الانتخابات الفلسطينية تنهي مرحلة الفصائل المسلحة
بقلم ممدوح نوفل في 20/11/1995
وفقا لاتفاقي اوسلو وطابا، يستعد ابناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لخوض اكبر عملية انتخابات سياسية في حياتهم، وتجري في هذه الايام، عملية التسجيل لانتخاب اعضاء المجلس “التشريعي” الفلسطيني ورئيس السلطة التنفيذية(الوزارة) في الضفة والقطاع. وباستثناء ضعف اقبال ابناء القدس على التسجيل، خوفا على مصالحهم الخاصة وانعدام ثقتهم بالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية الفلسطينية، فالعملية تسير بشكل طبيعي، وعلى قدم وساق، حسب شهادة المراقبين الدولين. ومنذ اعلان السلطة الفلسطينية عن عزمها اجراء الانتخابات قبل20 كانون الثاني القادم، استقطب الموضوع اهتمام اوساط عربية ودولية واسعة، واصبح القضية المركزية الطاغية على الحياة السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج.
والتدقيق في خلفيات واهداف الاهتمام الدولي والعربي بالانتخابات الفلسطينية يؤكد ان لا علاقة له بالحرص على دمقرطة المجتمع الفلسطيني، وبناء سلطة ديمقراطية للشعب الفلسطيني، وانما بسبب الخوف على عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي بدء من من المشاركة في مؤتمر مدريد، مرورا بالاتفاقات التي تم التوصل لها حتى الان، وانتهاء بالمفاوضات اللاحقة حول الحل النهائي المقدر لها ان تبدأ الربع من ايار1996. فجميعهم يدركون عمق الترابط القائم بين العمليتين .
اما الاهتمام الفلسطيني بالانتخابات فيمكن تصنيفه الى نوعين: الاول شعبي واسع غير منظم، والثاني فصائلي وحزبي منظم. والواضح ان الاول محكوم فقط بالمصالح الوطنية العامة، وللمصالح العملية المباشرة للناس العاديين. ولا علاقة له باتفاقي اوسلو وطابا، ولا بالصراعات السياسية والحزبية المتأججة بين مختلف التنظيمات الفلسطينية. اما الثاني فمنطلقه وطني، لكنه محكوم سلفا وبالاساس بمواقف سياسية مسبقة وبالمصالح الحزبية لمختلف القوى والتنظيمات والفصائل الفلسطينية. فالغالبية الساحقة من ابناء الضفة الغربية وقطاع غزة ينظرون للانتخابات باعتبارها ضربا من ضروب ممارسة حق تقرير المصير، وخطوة هامة على طريق ممارسة حقوقهم الوطنية والديمقراطية بعد سنوات طويلة من الاحتلال. ويجدون فيها بداية حقيقية لتأسيس مجتمعهم المدني الجديد، ووسيلة يجسدون من خلالها رغبتهم في المشاركة المباشرة في بناء نظامهم السياسي، وفي ارساءه على اسس صحيحة. واظنهم لم ولن يدققوا كثيرا في قانون الانتخابات الذي نشر، ولن يستجيبوا لدعوات المقاطعة التي دعت لها بعض القوى الفلسطينية المعارضة لعملية السلام، فالمهم بالنسبة للناس العاديين اجراؤها. تاركين التدقيق في القوانين والانظمة الانتخابية للاوساط السياسية الرسمية والحزبية الفلسطينية ولمؤسسات المجتمع المدني. لاسيما وانهم لم يسبق لهم ان شاركوا في انتخاب مؤسسات “تشريعية” وتنفيذية فلسطينية مستقلة، وما سبق لهم وشاركوا فيه تم في اطار السيادة المصرية على قطاع غزة، والاردنية على الضفة الغربية.
اما فلسطينيو الخارج من لاجئين ونازحين غير منتمين للتنظيمات فيعيشون شعورا متناقضا حول الموضوع. فهم من جهة يدعمون ويقدرون حق اخوانهم في الداخل في انتخاب مجلس “تشريعي” وانتخاب رئيس السلطة التنفيذية (الوزراء)، لكنهم يعيشون من جهة اخرى بعضا من القلق على المصير الوطني والذاتي. فهم محرومون من ممارسة هذا الحق الديمقراطي، وممنوعون من المشاركة في هذه الانتخابات. ويعرفون ان نتائجها سوف تؤثر على مصيرهم ومستقبلهم، وعلى مصير م ت ف التي لازالوا يعتبرونها ممثلهم الشرعي والوحيد. ولا يجدون من يجيبهم على تساؤلاتهم الكثيرة والمشروعة حول كل الموضوع .
وبالتدقيق في مواقف الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية من الانتخابات نجدها متباينه. وتتوزع بين ثلاثة اتجاهات: الاول متحمس لها وحريص على ان تجري بصورة حرة وديمقراطية ونزيهة. لاسيما وانه شبه ضامن حصوله على نسبة كبيرة من مقاعد المجلس المنوي انتخابه. وتقف غالبية قيادة حركة فتح على راس هذا التيار، وفي اطاره هناك من له ملاحظات على قانون الانتخابات وعلى توقيتها، ويطالب باجراء بعض التعديلات على القانون، ويفضل تاجيلها الى ما بعد تنفيذ الشق الثاني من اتفاق طابا، ولحين استكمال الانسحاب الاسرائيلي من كل المدن والقرى الفلسطينية بما في ذلك مدينة الخليل. اما الاتجاه الثاني فيعارضها بشدة وصار واضحا انه سيقاطعها، وتقف المنظمات الصغيرة في تجمع الفصائل العشرة على راس هذا الاتجاه. وهناك اتجاه ثالث ما زال مترددا في قراره، ومحتارا بين المقاطعة والمشاركة الرسمية، او المشاركة غير الرسمية، أي دعم مرشحين دون تبنيهم بشكل رسمي. وبالتمعن في خلفيات مواقف هذا التيار نجدة يعيش صراعا داخليا فهو من جهة مقتنع باهمية الانتخابات على الصعيد الوطني والتنظيمي، ويدرك ان عدم المشاركة فيها يعني الخروج لسنوات من الحركة السياسسية الفلسطينية الرسمية، ومن دائرة الفعل والتاثير في القرار السياسي. ومن جهة اخرى فقيادة هذا التيار تخشى من انكشاف ضعف نفوذها في الشارع الفلسطيني، ومن تفكك وحدتها الفكرية والتنظيمية، حيث ستجد نفسها مضطرة بصيغة او اخرى مراجعة نهجها السياسي المعارض لكل عملية السلام، ومراجعة اساليب عملها التي اتبعتها في المرحلة الماضية في مواجهة عملية السلام. ويمكن تصنيف حركة حماس في اطار هذا الاتجاه، حيث يتواجد فيها تيارا قويا يتمركز في غزة والضفة الغربية يضغط باتجاه الدخول في حوار مع السلطة، والمشاركة المباشرة في الانتخابات من خلال حزب سياسي يجري الاعداد للاعلان عن تشكيله.
وبصرف النظر عن مواقف القوى والفصائل المترددة والمعارضة فالانتخابات الفلسطينية سوف تتم في موعدها، اذا صدقت النوايا الاسرائيلية، ولم تقع مفاجآات جديدة، كمفاجئة اغتيال رابين. واعتقد ان المشاركة الشعبية فيها سوف تكون واسعة. فالاقبال على التسجيل واسع، والتحضيرات السياسية والادارية والتنظيمية صارت شبه منجزة، واغتيال رابين يسرع تنفيذها ولا يؤجلها، حيث اضعف تأثير الانتخابات الفلسطينية على الانتخابات الاسرائيلية، وقلل من قيمة الترابط بينهما، ووفر لحزب العمل اوراقا سياسية وايدلوجية كثيرة وكبيرة تساعده في مواجهة اليمين في معركة انتخابات الكنيست. واظن ان مقاطعتها من قبل البعض لن تعطلها ولن تمس من شرعيتها، وشرعية نتائجها، وستلحق خسائر سياسية وتنظيمية كبيرة بالمقاطعين. حيث سيجدون انفسهم في موقع المتصادم مع الموقف الشعبي الفلسطيني.وبغض النظر عن الاسباب الوطنية التي يسوقها المقاطعون فلن يستطيعوا التستير على عدم ثقتهم بالذات، وخوفهم من المستقبل. فرفض المشاركة في الانتخابات يعني من وجهة نظر الناس العاديين في الاوضاع والظروف الفلسطينية الراهنة، رفض لتعزيز الديمقراطية في العمل السياسي الفلسطيني، ورفض لصعود قيادات وطنية جديدة، وتمسك ببقاء الاوضاع القيادية على ما هي علية حتى الان، وبدون أي تجديد .
ولعلني لا اتجنى ولا اظلم احدا اذا قلت: اننا اذا استثنينا حركة فتح وحركة حماس، فان كل الفصائل الفلسطينية المعارضة والمؤيدة للانتخابات، بدء من الجبهتين الشعبية والديمقراطية مرورا بالحزب الشيوعي وحزب فدا وجبهة النضال الشعبي وانتهاء بالقيادة العامة ومنظمة الصاعقة والجبهة العربية لا تستطيع مجتمعة الحصول على اكثر من5-7% من عدد مقاعد مجلس السلطة المنوي انتخابة، وبعضها لن يستطيع الوصول الى عتاباته حتى لو توحدت في قائمة واحدة، وجرى تعديل القانون الانتخابي وتم الاخذ بكل اقتراحاتها وملاحظاتها. فحجم هذه الفصائل ضامر جدا، وثقلها في الشارع الفلسطيني ضعيف وبالكاد يسمع الناس باسماء بعضها. وتخطئ حركة حماس ان هي اعتقدت ان مشاركتها في الانتخابات مرغوبة من الجميع وبخاصة من اصحاب القرار في السلطة الفلسطينية. واظن ان كل القوى الفلسطينية تعرف بان اجراء الانتخابات يعني التشييع الرسمي لمرحلة كاملة من العمل السياسي والحزبي الفلسطيني ودفنها، والعبور بعد الدفن والتشيع مباشرة الى مرحلة جديد، تغيب فيها تدريجيا اسماء التنظيمات والفصائل المسلحة المعروفة، لصالح بروز احزاب وتنظيمات وتجمعات سياسية جديدة. ويعني ايضا انتهاء دور معظم القيادات السياسية الفلسطينية التي انتزعت دورها ومواقعها القيادية في ساحة العمل الوطني بجدارة خلال الفترة الماضية، والدخول العملي في مرحلة تظهر فيها قيادات منتخبة من الشعب، وليست مفروضة علية او منتخبة من تنظيماتها في احسن الاحوال كما هو الحال حتى الان.
والتقييم الموضوعي والجريء لاوضاع الحركة الوطنية الفلسطينية يؤكد انها تعيش ازمة فكرية وتنظيمية حادة منذ فترة زمية طويلة، وهذه الازمة بلغت ذروتها الان. وان كل الفصائل الفلسطينية التي بنيت لاعتبارات متعددة، على أسس مركزية شديدة، عسكرية وشبه عسكرية ومؤسساتية سلطوية في طريقها الى الزوال بعدما أدت أدوارها ووظائفها الوطنية المطلوبة في مرحلة تاريخية هامة من النضال الوطني. ويكاد يكون هناك اجماع الان في صفوف المفكرين والبحاثة المعارضين والمؤيدين لعملية السلام عرب وفلسطينيين على ان البنى التنظيمية والفكرية لمنظمة التحرير وللفصائل والتنظيمات الفلسطينية لم تعد منذ الخروج من بيروت عام 1982، قادرة على تلبية متطلبات العمل التنظيمي والجماهيري في المرحلة الجديدة التي دخلها النضال الوطني الفلسطيني. لاسيما وان قيادات هذه الفصائل والتنظيمات المتبقرطة لم تستخلص الدروس المستفادة من الانتفاضة، ومن التطورات الدولية الكبيرة التي وقعت في نهاية الثمانينات، وبخاصة منذ المشاركة في عملية السلام اواخر عام 1991 وحتى الان. ويسجل لها انها نجحت على مدى ربع قرن من الزمن في مقاومة تطلعات الشعب الفلسطيني نحو الديمقراطية والتطوير والتجديد. ونجحت في مقاومة تطلعات كوادرها وقواعدها نحو توسيع حق الاجتهاد وحق التعبير عن الرأي. واظن ان استمرار قادة الفصائل والاحزاب الفلسطينية في انكار وجود الازمة، وتجاهلهم لوجود فجوة واسعة بين تنظيماتهم وبين الشارع الفلسطيني، داخل وخارج الاراضي الفلسطينية المحررة او المحتلة يفاقم الازمة ولا يعالجها. فليس بمقدور المعارضين للانتخابات ولعملية السلام اخفاء عدم قدرتهم على تمييز مواقفهم برامجهم وممارساتهم العملية عن حركة حماس. وايضا لا يستطيع المؤيدون للانتخابات اخفاء عدم قدرتهم على تمييز انفسهم عن حركة فتح. واظن ان مشاركة بعضهم في السلطة كشفت عن انتهازيتهم وذيليتهم للآخرين .
والواضح ان الانتخابات الفلسطينية سوف تعمق من هذه الازمة، وسوف تكشف اكثر فاكثر عن تخلف المرتكزات الفكرية والتنظيمية للفصائل، وتعري عدم قدرتها عن مواكبة المتغيرات التي طرأت على بنية المجتمع الفلسطيني وتطلاعاته الوطنية والديمقراطية، وستنهي مبررات وجود بعضها، وستفرض على البعض الاخر، وبخاصة من حافظ على ثقله ووجوده في الشارع فتح وحماس الى اعادة صياغة انظمتها الداخلية باتجاه التخلي عن الاسس المركزية والعسكرية الشديدة والتحول الى احزاب سياسية اكثر ديمقراطية.
واخيرا اعتقد ان ساحة العمل الوطني الفلسطيني اصبحت بعد الدخول في مرحلة الانتخابات بحاجة الى انتفاضة تنظيمية (نفضة) تستوعب حاجة المجتمع الفلسطيني الى احزاب وحركات وتجمعات سياسية وطنية ديمقراطيه، مع التشديد على الديمقراطية، تقوم على اساس التعددية الفكرية والسياسية، تتيح لاعضائها حرية العقيدة، وتحترام كل الآراء داخلها، وبخاصة رأي الأقلية وتعطيها حق التعبير العلني عن مواقفها داخل الحزب وخارجه. احزاب تنتخب قياداتها بطريقة ديمقراطية، وتحاسبها بصورة علنية وتجددها باستمرار وبصورة تلقائية. احزاب توحد القوى والشخصيات المتقاربة فكريا وسياسيا ومن حيث التطلعات ولا تشتت طاقاتها، وتفتح أبوابها لكل الوطنيين الفلسطينيين ولكل المناضلين من أجل الديمقراطية ومن أجل الحرية والاستقلال. وتستوعب الدروس التنظيمية والفكرية المستخلصة من انهيار الاحزاب الشيوعية والماركسية اللينينية التي قامت على مبدأ المركزية الديمقراطية. وتستوعب أيضاً مدلولات انهيار الدول التي قامت على أكتاف الحزب الواحد، والاقتصاد الممركز، وسلطة الجيش والمخابرات. في السابق حاولت الفصائل الفلسطينية فرض قوانينها وأسسها وسبل عملها التنظيمي على الانتفاضة، وحاولت إدخال جسم الانتفاضة الكبير في أثوابها الضيقة فتشققت أثواب الفصائل وبقي الجسم المنتفض خارجها. والان هل ستكرر الفصائل ذات الاخطأء في التعامل مع انتخابات مجلس السلطة ورئيس (الوزراء) ؟