجانب العربي هو تحويل ذكرى مدريد الى مناسبة لتصفية الحسابات، وتبادل الاتهامات، والدخول في مبارزة نظرية حول من كان موقفه صائبا ومن كان موقفه خاطئا، فمثل هذا الجدل يضر بالجميع ولايفيد القضية في شيء.