آفاق ونتائج اجراء الانتخابات الفلسطينية ؟
بقلم ممدوح نوفل في 14/11/1995
يعطي اتفاق طابا لابناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة الحق في انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية، وانتخاب رئيس السلطة التنفيذية، بصورة حرة ومباشرة، ويوفر للعملية الانتخابية رقابة خارجية عربية ودولية. واذا سارت الامور وفقا للاتفاق وللتصريحات الرسمية الاسرائيلية والفلسطينية، ولم تقع اية مفاجئات جديدة، فالانتخابات سوف تتم قبل نهاية شهر كانون الثاني من العام القادم. لاسيما وان كل التحضيرات الضرورية لها تكاد تكون منجزة، بما في ذلك وصول المراقبين الدوليين الى غزة والضفة الغربية. واظن ان اغتيال رابين يسرّع في اجرائها في التاريخ المحدد لها او بحدودة. باعتبارها احدى القضايا المتفق عليها في حياته، ولان اغتياله خفف من قيمة ربط اجرائها بمدى خدمتها لرابين وقيادة حزب العمل في انتخابات الكنيست. فاغتيال رابين اضعف تأثير الانتخابات الفلسطينية على الانتخابات الاسرائيلية، ووفر لحزب العمل اوراقا كثيرة وكبيرة تساعدها في مواجهة اليمين.
ومنذ الاعلان عن عزم السلطة الفلسطينية على اجراء الانتخابات واعلانها عن التوقيت، ونشرها لقانون الانتخابات استقطب الموضوع اهتماما واسعا في اوساط الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. كما استقطب ايضا اهتمام اوساط دولية وعربية واسعة. واصبحت الانتخابات بمثابة القضية المركزية الطاغية على الحياة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولعل السبب الرئيسي في الاهتمام العربي والدولي الواسع يعود للترابط العميق بينها وبين عملية السلام. فمن خلالها سوف يتقرر الموقف الفلسطيني من كل موضوع المشاركة الفلسطينية فيها، بدء من مؤتمر مدريد وانتهاء بالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها. وعلى ضوء نتائجها سيتقرر الدور الفلسطيني في المفاوضات اللاحقة.
اما الاهتمام الشعبي الفلسطيني الواسع بالانتخابات فاظنه لا ينطلق من كونها جزء من اتفاقي اوسلو وطابا، بل تعبير عن رغبة ابناء الضفة الغربية وقطاع غزة في المشاركة المباشرة في بناء نظامهم السياسي، وفي ارساءه على اسس صحيحة. ولانهم يروا فيها ضربا من ضروب ممارسة حق تقرير المصير، واحد الوسائل الاساسية لتطبيق الديمقراطية في حياتهم، وبداية الطريق نحو تأسيس المجتمع المدني الجديد الذي يطمحون الوصول له. ويرجح ان تكون المشاركة الشعبية فيها واسعة. فالغالبية الساحقة من ابناء الضفة والقطاع وقطاع غزة تواقون لممارسة حقوقهم الديمقراطية بعد سنوات طويلة من الاحتلال، ولانها اول انتخابات “تشريعية” فلسطينية يشارك فيها الفلسطينيون في الضفة والقطاع بصورة موحدة، وبهدف انتخاب مجلس “تشريعي” فلسطيني واحد، ورئيس فلسطيني للسلطة التنفيذية (رئيس الوزراء). واظنهم لن يدققوا كثيرا في قانون الانتخابات، ولن يستجيبوا لدعوات المقاطعة التي يتوقع ان تدعوا لها بعض القوى الفلسطينية المعارضة لعملية السلام. فالمهم بالنسبة للناس العاديين اجراؤها، تاركين التدقيق في القوانين والانظمة الانتخابية للاوساط السياسية الرسمية والحزبية الفلسطينية ولمؤسسات المجتمع المدني. اما اهتمام فلسطينيوا الخارج بالموضوع فيتضمن بعضا من القلق على المصير الوطني والذاتي. لاسيما وانهم يعرفون ان نتائجها سوف تؤثر على مصيرهم ومستقبلهم، وعلى مصير م ت ف التي يعتبرونها ممثلهم الشرعي والوحيد. وهم محرومون من ممارسة هذا الحق الديمقراطي، وممنوعون من المشاركة فيها، ولا يجدون من يجيبهم على تساؤلاتهم المشروعة حولها.
وبصرف النظر عن الملاحظات الكثيرة يمكن تسجيلها على قانون الانتخابات وعلى التدخل الاسرائيلي في وضع اسسه، وعن الصلاحيات الممنوحة للمجلس ولرئيس السلطة التنفيذية، فاني اعتقد ان النص في اتفاق طابا على الانتخابات هو من اهم نصوص الاتفاق، وان اجرائها ضرورة وطنية ومكسبا فلسطينيا كبيرا، سيكون له ما بعدة على مجمل الوضع الفلسطيني، بما في ذلك الحياة السياسية والحزبية، ومستقبل الكيان الفلسطيني، وعلى المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية اللاحقة. ولذا فممارسة هذا الحق واجب على كل القوى الفلسطينية وكل ابناء الشعب الفلسطيني القادرين على الادلاء باصواته. فالانتخابات تخلق مؤسسات تشريعية وتنفيذية فلسطينية تستمد شرعيتها من المصدر الحقيقي للسلطات. وتنهي الطعن والتشكيك الفلسطيني، والى حد ما العربي، في شرعية ثمثيل القيادة الفلسطينية الحالية للشعب الفلسطيني. وانتخاب قيادة للشعب الفلسطيني بصورة ديمقراطية خير الف مرة كما اتصور من الاستمرار في اعتماد قيادة استمدت شرعيتها عبر النضال وعبر تقادم الزمن على وجودها في مواقهعا القيادية. وأظن ان الاعتماد على التاريخ في تثبيت الشرعية القيادة لم يعد مقبولا ولا كافيا، وبخاصة بعد كل التطورات الكبيرة التي طرأت على القضية الوطنية وعلى بنية المجتمع الفلسطيني، وبنية م.ت.ف. وبنية فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية.
والانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية الوحيدة القادرة على تحديد موقف الشعب الفلسطيني من كل القضايا السياسية والتنظيمية المختلف حولها في الساحة الفلسطينية، ومن الاتفاقات التي تم التوصل لها بما في ذلك اتفاق طابا. ووجود جسم قيادي فلسطيني يستمد شرعيته من جزء من الشعب الفلسطيني (مليونين ونصف) يعطي للقضية الفلسطينية، وللكيان الفلسطيني وسلطاته التشريعية والتنفيذية بعدا دوليا وعربيا جديدين. ويساهم بقوة في تسريع تطور هذا الكيان الى دولة مستقلة. ويحفز الشعب الفلسطيني على متابعة النضال من اجل تحويل كيانه السياسي الى دولة مستقلة وذات سيادة. ويفتح الافاق امام الدول العربية والاجنبية الصديقة للمساعدة في دعم واسناد هذا التحول. ويقوي مواقف السلطة الفلسطينية في المحافل العربية والدولية ، ويعطي الاتفاقات التي تم توقيعها مع الاخرين مصداقية كبيرة. ويفرض على القيادة الاسرائيلية واحزابها السياسية نمطا جديدا من العلاقة مع المؤسسات الفلسطينية. والتعامل مع السلطة الفلسطينية ومع المفاوضين الفلسطينيين ومع الاتفاقات التي توقعها معهم باحترام اكبر.
وبالتدقيق في مواقف القوى السياسية الفلسطينية من الانتخابات نجدها متباينه. فهناك من هو متحمس لها لاسباب وطنية وحزبية. ويقف ابوعمار وعدد من قادة حركة فتح على رأس هذه القوى. وهم حريصون على ان تجري بصورة حرة وديمقراطية ونزيهة، وواثقون من نتيجتها. واعتقد ان فوز ابوعمار كمرشح وحيد لرئاسة السلطة التنفيذية (الوزارة) باغلبية كبيرة مسألة محسومة تماما لاعتبارات وطنية وشعبية وتنظيمية متنوعة. وفي اطار هذا التيار هناك من له ملاحظات على قانون الانتخابات وعلى توقيتها، ويطالب باجراء بعض التعديلات على القانون، ويفضل تاجيلها الى ما بعد استكمال الانسحاب الاسرائيلي من كل المدن والقرى الفلسطينية بما في ذلك مدينة الخليل. وهناك تيار آخر يعارضها بشدة وصار واضحا انه سيقاطعها. ويضم هذا التيار كل القوى الصغيرة المنضوية تحت لواء القوى الفلسطينية العشرة المعارضة لعملية السلام. ولا اذيع سرا اذا قلت ان داخل قيادة فتح وداخل السلطة الوطنية يوجد من هو غير متحمس لها ويتقاطع في مواقفه مع مواقف هذه القوى ويتمنى من الله ان لا تتم. وبغض النظر عن الاسباب الوطنية التي تسوقها هذه القوى لتبرير مواقفها المعارضة للانتخابات فالواضح انها تخفي عدم الثقة بالذات، وتخشى من نتائجها. لاسما وانها ستعطي لكل ذي وزن في صفوف الشعب حجمه ووزنه. وهناك اتجاه ثالث ما زال مترددا في قراره، ومحتارا بين المقاطعة والمشاركة الرسمية، او المشاركة غير الرسمية، أي دعم مرشحين دون تبنيهم بشكل رسمي. ويضم هذا التيار بصورة رئيسية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة جورج حبش. وبالتمعن في خلفيات مواقف هذا التيار نجدة يعيش صراعا داخليا فهو من جهة مقتنع باهمية الانتخابات على الصعيد الوطني والتنظيمي، ويدرك ان عدم المشاركة فيها يعني التصادم مع الموقف الشعبي الفلسطيني والخروج ولو مؤقتا من الحركة السياسسية الفلسطينية الرسمية، ومن دائرة الفعل والتاثير في النشاط السياسي اليومي. ومن جهة اخرى فقيادة هذا التيار تخشى من المشاركة لسببين رئيسسين: الاول انكشاف ضعف نفوذها في الشارع الفلسطيني، والثاني تفكك وحدتها الفكرية والتنظيمية، حيث ستجد نفسها مضطرة الى مراجعة نهجها السياسي المعارض لكل عملية السلام التي انطلقت من مدريد قبل اربع سنوات، ومراجعة نشاطها العملي الذي سلكته في المرحلة الماضية في مواجهة عملية السلام. اما حركة حماس فهي اقرب الى هذا التيار وتتقاطع معه في الكثير من مواقفه. الا ان تيارا قويا داخلها يضغط باتجاه المشاركة المباشرة في الانتخابات وبمرشحيين رسميين. ويرجح ان ينجح هذا التيار في فرض مواقفه.
وفي سياق الحديث عن الانتخابات لا بد من الاقرار بانها تطرح مجموعة من الاسئلة الوطنية التي تستوجب التوقف امامها الان وبعد الانتخابات. منها على سبيل المثال دور المجلس المنتخب وسلطته التنفيذية اتجاه الشعب الفلسطيني في الشتات، ومنها ايضا مصير مصير م. ت. ف. كممثل شرعي ووحيد لكل الشعب داخل وخارج الوطن، وموقع المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، وحق اعضاء المجلس الوطني واللجنة التنفيذية في الترشيح لعضوية المجلس المنوي انتخابه..الخ.. وفي سياق البحث عن الحلول الوطنية لهذه الاسئلة المشروعة يجب التمييز بين مشروعية طرحها وبين دعوات البعض الى تأجيل الانتخابات لحين الاتفاق حول حلها. واظن ان كل القوى الفلسطينية تعرف ان اجراء الانتخابات يعني التشييع الرسمي لمرحلة التنظيمات والفصائل العسكرية التي بنيت على اسس عسكرية وشبه عسكرية. وانتهاء دور معظم القيادات السياسية الفلسطينية التي انتزعت دورها ومواقعها القيادية في ساحة العمل الوطني بجدارة خلال تلك المرحلة. والدخول العملي في مرحلة تكون فيها القيادات منتخبة من الشعب، وليست مفروضة علية او منتخبة من تنظيماتها في احسن الاحوال. وايضا تحوّل التنظيمات الفلسطينية الى احزاب سياسية، تستمد قوتها من ديمقراطة علاقاتها الداخلية وعلاقتها مع الناس. وبصرف النظر عن مواقف القوى فرفض المشاركة في الانتخابات يعني في الوضاع والظروف الراهنة رفض لتعزيز الديمقراطية في العمل السياسي الفلسطيني وتمسك ببقاء الاوضاع القيادية على ما هي علية حتى الان. اعتقد ان نضالا شاقا يجب ان يبذل مع الذات من اجل تطوير قانون الانتخابات واستيعاب كل الملاحظات المنطلقة من الحرص على تعميق الديمقراطية الفلسطينية، والحرص بذات الوقت على اجرائها في اسرع وقت ممكن، واظن ان الفترة التي تفصلنا عن الموعد المحدد 20/1/1996 كافية لاجراء مثل هذه التعديلات. ولا مبالغة في القول ان تاريخ اجراء الانتخابات الفلسطينية يمكن تثبيته باعتباره تاريخا فاصلا في الاوضاع الفلسطينية الداخلية وبداية طور جديد في العلاقات. وهذا الطور يفرض على الجميع التعامل بواقعية وبمسؤولية وطنية عالية، والتوجه نحو الحوار الوطني. فالخطأ في هذه المرحلة قد يقود الى وقوع ما لا يحمد عقباه على اصحابه وقد يطال الجميع.