آفاق الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد اتفاق طابا، واغتيال رابين
بقلم ممدوح نوفل في 14/11/1995
آفاق الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد اتفاق طابا، واغتيال رابين
سياسيا، امنيا، اقتصاديا، اجراء الانتخابات، والاقتراب من الاهداف النهائية.
آفاق اتفاق طابا بعد اغتيال رابين
بعد مماطلة استمرت 14شهرا افرج الجانب الاسرائيلي عن الشق الثاني من اتفاق اوسلو، وتوصل الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي الى اتفاق في طابا. وتم توقيعه في البيت الابيض يوم 28 ايلول الماضي. ومنذ توقيعه، اثار هذا الاتفاق ردود افعال دولية وعربية وفلسطينية واسرائيلية متباينة. ورغم قصر الفترة الزمنية التي مرت على توقيعه الا ان تفاعلاته كانت قوية وعنيفة، فاقت كل التوقعات، وبخاصة داخل اسرائيل. دوليا نال الاتفاق من التأييد ما لم ينله أي اتفاق عربي او فلسطيني اسرائيلي آخر بما في ذلك اتفاقات كامب ديفيد المصرية الاسرائيلية اولى الاتفاقات العربية الاسرائيلية. اما على الصعيد العربي والفلسطيني والاسرائيلي فقد اضاف الاتفاق قضايا خلافية جديدة للقضايا القديمة التي كان مختلف حولها. وظهر في صفوف جميع الاطراف المعنية مباشرة بالصراع قوى فاعلة عارضته بشدة، وتتمنى له الوفاه اليوم قبل الغد، وتعمل جاهدة على تعطيل تنفيذه. فاحزاب المعارضة الفلسطينية والعربية رفضته وادانة التوقيع عليه، وبعضها اعتبره كارثة وطنية، والبعض الاخر اتهم السلطة الفلسطينية بالتفريط والاستسلام .
اما في اسرائيل فقد تداعت احزاب اليمين وممثلوا المستوطنات الى اجتماع، واعتبروا يوم توقيعه يوما اسودا في تاريخ اسرائيل وتاريخ كل يهود العالم. واقسموا على العمل بكل السبل من اجل تعطيل تنفيذه، حفاظا على ارض اسرائيل التاريخية، وعلى حق اليهود في استيطان يهودا والسامرا. وقاموا بتحركات احتجاجية واسعة داخل اسرائيل وفي مناطق الاستيطان في الضفة الغربية، تجاوزوا فيها الاعراف والتقاليد الديمقراطية الاسرائيلية، وخرقوا القوانيين الرسمية. وفي حينها تسساهل رابين معهم، وفي بعض الاحيان عاقب الفلسطينيين بدلا من معاقبتهم كما حصل عند وقوع مجزرة الحرم الابراهيمي في الخليل. وهذا شجعهم على التمادي في مواقفهم وتصعيد خرق القوانين. واتهموا رابين وبيريز بالخيانة الوطنية، وتوجوا تحركاتهم الاحتجاجية باغتيال رابين يوم 4/11/1995. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف في صفوف الفلسطينيين والاسرائيليين المؤيدين او المعارضين لعملية السلام، على ان اتفاق طابا عمق الصراع داخل المجتمع الاسرائيلي، وكان بمثابة “القشات القليلة التي قصمت ظهر الجمل”، وعجل في انهاء حياة رابين. فالقاتل اعلن صراحة انه اقدم على اغتيال رابين بأمر من الله.. لان رابين فرط بارض الميعاد، ويريد التضحية بالمستوطنيين وبالمستوطنات.
وتخطئ كل القوى الدولية والاقليمية الساعية الى صنع السلام في المنطقة اذا اعتقدت ان قتل رابين هو اول وآخر عملية اغتيال ترتكب بحق عملية السلام وبحق اركانها. فالذين خططوا لقتل رابين لن يترددوا لاحقا عن تكرار جريمتهم ضد آخرين، وبخاصة بعض القادة الفلسطينيين. لاسيما اذا تم التهاون معهم كما تهاون رابين وقادة حزب العمل مع المستوطنيين والقوى المتطرفة سابقا. وهناك في الجانب الفلسطيني والعربي من يفكر باللجوء الى ذات الاساليب. ويخطئ كل من يبسط ويستصغر النتائج والانعكاسات السلبية لعملية اغتيال رابين. فالمتطرفون الاسرائيلييون اعداء السلام والتعايش مع العرب نجحوا في توجيه ضربة استراتيجية لعملية السلام قد لا تظهر نتائجها خلال الشهور القليلة القادمة. واذا كان من المتعذر الان تقدير كل آثار اغتيال رابين على عملية السلام ومستقبلها، فالمرجح :
1) ان معركة تنفيذ اتفاق طابا كانت قبل مقتل رابين صعبة ومعقدة، داخل اسرائيل وفي العلاقة مع الفلسطينيين. وكان واضحا للجميع انها لن تسير في خط مستقيم. واظن ان لا خلاف على انها بعد مماته سوف تكون اصعب واعقد بكثير. فليس سرا ان وزير الداخلية الحالي ايهود براك المرشح لخلافة رابين في وزارة الدفاع كان متحفظا على هذا الاتفاق، مثلما كان هناك جنرالات عاملون في الجيش متحفظون على كيفية اعادة انتشار قوات الجيش الاسرائيلي في الضف الغربية. وليس سرا ان هناك وزراء وشخصيات قيادة في حزب العمل لها تحفظات واضحة على الاتفاقيات التي تم توقيعها مع الفلسطينيين وبخاصة اتفاق طابا. واذا كان الدور الشخصي لرابين كان قادرا على تجميد او تخفيف دور المعارضة داخل حزب العمل وبين ممثليه داخل الكنيست فليس من المنتظر ان يتمكن بيريز من احتواء الخلافات السياسية داخل حزبه الا عن طريق المساومات حول تنفيذ السياسية الاسرائيلية الحالية، والبحث عن قواسم مشتركة بين اجنحة الحزب المختلفة. الامر الذي سيؤثر سلبا على تنفيذ اتفاق اتفاق طابا، ولا يبشر بخير عند بدء محادثات المرحلة النهائية حول الحل الدائم والمقدر لها ان تبدأ في الرابع من ايار القادم. ولا نمس من طاقات بيريز اذا قلنا انه لا يملك الثقل السياسي والمعنوي الذي كان يتمتع به رابين وبخاصة داخل المؤسسة العسكرية. لقد نقل عن المفاوضين الفلسطينيين الذين شاركوا في مفاوضات طابا قصصا كثيرة ومتنوعة عن المواقف السلبية لبعض الجنرالات من الاتفاق، وعن تعاملهم بصورة فجة وجلفة مع بيريز، وانهم كثيرا ما وجهوا له الاهانات الشخصية امام الجميع. ولذا فمن غير المستبعد ان يستغل الجناح المتشدد داخل الحزب وداخل المؤسسة العسكرية، بقيادة ايهودابراك، اتفاق طابا لافتعال الازمات مع بيريز، ليعطلوا تنفيذ ما يمكن تعطيله من بنود الاتفاق.
2) اعتقد ان الشق الاول من اتفاق طابا والمتعلق بالانسحاب من المدن والقرى الفلسطينية، وبنقل السلطات المدنية، سيتم تنفيذه وفقا للجدول الزمني الاسرائيلي. اما بشأن التوصل الى اتفاقات مع الفلسطينيين حول الشق الثاني من ذات الاتفاق أي الانسحاب من المنطقة (جـ) ومن مدينة الخليل، واجراء الانتخابات الفسطينية، وتنصيب المجلس المنتخب، والغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني فالمرجح ان تقع حولها خلافات تعطل تنفيذ بعضها، وتعقد العلاقات بين الطرفين. لاسيما وان تنفيذ هذه القضايا سوف يتداخل مع فترة الانتخابات الاسرائيلية، سواء تم تبكيرها او جرت في موعدها الطبيعي. وخلال فترة الانتخابات سيضطر بيريز وكل اركان الاتجاه المعتدل في قيادة حزب العمل مراعاة الاتجاه المتشدد بصيغة او اخرى، ومجاراة المتشددين في الشارع الاسرائيلي، لكسب مزيد من الاصوات في الانتخابات .
3) اما بشأن امكانية التوصل الى اتفاق بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي حول قضايا الحل النهائي (القدس، اللاجئين، عودة النازحين، الاستيطان، الحدود، الترتيبات الامنية النهائية، السيطرة على المياه، الخليل) فالواضح انها اصبحت الان اصعب واعقد بما لا يقاس فيما لو بقي رابين على قيد الحياة. فبغياب رابين فقدت اسرائيل الرجل القوي القادر على اتخاذ القرارات الكبيرة الصعبة وتامين الدعم الشعبي والبرلماني لقراراته. وفقد حزب العمل القائد المجمع حوله والمسلم بدوره الريادي. واذا كانت المصيبة التي ألمّت بحزب العمل تفرض على كل اتجاهاته التوحد خلال الشهور القادمة خلف قائد جديد، وحول قضايا وافق عليها رابين، فلن يكون سهلا على بيريز خليفة رابين الحفاظ على وحدة حزب العمل عندما تحين ساعة تقديم الاستحقاقات الكبرى المذكورة اعلاه، غير المتفق عليها في حياة رابين. ولعل من المفيد القول ان الفكر الذي قتل رابين بسبب اتفاق طابا المتعلق بالانسحاب الجزئي من الضفة الغربية سيعمل بكل السبل على اغتيال كل من يفكر بانهاء الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ناهيك عن التفكير بعودة النازحين، والتفكير بمعالجة بعض حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
اعتقد ان محاربة التطرف والعنصرية والفاشية في اسرائيل اصبحت مهمة حيوية وملحة للراي العام العالمي ولكل القوى المناهضة لها، وصار مطلوبا من الجميع وقف كل اشكال المساندة المعنوية والمادية التي يتلقاها المتطرفون في اسرائيل، من هذا البلد او ذاك، بصورة رسمية او غير رسمية. ومصلحة صنع السلام والاستقرار في المنطقة، تفرض على الادارة الامريكية قبل سواها فرض حظر جدي على كل نشاط للجالية اليهودية يؤدي الى دعم المستوطنيين وبقية المتطرفين في اسرائيل. ومعالجة مواقف الكونغرس المتطرفة والداعمة لليمين وللمتطرفين في اسرائيل. وتفرض على كل القوى الدولية والاقليمية التي رعت وساندت عملية السلام خلال اربع سنوات، التحرك بسرعة باتجاه تسريع تنفيذ نصوص اتفاق طابا كلها ووفقا للجدول الزمني المحدد لها. ومساعدة قوى السلام في اسرائيل على مجابهة الافكار العنصرية اليمينية المتطرفة، وشن اوسسع حملة فكرية وسياسية ضد اعداء السلام العادل، وتمكينها من اعادة الامساك بزمام المبادرة من جديد، وفرض قيودا جدية على الاستيطان، والحد من التصرفات العنجهية لكل المتطرفين وتجريدهم من اسلحتهم. ومساعدتها على خوض معركة انتخابية ناجحة تحصل فيها على اغلبية كبيرة في الكنيست. وتنفيذ كل الاتفاقات التي وقعها رابين. وفي هذا السياق اعتقد ان تفعيل دور الامم المتحدة ورعاة عملية السلام في الاشراف على تنفيذ الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية صار له ضرورة اكثر من أي وقت مضى. فبقاء زمام المبادرة بيد العنصرين المتطرفين، قتلة رابين، اعداء السلام والتعايش بين العرب والاسرائيلين، يدفعهم الى المضي قدما في تنفيذ الحلقات اللاحقة من مشروعهم الفاشي الدموي الرهيب. وينذر بعواقب وخيمة في المدى الطويل على مجمل عملية السلام وعلى الاتفاقات التي تم التوصل لها. وقد تطال المنطقة برمتها ويحول الصراع الى صراع ديني ويشعل حروب مقدسة يعاد فيها حشد القوى واصطفافها على اسس جديدة.
الأفاق السياسية بعد اتفاق طابا
قبل الدخول في بحث آفاق اتفاق طابا ونتائجه السياسية والاقتصادية والامنية على وضع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، لا بد من تأكيد ان التقييم الموضوعي لافاق الاتفاق، يفرض على جميع الاطراف الفلسطينية التعامل معه بواقعية. فالمعارضون مطالبون بالاقرار بوجوده كما هو تماما، والتعامل معه باعتباره صار حقيقة من حقائق العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، مع حقهم الاستمرار في تقيمه بأنه سيئا ونعته باشع النعوت واقبح الاوصاف. فلا مصلحة لاي طرف فلسطيني في تجميله، واخفاء عيوبه ونواقصه وأخطاره على الارض الفلسطينية، وعلى حياة الناس في الضفة والقطاع. فأشد المتحمسين له يعرفون انه خطوة اضافية على طريق طويلة ومعقدة جدا، وانه اتفاق جزئي في اطار اتفاق مرحلي. ولا يستطيعون انكار أنه دون الطموحات الفلسطينية، وأنه جزّء ومرّحل الحقوق الفلسطينية التي نص عليها اتفاق اوسلو(ناهيك عن بقية الحقوق الوطنية) واحال بعضها الى المفاوضات اللاحقة، وبخاصة ما يتعلق بالانسحاب، وبالسيادة على الارض والمياة، واطلاق سراح المعتقلين، وبالممر الآمن بين الضفة والقطاع. وأن النوايا الاسرائيلية السيئة التي اظهرتها التجربة السابقة، وأكدتها صياغة نصوص الاتفاق، وما تلاه من تلاعب ومماطلات في تنفيذه منذ توقيعه وحتى الان، قد يحول مدن الضفة الغربية الى جزر معزولة عن بعضها البعض، وقد يعقّد العلاقة اليومية التجارية والاجتماعية بينها وبين التجمعات السكانية في الارياف. وقد يقود الى الفصل اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا بين الضفة وقطاع غزة. وليس عسيرا على كل من يريد البحث عن الثغرات والسلبيات في اتفاق طابا ان يضيف الكثير على ما ذكر اعلاه.
وبالمقابل لا يستطيع ألد أعداء الاتفاق تلبيسه تهمة اغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع من أجل تحقيق حقوقه الوطنية الكثيرة المغتصبة. لقد وافق الفلسطينيون منذ بداية عملية السلام على مرحلة اهدافهم المرحلية التي حددوها لانفسهم في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني. وقبلوا تاجيل بحث القضايا الرئيسية (اللاجئين، االقدس) الى مفاوضات الحل النهائي، التي يفترض ان تبدأ في ايار القادم. وفي اتفاق اوسلو وافقوا على اضافة موضوع الاستيطان والسيادة على الارض الى القضايا المؤجلة. والاتفاق الجديد(طابا) راكم قضايا جديدة فوق تلك القضايا المؤجلة. فما لم يستطع المفاوض الفلسطيني انتزاعه أجله مكرها، وأحاله للمفاوضات اللاحقة. ويجب الاعتراف ان هذا التأجيل فيه خضوع للابتزاز الاسرائيلي، وفيه هضم للحقوق، ويحمل في طياته اخطار تبديد بعض هذه الحقوق. وبالمقابل يجب انصاف الحقيقة والاعتراف ايضا ان تأجيل بحث هذه المسائل لا يعني من الناحية النظرية ضياعها. فاذا كان للجانب الاسرائيلي تفسيرا خاصا لكل القضايا الاساسية المؤجلة فللفلسطينيين تفسيرهم ايضا. ولصنع السلام الحقيقي القابل للحياة استحقاقاته، وبدون دفعها مقدما او متاخرة تتحول العملية الجارية الى نوع من الهدنة او التسوية المؤقتة اوما يشبهها.
واظن ان القيادة الاسرائيلية، وراعيي المفاوضات، وكل القوى الدولية الطامحة الى صنع السلام وخلق استقرار دائم في منطقة الشرق الاوسط يدركون ان الوصول الى هذا الهدف يتطلب ليس اعطاء الجانب الفلسطيني حقوقه التي عجز عن أخذها في اتفاق طابا فحسب، بل وايضا انسحاب القوات الاسرائيلية انسحابا كاملا ونهائيا من كل الاراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967. واعطاء الشعب الفلسطيني كامل حقوقه الوطنية المشروعة وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وحل مشكلة اللاجئين، والاعتذار له عن الظلم التاريخي الذي لحق به على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن. فعدم حل مشكلة اللاجئين مثلا على مدى 45عاما لم يضيع حقوقهم، بل ابقاها معلقة، وخلق حالة من عدم الاستقرار في كل المنطقة، وفجر بين العرب والاسرائيليين خمسة حروب كبيرة. واعتقد ان تقطيع اوصال الضفة الغربية وتحويلها الى (بانتوستانات)، وفصل غزة عن الضفة الغربية، وعدم اطلاق سراح كل المعتقلات والمعتقلين، والابقاء على المستوطنيين في قلب مدينة الخليل، يبقى على حالة التوتر بين الشعبين قائمة. ويحول الاتفاق الى صيغة من صيغ الترتيبات المؤقته.
وفي سياق البحث في آفاق اتفاق طابا لا بد من التاكيد بان رصد افاق هذا الاتفاق وكل نتائجه البعيدة على الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي عملية ليست هينة وبخاصة بعد مقتل رابين. لاسيما وانه موضع صراع ولم يبلغ من العمر سوى اسابيع قليلة. اما بشأن نتائجه السياسية والامنية والاقتصادية المباشرة على الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية وعلى اجراء الانتخابات، ودوره في تقريب الفلسطينيين من اهدافهم فالمرجح ان تكون على النحو التالي:
اولا / لا يستطيع أشد المعارضين لاتفاق طابا تجاهل أنه هز الفكر الصهيوني المتطرف، الذي يتعامل مع اراضي الضفة الغربية باعتبارها أرض الميعاد ويسميها يهودا والسامرا، ودفعها باتجاه التحول الى نوع من الاحلام. وجعل مصير المستوطنيين والمستوطنات قضية صراعية بين الاحزاب اليمينية وبين الائتلاف الحاكم. وانهى بعض الافكار التي كانت تنادى بها بعض الاحزاب اليمينية الاسرائيلية المتطرفة من نوع الترانسفير للفلسطينيين من الضفة الغربية الى الاردن، وتحويل الاردن الى وطن بديل للفلسطينين. كما انهى ايضا فكرة الخيار الاردني لحل القضية الفلسطينية كما كانت تتبناها سابقا اوساط واسعة في حزب الليكود وحزب العمل وفي الادارة الامريكية وفي بعض بلدان اوروبا الغربية. وتعرف القيادات الاسرائيلية يمينها ويسارها ان تنفيذ اتفاق طابا وتفاعلاته اللاحقة، سوف يفرض آجلا او عاجلاعلى اسرائيل رسم حدودها الدولية مع جيرانها بما في ذلك الكيان الفلسطيني المجاور لها. وأن تنفيذ هذا الاتفاق سوف يفرض أمرا واقعا يقود مع الزمن الى التخلي عن فكرة اسرائيل الكبرى، وانتهاء العقلية التوسعية التي تحكمت في السياسة الاسرائيلية منذ قيامها وحتى الان. ولعل هذا الادراك هو الذي يفسرحالة الهستيريا التي يعيشها الان المستوطنون وكل الاحزاب اليمنية الاسرائيلية.
ثانيا / وتنفيذ اتفاق طابا يكرس سقوط مقولة البعض بان في المنطقة اربعة دول(سوريا، لبنان، الاردن، واسرائيل) وخمس شعوب، وان الشعب الخامس (الفلسطيني) شعب زائد. ويساهم في تكريس وجود كيان فلسطيني موحد يقوم على اجزاء من الارض الفلسطينية، ويخلق سلطة فلسطينية تشمل سلطاتها كل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ولها كل مقومات السطات الحاكمة، بما في ذلك مؤسساتها المدنية التنفيذية، والقضائية، والتشريعية (بحدود) المنتخبة والمعترف بها عربيا ودوليا. ولها شرطة مسلحة قوامها الان 19 الف رجل، وسيصل عددهم الى 30 الف عند استكمال تنفيذ اتفاق طابا. وبغض النظر عن كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها على مدى تماسك هذا الكيان، وعلى الدور الراهن واللاحق للسطة، فالواضح منذ الان ان هذا الكيان قابل للتحول الى دول مستقلة، وان تنفيذ اتفاق طابا يزيد ويقوي من هذه القابلية ويسرّع في تحول مؤسساته الى مؤسسات دولة. والصراع بعد تنفيذ اتفاق طابا لم يعد يدور حول وجود هذا الكيان، بل حول حدودة، وحدود سيادته ودوره وعلاقاته بجيرانه. وسينتقل الاعتراف الدولي والعربي بالكيان الفلسطيني من حيزه النظري الى صيغ سياسية اكثر عملية.
ثالثا / اعتقد ان الاتفاق الجديد في حال تنفيذه سينقل الوضع الفلسطيني برمته الى محطة جديد. وسوف يحتدم الصراع الداخلي حوله، وسيضع كل الاطراف أمام استحقاقات جديدة. وسيعرض السلطة الفلسطينية الى اختبار حقيقي، وسيمتحن قدراتها على بناء وتشغيل مؤسسات المجتمع المدني. وسوف يظهر الحاجة اكثر فاكثر الى الديمقرطية في الحياة السياسية الفلسطينية. وبالرغم من كل النواقص والمخاطر التي يحملها في طياته، فالزوال التدريجي لكابوس الاحتلال عن كاهل سكان مدن الضفة الغربية وبلداتها الكبرى، سيمكن السلطة الفلسطينية من تعزيز نفوذها وسلطتها في صفوف ابناء الضفة الغربية. وسيدفع في المرحلة الاولى بقطاعات واسعة من السكان لاسباب متنوعة نحو الانحياز للسلطة وللحزب الحاكم “حركة فتح”. ويقود الى تراجع ثقل المعارضة في الشارع الفلسطيني بما ذلك ثقل حركة حماس. وقد يتسبب في زيادة التشرذم الحاصل في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وأظنه سيزيد الانقسامات في صفوف الفصائل والمنظمات الفلسطينية وبخاصة المعارضة لعملية السلام. وسوف يخلق تناقضات بين مواقف جسمها التنظيمي داخل الضفة الغربية، الذي سيحاول التعامل مع الواقع،والتعامل مع الوضع الجديد الناشئ، وبين قياداتها الموجودة في الخارج التي يتوقع لمعظمها ان تستمر في رفض الاعتراف بالحقائق الجديدة، ورفض تكييف مواقفها وممارساتها مع متطلبات الوضع الجديد.
رابعا / ان عبور القيادة الفلسطينية ومعها الغالبية الساحقة من كوادر م. ت. ف. المدنية والعسكرية الى بقية مناطق الضفة الغربية، وتولي السلطة الوطنية ادارة مجالات الحياة هناك، وتعامل العالم مع هذه السلطة باعتبارها القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، تساعد على تبلور هيكل الكيان السياسي فلسطيني على الارض. وتكرس بصورة نهائية وحاسمة انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية، ومركز القرار الفلسطيني من الخارج الى الداخل، وتحررهما الى حد كبير من التدخلات العربية الرسمية المتنوعة، وتنهي مخاوف القيادة الفلسطينية من عودة الاسرائيليين للخيار الاردني. واذا كان الانتقال والتحرر ووجود الكيان السياسي تعتبر موضوعيا انجازات وطنية، فان على المفكرين الفلسطينيين معالجة المعضلات الموضوعية التي سترافقها واهمها: تقييد علاقة السلطة الفلسطينية مع اسرائيل بعدد من الاتفاقات، وتنامي التدخل الاسرائيلي في بناء اسس الكيان الفلسطيني وفي صياغة توجهاته والتاثير في اتجاهات تطوره، وتدخل الدول المانحة وبخاصة الامريكي في صياغة القرارالفلسطيني. وضمور دور م. ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب الفلسطيني، وتعرضها كمؤسسة للتآكل والاهتراء، في وقت ما زال نصف الشعب الفلسطيني يعيش خارج وطنه، وما زالت قضايا الارض والمياه واللاجئين والنازحين والمستوطنات والقدس والحدود بدون حلول .
خامسا / الاتفاق في حال تنفيذه يحرر (بعد 28 عاما) جزءا من اراض الضفة الغربية (030%) التي احتلت في عام 1967. ويفترض ان ترتفع النسبة لاحقا الى ما يفوق ال 80%. صحيح ان هذا الجزء صغير، وتحريره ليس كاملا، ولكن الصحيح ايضا ان تحرير جزء قليل افضل للفلسطينيين من بقاء الكل تحت الاحتلال، وان نصف التحرير أو ربعه افضل من عدمه، وان تراكم مثل هذه الخطوات الجزئية وغير الكاملة، تخلق وقائع جديد تقرب الفلسطينيين من تحرير كامل اراضي الضفة والقطاع. واظنها كفيلة بمنع جيش الاحتلال من العودة الى شوارع المدن والبلدات التي سوف يرحل عنها. ولعل من المفيد تذكير كل الذين يصرون على رؤية فقط النصف الفارغ من الكأس، ان لا ينسوا ان رفضهم لهذا الاتفاق ودعوتهم الى اسقاطه تتضمن من الناحية العملية بقاء هذا الجزء من الارض الفلسطينية تحت السيطرة المطلقة للاحتلال.
سادسا / بتنفيذ الاتفاق يتحرر ما يقارب مليون ونصف المليون فلسطيني من الاضهاد والاذلال والارهاب الذي مارسه الاحتلال ضدهم على مدى 28عاما. ومع استكمال التنفيذ سوف تنتقل أوضاع سكان الضفة الغربية الى حالة جديدة، وحياة أفضل، لا يمكن اطلاقا مقارنتها باوضاعهم في ظل الاحتلال. واظن أن تحرير بضع الاف من المناضلين المعتقلين، وعودة بضعة الاف اخرى باسم الشرطة خير من بقائهم في سجون الاحتلال او خارج الوطن. ولا يجوز التقليل من تأثير مثل هذه الخطوات الجزئية على حياة الناس في الضفة الغربية وعلى علاقاتهم الانسانية، وعلى أوضاعهم المعنوية بما في ذلك متابع النضال من أجل انتزاع بقية حقوقهم الوطنية المغتصبة.
في ضوء كل ما ذكر اعلاه يمكن الاستنتاج ان اتفاق طابا بنصوصة وتفاعلاته اللاحقة فلسطينيا وعربيا ودوليا وفي العلاقة مع الاسرائيليين يحسّن جزئيا من وضع الفلسطينيين فوق ارضهم. وان تنفيذه يحسّن موقع قضيتهم في إطار المساعي الهادفة الى تسوية الصراع العربي الاسرائيلي وخلق الاستقرار في المنطقة. ويقوي اوراقهم التفاوضية في المفاوضات اللاحقة سواء تلك المتعلقة بتنفيذ الاتفاقات التي وقعوها مع الاسرائيليين حتى الان، او تلك المتعلقة بالمرحلة النهائية. ويعجل في انحسار الاحتلال وزواله عن الضفة الغربية وقطاع غزة ارضا وسكان. خاصة اذا احسنوا استثمار ما يعطيه الاتفاق لهم واحسنوا ادارة الصراع في فترة تنفيذ الاتفاق، وفي مرحلة ما بعد اغتيال رابين. ومن البديهي القول أن كل هذه التحسينات على وضع الشعب الفلسطيني وقضيته قابلة للزيادة، كما هي قابل للمراوحة في ذات المكان وحتى للنقصان. والزيادة أو المراوحة في المكان أو النقصان لن تكون بعد تنفيذ اتفاق طابا مروهنة فقط بالعوامل الدولية والاقليمية الخارجية فقط، وإنما يصبح الأساس فيها الى حد كبير هو مدى قدرة الفلسطينيين على النجاح في بناء كيانهم وتعزيز ثقة الشعب به، ومدى قدرتهم على تعزيز مكانته العربية والدولية. وتخطئ السلطة الفلسطينية وكل الاتجاه الفلسطيني الواقعي ان هم اشاعوا بعد العبور الى جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية ورام الله والخليل، او تصرفوا وكأن السلام قد تحقق، واذا تراخوا في ملاحقة الحقوق التي نص عليها اتفاق اوسلو ولم يستطيعوا تثبيتها، او أغمضوا عيونهم عن متابعة تحصيل حقوقهم التي انتزعوها في طابا. فخلق مثل هذه الاجواء سيؤدي الى حالة احباط في صفوف الشعب الفلسطيني، ويقود الى تعطيل وتأخير تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق الجديد، وتبديد بعض الحقوق ، وتاخيرالدخول في مفاوضات جادة حول قضيا الحل النهائي.