رابين دفع ثمن تردده في صنع السلام ومهادنة القوى المتطرفة
بقلم ممدوح نوفل في 06/11/1995
في تاريخ الشعوب تقع بين فترة واخرى احداث كبرى تؤثر في حياتها وعلاقاتها الداخلية، وعلاقاتها بالشعوب الاخرى المجاورة لها، وعلى موقعها بين الامم. وحادثة اغتيال رابين على يد احد المتطرفين الاسرائيليين هي واحدة من هذا المستوى. ان وصف بعض المفكرين الاسرائيليين ليوم اغتيال رابين 5/11/1995 بانه يوم اسود في تاريخ اسرائيل وضربة قاصمة لاسس الديمقراطية التي قامت عليها، صحيح ودقيق. ويمكن الاضافة عليه بانه يوم اسود في تاريخ الحركة الصهيونية، وسيبقى وصمة عار في جبين الفكر الصهيوني العنصري لسنوات طويلة قادمة، وسيكون له ما بعده من نتائج واثار داخل المجتمع الاسرائيلي. فرابين بماضيه وحاضره رمز من رموز دولة اسرائيل، ان لم يكن الرمز الابرز بعد بن غوريون، ورغم الاختلاف معه يمكن منحه بجدارة لقب البطل القومي للشعب الاسرائيلي. فهو من بناة دولة اسرائيل الاساسيين، وصانع انتصاراتها على العرب. ويسجل له انه لم يتردد في تدمير مئات القرى الفلسطينيةعام 1948ـ1949، وتشريد مئات الالوف من الفلسطينيين، واحتلال اراضي عربية واسعة من اجل توطيد دعائمها. ورغم الملاحظات الكبيرة والكثيرة على دوره في ادارة المفاوضات مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانين يسجل له انه اقدم بشجاعة على دفع اسرائيل باتجاه البحث عن السلام مع العرب، ونحج في اقناع قسم كبير من الشعب الاسرائيلي باهمية الاتفاقات التي تم التوصل لها مع الاردن والفلسطينيين. وتاريخ الشعوب يؤكد ان اغتيال رموز الامم على يد ابنائها يؤسس لصراعات داخلية قوية، ويخلّف أثارا فكرية وسياسية ونفسية واسعة، ويبقى محفورا في ذاكرة الاجيال .
وبغض النظر عن الدافع الفكري للقاتل، وعن الجهة التي اعلنت مسؤلياتها عن ارتكاب عملية الاغتيال القتل، فمدلولات الحادث وابعاده السياسية تؤكد ان اغتيال رابين ليس عملا فرديا قام به شخص عاقل بمفرده، بل هو عمل مخطط له دبرته ومهدت له اطراف وجهات اسرائيلية لها مصلحة في قتل رابين في هذا الوقت بالذات. وهو افراز من افرازات المجتمع الاسرائيلي الذي تربى على تمييز الذات عن اللآخرين، واباحة اضطهادهم واستعمارهم. ونتاج للتعباة العنصرية الفاشية التي شحن بها على مدى سنين طويلة قبل وخلال عملية السلام. وترجمة امينة ودقيقة لتوجهات ايدلوجية ولمواقف سياسية ترعرعت في عهد رابين، وتتبناها الان قوى وازنة في المجتمع الاسرائيلي، تبدا بالليكود وتمر بالمؤسسة العسكرية وتنتهي بغوش امونيم وحركة كاخ، وتنتهي بالتنظيم الوهمي الذي ينتمي له القاتل. وهذه القوى تحتل الان ما يقارب نصف مقاعد الكنيست. وبتفحص مواقف التيار العنصري المتطرف في اسرائيل نجده يجمع على كراهية العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وعلى التمسك باحتلال الضفة الغربية ودعم الاستيطان فيها، والدفاع عن مصالح المستوطنيين ومؤازرتهم في فاشيتهم. كما يجمع ايضا على عدم التوصل الى اتفاق على المسار السوري، وافشال عملية البحث عن السلام العادل والشامل، واسقاط جميع الاتفاقات التي تم التوصل لها حتى الان .
ولا اتجنى على احد اذا قلت ان رابين قتل نفسه بنفسه مرتين الاولى عندما تردد في صنع السلام العادل والشامل والدائم، وتباطئ في التقدم على مساراتها المتعددة، وتلكأ في تنفيذ الاتفاقات التي انتجتها، وغلب مصالحه الحزبية والانتخابية على مصلحة صنع التعايش مع العرب والفلسطينيين. والثانية عندما اخطأ وهادن الفكر الصهيوني المتطرف، وتساهل مع الاحزاب والقوى العنصرية الاسرائيلية المتطرفة وطليعتهم المستوطنيين، واعطاهم فرصة واسعة لتجميع قواهم ومنحهم الوقت اللازم للتخطيط لقتله. والكل يتذكرموقفه من مخططي ومنفذي مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف التي وقعت بعد التوقيع على اتفاق اوسلو في (15رمضان) شباط 1994، وقوله في معرض تقيمه لتلك المجزرة الرهيبة “ان القاتل كان يعمل بمفرده ولم يكن له شريك، فحصنا الاسلحة ولم تكن هناك اية خرطوشة اطلقت من أي سلاح اخر”. وفي حينه بدلا من التوجه لحل عقدة الخليل بمعاقبة المستوطنين وطردهم منها، عاقب رابين اهل الخليل واستولى على قلب مدينتهم، وحشد المزيد من القوات العسكرية لقمع الفلسطينيين، وحماية المستوطنيين ولثبيت اقدامهم في العديد من احياء المدينة.
والتحقيق العادل في مقتل رابين يبين ان الكونغرس الامريكي بمواقفه الداعمة للمواقف الاسرائيلية اليمينية المتطرفة،والمتعارضة مع متطلبات صنع السلام الحقيقي يتحمل قسطا من المسؤولية في تشجيع عملية القتل. وقراراته الاخيرة الداعية لفتح السفارة الامريكية في القدس و اغلاق مكتب م ت ف في واشنطن نموذجا على ذلك. وذات الشئ ينطبق على مواقف كل زعماء الاحزاب اليمينية الاسرائيلية، ورئيس دولة اسرائيل عزرا وايزمن فجميعهم مسؤولون عن قتل رابين، فهم الذين حرضوا على القتل، ودعموا الارهاب والتطرف، وحشوا راس القاتل ومن يقف خلفه بفكرة القتل، وقدموا لهم التبرير اللازم مسبقا. وحشوا مسدس القاتل بالرصاص ودفعوه للضغط على الزناد بكل برودة اعصاب. وشجعوا المتطرفين من انصار القاتل ومؤيديه على الاحتفال امام المستشفى باصابة رابين اصابة قاتلة.
واغتيال رابين ممارسة مكشوفة للارهاب الفكري ضد انصار السلام وفكرهم ، ومؤشر خطير على المدى الذي بلغه التطرف والتعصب داخل اسرائيل، وللمدى المكن للمتضررين من السلام ان يندفعوا نحوه، وبخاصة المتعصبون لفكرة ارض الميعاد واستيطانها، والمناهضون للانسحاب من الضفة الغربية، ولكل الاتفاقات التي تم التوصل لها مع الفلسطينيين والاردنيين. فاغتيال رابين اعلان صريح من قبلهم للكفاح بالسلاح ضد التعايش مع العرب والفلسطينيين وضد انصار السلام في اسرائيل وفي المنطقة. واذا كان بعض المفكرين الاسرائيليين ما زالوا يعتزون بالنظام الديمقراطي في اسرائيل، فاغتيال رابين، والتجربة الفرنسيين مع الجزائريين بعد اتفاقات ايفيان تؤكد ان ظواهر العنصرية والفاشية تبرز وتنمو في مراحل تاريخية معينة في أعرق الدول الديمقراطية. وان تشكل الحركات السرية وظواهر التمرد على النظام الديمقراطي تصاب بها اكبر الجيوش واكثرها انضباطية.
وتخطئ كل القوى الدولية والاقليمية الساعية الى صنع السلام في المنطقة اذا اعتقدت ان قتل رابين هو اول وآخر عملية اغتيال ترتكب بحق عملية السلام وبحق اركانها، فالذين خططوا لقتل رابين لن يترددوا عن تكرار جريمتهم ضد آخرين، وبخاصة بعض القادة الفلسطينيين. لاسيما اذا تم التهاون معهم كما تهاون رابين وقادة حزب العمل مع المستوطنيين والقوى المتطرفة سابقا. ويخطئون اكثر اذا بسّطوا واستصغروا النتائج والانعكاسات السلبية لعملية قتل رابين. واذا كان من المتعذر الان تقدير كل نتائجها على عملية السلام ومستقبلها، فالثابت ان اعداء السلام نجحوا في توجيه ضربة لها. فمقتل رابين حسم الشك باليقين فيما يتعلق بامكانية التوصل الى اتفاق على المسارين السسوري اللبناني، وصار مثل هذا الاتفاق مؤجل الى اشعار آخر اقله من الان وحتى الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية والامريكية. اما بشأن التوصل الى اتفاقات مع الفلسطينيين حول قضايا الحل النهائي فالواضح انها اصبحت اصعب واعقد بما لا يقاس فيما لو بقي رابين على قيد الحياة. فبغياب رابين فقدت اسرائيل الرجل القوي القادر على اتخاذ القرارات الكبيرة الصعبة وتامين الدعم الشعبي والبرلماني لها. وفقد حزب العمل القائد المجمع حوله بدون منازع والمسلم بدوره الريادي. واذا كانت المصيبة التي ألمّت بحزب العمل تفرض على كل الاتجاهات داخله التوحد خلف قائد جديد (وبيريزهو المرشح) فلن يكون سهلا على بيريز الحفاظ على وحدة حزب العمل عندما تحين ساعة تقديم الاستحقاقات الكبرى التي تتطلبها عملية السلام .
لاشك ان اغتيال رابين وضع حزب العمل وكل قوى السلام في اسرائيل امام خيار وحيد هو التوحد، واعادة الامساك بزمام المبادرة والقيام برد سريع باتجاهين: الاول الدعوة الى انتخابات برلمانية مبكرة. والثاني الاندفاع باقصى قوة على كل مسارات السلام. فاغتيال رابين بمقدار ما هو مأساة لحزب العمل فقد وفر له وللقوى العلمانية وكل قوى السلام فرصة كبيرة لشن اوسسع حملة فكرية وسياسية ضد اعداء السلام، وخوض معركة انتخابية ناجحة تحصل فيها على اغلبية كبيرة في الكنيست. وتنفيذ كل الاتفاقات التي وقعها رابين، وبخاصة تسريع الانسحاب من الضفة الغربية وفرض قيودا جدية علىالاستيطان والحد من التصرفات العنجهية لكل المتطرفين وتجريدهم من اسلحتهم. فاتفاق القاهرة يحصر الحركة بالسلاح في الضفة الغربية بالجيش الاسرائيلي والشرطة الفلسطينية فقط.
ومقتل رابين يؤكد لمن يريد بان العنصرية والفاشية نمت وتطورت في المجتمع الاسرائيلي عامة وفي صفوف المستوطنيين خاصة الى مستوى خطير ينذر بعواقب وخيمة على مجمل عملية السلام وقد لا تقتصر على العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية وعلى الاتفاقات التي تم التوصل لها بل قد تطال المنطقة برمتها ويحول الصراع الى صراع ديني ويشعل حروب مقدسة يعاد فيها حشد القوى واصطفافها على اسس جديدة. واعتقد ان محاربة التطرف والعنصرية والفاشية في اسرائيل اصبحت مهمة حيوية وملحة للراي العام العالمي ولكل القوى المناهضة لهما، وصار مطلوبا من الجميع وقف كل اشكال المساندة المعنوية والمادية التي يتلقاها المتطرفون في اسرائيل من هذا البلد او ذاك بصورة رسمية او غير رسمية. فالكل يعرف ان لحزب الليكود والاحزاب الدينية انصار في الادارة الامريكية وفي صفوف الجالية اليهودية الامريكية. واما حركة كاخ وغوش امونيم وكل حركة الاستيطان فهي تعيش على الدعم المادي الذي تتلقاه من التجمعات اليهودية خارج اسرائيل وبخاصة المقيمة في الولايات المتحدة الامريكية. ان مصلحة صنع السلام والاستقرار في المنطقة، تفرض على الادارة الامريكية فرض حظر جدي على كل نشاط يؤدي الى دعم المستوطنيين وبقية المتطرفين في اسرائيل. وتفرض على كل القوى الدولية والاقليمية التي رعت وساندت عملية السلام خلال اربع سنوات التحرك بسرعة باتجاه اولا مساعدة قوى السلام في اسرائيل على مجابهة الافكار العنصرية المتطرفة وثانيا تسريع تنفيذ اتفاق طابا واستثمار يوم 4 ايار 1996 وجعله يوم انطلاقة قوية لمفاوضات المرحلة النهائية.
بعد مجزرة الخليل سمى رابين التطرف والتعصب العنصري بالجنون السياسي لكنه رفض مواجهته، وتعامل معه باعتباره طارئ ومحدود النتائج، ولم يتوقع ان يرتد عليه فدفع حياته ثمن ذلك. والان يمكن القول ان تطبيق ذات القاعدة يعني بقاء زمام المبادرة بيد المتطرفين العنصريين ويشجعهم على المضي قدما في تنفيذ الحلقات اللاحقة من مشروعهم الفاشي الدموي الرهيب. واذا كان رابين اخطأ وهادن العنصريين فهل سيتعلم بيريز وقادة حزب العمل وانصار حركة السلام من هذا الدرس البليغ. وهل سيتم التعامل اسرائيليا وفلسطينيا وعربيا ودوليا مع مقتل رابين باعتباره محطة حاسمة في تحديد مصيرعملية السلام وبالتالي تقرير مصير شعوب المنطقة. في السابق سهلت القيادات الفلسطينية على رابين عملية الهروب من مواجهة الحقائق. والان اعتقد ان عليها هي الاخرى التعلم من مقتل رابين، والزام قادة حزب العمل على تحمل مسؤولياتهم ومواجهة الحقيقة المرة القائلة لاسلام مع الاستيطان. واذا كان في نهاية هذا المقال لا بد من تسجيل حرص المعارضة الفلسطينية على عدم اراقة الدم الفلسطيني على يد ابناء فلسطين، فلعل من المفيد تذكيرها بان الصراع الجاري الان داخل اسرائيل ما كان له ان يحصل لو لم يشارك الفلسطينيون في عملية السلام، ولو لم يتوصلوا الى اتفاق اوسلو وبقية الاتفاقات التي لا تلبي الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني .