مستقبل الوضع الأمني بعد اتفاق طابا
بقلم ممدوح نوفل في 14/11/1995
آفاق الوضع الامني في الضفة بعد طابا 14/11/1995
منذ التوقيع على اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة اعتمدت المؤسسات الاسرائيلية السياسية والعسكرية والامنية موقفا موحدا ازاء تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين خلاصته اخضاع ابوعمار وسلطتة حديثة التشكيل للاختبار. وامتحان قدرتها على ضبط الامن في غزة واريحا، وسهلت توسيع قوات الشرطة واجهزة الامن الفلسطينية المختلفة، وتدخلت في ادق تفاصيل انظمة حياتها اليومية. ولم تكترث في كيفية ادارة السلطة للاموال وكيفية توظيفها في مجالات تطوير الصحة والتعليم والثقافة والاسكان والزراعة وبقية فروع الاقتصاد الفلسطيني..وفي حينه كان الشك في مواقف رئيس السلطة الفلسطينية وفي قدراته على السيطرة على اوضاع غزة طاغيا على تفكيرالقيادة الاسرائيلية. ولقطع الشك باليقين اعطت القيادة الاسرائيلية الجيش وأجهزة الامن الاسرائيلية الفرصة والوقت اللازمين للتعرف على قيادة وكوادر الشرطة الفلسطينية عن قرب. ومراقبة سلوكهم وبخاصة ازاء مسألة التعاون والتنسيق الميداني المشترك في مهام ضبط الامن، وفي التصدي للمعارضة الفلسطينية “ومكافحة الارهاب والارهابيين”.
والان يمكن القول انهم اخذوا وقتهم الكافي وتعرفوا بصورة تفصيلية على ذهنية ونفسية الغالبية العظمى من قيادتها، وعلى نمط تفكيرها ونوعية اهتماماتها. وتأكدوا خلال العام الاخير بان “المخربين الفلسطينيين” قابلين للتحول السريع الى جنود نظاميين، ينضبطون لكل الاوامر والتعليمات التي تصدر لهم، ويلتزمون بتنفيذها بصورة دقيقة. بما في ذلك التحرك في دوريات مشتركة والتعاون في مجالات العمل الامني المشترك. وأظن ان مراكز الابحاث والدراسات الامنية الاسرائيلية فوجئت بمسوى الضبط والربط داخل المؤسسة العسكرية الفلسطينية. فرغم بعض الاهنات، والكثير من الاستفزازات التي تعرضت لها الشرطة الفلسطينية من قبل المتطرفين الاسرائيليين، ورغم المعانة الكبيرة التي عاناها الشعب الفلسطيني داخل وخارج المناطق الفلسطينية التي تتواجد فيها الشرطة الفلسطينية، فلم يسجل على الشرطة الفلسطينية خلال عام ونصف من توليها مسؤولية الامن في قطاع غزة ومنطقة اريحا أية مخالفة أساسية تمس المصالح الامنية الاسرائيلية.
ومما لا شك فيه ان نجاح ابوعمار والسلطة وقيادة الشرطة واجهزة الامن الفلسطينية في ذلك الاختبار كان له دورا حاسما في دفع القيادة السياسية الاسرائيلية نحو اعادة النظر في موقفها من م ت ف، والشروع في التعامل معها باعتبارها قوة غير معادية لاسرائيل، وشريك في صنع السلام وفي انهاء حالة الحرب والعداء بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. وفي شروع القيادات الامنية والعسكرية الاسرائيلية في تغيير النظرة للشرطة الفلسطينية من نظرة (قتلة ومخربيين) الى بشر واناس عاديين، وجنود نظاميين يعملون في اطار مؤسسة غير ارهابية وينضبطون لها. ولتقريب الامر للاذهان وتبسيطة عند الاسرائيليين اخترعت القيادة الاسرائيلية، في حينه، قصة التمييز بين العسكريين الفلسطينيين الملطخة اياديهم بالدم الاسرائيلي، وبين العسكريين الآخرين. وركزت في الذهن الاسرائيلي بأن هناك مقاتل فلسطيني شريف نظيف اليدين، وآخر غير شريف وملطخ اليدين بالدم الاسرائيلي.
واعتقد انه لولا النجاح الفلسطيني في ذلك الاختبار الامني لما وثق رابين في ياسرعرفات ولما اقدم قبل وفاته على اتخاذ قراره بالافراج الجزئي عن القسم الثاني من اتفاق اوسلو. فالثقة في ياسر عرفات والنجاح في الاختبار الامني لعبا دورا اكبر من كل الادوار التي قامت بها الدول الراعية والمساندة لعملية السلام بما في ذلك الادارة الامريكية على صعيد التوصل الى اتفاق طابا، الذي فتحت بموجبه الطرق والممرات امام الشرطة الفلسطينية المسلحة للعبور بسلام وامان الى مدينة جنين اولا والى بقية مدن الضقة الغربية وبلداتها الكبرى لاحقا.
وتدرك السلطة الفلسطينية وقيادة الشرطة أنها مع دخولها مدينة جنين وبقية المدن الاخرى تدخل في اختبار اسرائيلي جديد، وان الشرط الاسرائيلي لتنفيذ الشق الثاني من اتفاق طابا هو نجاح السلطة والشرطة وأجهزة الامن الفلسطينية في ضبط الاوضاع والسيطرة الامنية على المدن والبلدات الفلسطينية التي سوف تتسلمها، وذلك بالتعاون والتنسيق والعمل المشترك مع اجهزة الامن الاسرائيلية لمنع تحولها الى مراكز نشاط عسكري ضد الاسرائيليين في اسرائيل او ضد المستوطنات والمستوطنيين، الذين يعلنون صباح ومساء بانهم سيبذلون كل جهد مستطاع لتعطيل تنفيذ اتفاق طابا وكل الاتفاق الاخرى. صحيح ان العمليات التي نفذتها حركتي حماس والجهاد الاسلامي سابقا لم توقف المفاوضات، ولم تعطل التوصل الى اتفاق طابا، لكن الصحيح أيضا أن تلك العمليات كان لها تأثيرها على الزمن، واعطت للجانب الاسرائيلي ذرائع لتأجيل التوصل الى الاتفاق، ولفرض قيودا والتزامات امنية قاسية على الطرف الفلسطيني.
ومن الواضح ان السلطة الفلسطينية سوف تركز عملها في الفترة الاولى من تواجدها في مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية على مسألتين الاولى منع اية مظاهر لاي شكل من اشكال ازدواجية السلطة في الضفة الغربية. والثانية ضبط الامن فيها بشقيه الداخلي والخارجي. أي توفير الامن الاجتماعي في مناطق ومواقع تواجدها، ومنع الاطراف المعارضة لعملية السلام من القيام باي نشاط عسكري ضد اهداف اسرائيلية داخل اسرائيل او داخل الضفة الغربية. وسوف تتعامل مع المعارضة وفقا لسلوكها العملي ازاء هاتين المسألتين. واعتقد انها لن تضع اية عراقيل جدية امام النشاط السياسي للمعارضة بما في ذلك النشاط العلني ضد عملية السلام وضد اوسلو وضد الاتفاق الجديد. وبذات الوقت فهي لن تتورع عن شن اوسع عمليات اعتقال في صفوف المعارضة، بما في ذلك اعتقال كل قياداتها وكوادرها اذا تجاوزت الحدود التي تسمح بها ضرورات تطبيق الاتفاق، وبالتحديد اذا قامت او حاولت القيام بعمليات عسكرية ضد اهداف اسرائيلية. وبالتدقيق في مواقف بعض اطراف المعارضة الفلسطينية وبخاصة حركتي حماس والجهاد والاسلامي يمكن الاستنتاج بانهما باصرارهما على افشال اتفاق طابا عبر العمل العسكري ضد اهداف اسرائيلية تتجهان نحو التصادم مع السلطة الفلسطينية، واظن انهما ستكونان الخاسرتين سياسيا وتنظيميا في هذا التصادم اذا وقع.
ان دخول الشرطة الفلسطينية الى مدن الضفة الغربية، والنتائج السلبية للعمليات العسكرية التي نفذتها المعارضة على الاوضاع المعيشية للناس في قطاع غزة، وعلى التوجهات الديمقراطية الفلسطينية تفرض على المعارضة الفلسطينية وبخاصة حركة حماس التوقف مطولا ودراسة نتائج خط العمل هذا على اوضاعها وعلى علاقاتها مع الجمهور الفلسطيني الفلسطيني. لاسيما وانها تعرف ان خيار الحرب كطريق لتحقيق الاهداف الوطنية لم يعد واردا الان. وبغض النظر عن النوايا فالعمليات العسكرية التي نفذتها المعارضة الفلسطينية ساهمت في تضخم أجهزة الامن الفلسطينية حتى بلغ عدد افرادها 30 الف رجل، على حساب تقوية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني. والاستمرار في هذا النهج سيقود في المستقبل الى زيادة عدد قوات الشرطة والامن الفلسطيني اكثر فاكثر.
واذا كانت وقائع الحياة في مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية هي التي ستعطينا في الاسابيع والشهور القادمة الحكم النهائي والخبر اليقين، فالثابت ان اسس نجاح الشرطة الفلسطينية والاجهزة الامنية الفلسطينية في السيطرة على المناطق التي سوف تعبرها متوفرة بنسبة اعلى بكثير من تلك التي توفرت لها عند عبورها الى غزة واريحا. ويمكن القول سلفا انها ستنجح في ضبط الامن فيها لاعتبارات عديدة : اولها ان أهالي مدن الضفة الضفة الغربية وقراها ومخيماتها قد سئموا حالة فقدان الامن الاجتماعي، وبحاجة الى شرطة وسلطة غير سلطة الاحتلال، توفر لهم الامن وتخلصهم من الفوضى العامة ومن الفلتان الامني. وتوقف التعديات على حرياتهم وممتلكاتهم الشخصية. وثانيها ان الشرطة اخذت الوقت الكافي لتحضير الذات للمهمة الجديدة. وستدخل وعندها خبرة عام في الاعمال الامنية والشرطية، وفي التنسيق مع الاسرائيليين في المجال الامني. وتدخل ولديها معلومات وافية عن الاوضاع الاجتماعية وعن كل القوى السياسية الفلسطينية جمعتها لها مجموعات الامن الموجودة في مدن وبلدات الضفة منذ بضعة شهور. وثالها ان الشرطة الفلسطينية تدخل الى مدن الضفة الغربية بدون مقاومة احد، وتدخلها وهي تستند الى قاعدة شعبية تتمثل بالحد الادنى بتنظيم حركة فتح وانصاره. وأظن ان قوى المعارضة الفلسطينية المتواجدة في مدن الضفة سوف تجد نفسها بعد فترة في وضع لا يمكّنها من الاستمرار في رفع ذات الشعارات التي رفعتها سابقا، ولا الاستمرار في ذات اشكال النضال التي اتبعتها منذ انطلاق عملية السلام وحتى الان .
وفي سياق الحرص على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعلى تثبيت اتفاق طابا وتنفيذه، تخطئ السلطة الفلسطينية ان هي خضعت لابتزازات المؤسسه العسكرية الاسرائيلية، ووافقت على ربط تنفيذ مراحل اتفاق طابا بالمتطلبات الامنية الاسرائيلية. فمتطلبات أمن الاسرائيليين لها أول، ولكن لا آخر ولا حدود لها. ومصلحة السلام تفرض الادراك بان النجاح المتوقع للشرطة الفلسطينية في الضفة الغربية سوف يبقى مؤقتا، وان الامن الفلسطيني والاسرائيلي سيبقيان مهزوزان ومعرضان للانتكاس طالما بقي الاحتلال فوق الارض الفلسطينية. وطالما بقي المستوطنون يسرحون ويمرحون على هواهم. واذا لم يتوفرالقانون ولم يتم تطبيقه بصورة عادلة على الجميع. واذا لم تعمل الشرطة الفلسطينية بالقاعدة المعروفة “الشرطة موجودة لخدمة الشعب”. واذا لم تتوفر لقمة عيش للناس.
أفاق الوضع الاقتصادي بعد طابا
قبل التوقيع على اتفاق طابا اطلق لارسن منسق اعمال هيئات الامم المتحدة والمساعدات التي تقدمها الدول المانحة للسلطة الفلسطينية صيحة استغاثة قال “فيها ان البطالة في قطاع غزة زادت عن ال55%، وان الاوضاع الاقتصاية والمعيشسة للسكان تدهورت وصارت اسوء مما كانت عليه قبل دخول السلطة الفلسطينية”. وعزا ذلك الى كثرة ايام اغلاق اسرائيل لحدودها في وجه العمال الفلسطينيين، والى عدم ايفاء الدول المانحة بالتزاماتها في الاوقات المحددة لذلك. ولعدم قيام مشاريع اقتصادية في قطاع غزة تستوعب نسبة معقولة من البطالة. وناشد الدول المانحة العمل على سد العجز في موازنة السلطة الفلسطينية كي تستطيع دفع رواتب الشرطة والموظفين ومنع انتشار الرشوة في صفوفهم، وناشدهم الايفاء بكل الالتزامات الاخرى، والاسراع في اقامة المشاريع الانتاجية. وخلال ذات الفترة اتهم الرئيس عرفات الدول المانحة بالتقصير في تسديد التزاماتها. وقال “ان خسارة الاقتصاد الفلسطيني خلال عام بفعل ايام الاغلاق والحصار الاسرائيلي فاقت قيمة المساعدات التي قدمتها الدول المانحة للسلطة الفلسطينية”. ووجه نداء الى الرأسماليين الفلسطينيين واصحاب الاعمال بالمبادرة الى تحمل مسؤولياتهم الوطنية في بناء الاقتصاد الفلسطيني. وبغض النظرعن الهدف من توقيت اطلاق هذه التصريحات فهي تعطي صورة حقيقية عن الاوضاع الاقتصادية المأساوية التي عاشها قطاع غزة بعد دخول السلطة الفلسطينية الى هناك. وكل الاحصائيات والدراسات الصادرة حول الموضوع تؤكد تراجع دخل الفرد في الضفة الغربية وازدياد البطالة خلال ذات الفترة.
صحيح ان الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية احسن حالا منه في القطاع، ولكن الصحيح ايضا ان سوق العمل الاسرائيلية كانت وما زالت هي المجال الرئيسي لاستيعاب النسبة الكبرى من عمال الضفة الغربية. فقد نجح الاحتلال على مدى 27 عاما في تدمير بنية الاقتصادي الفلسطيني وجعله تابعا ومرتبطا بصورة وثيقة بالاقتصاد الاسرائيلي، بما في ذلك تشغيل العمال. ومن يدقق بالاتفاقات الاقتصادية الفلسطينية الاسرائيلية يرى بوضوح اصرار القيادة الاسرائيلية على ابقاء الاقتصاد الفلسطيني مرتبطا بعجلة الاقتصاد الاسرائيلي وفصله عن محيطه العربي. وبهذه الاتفاقات وبالتدمير المبرج لببنية الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع زرع الاحتلال مسبقا ازمة اقتصاية عميقة الجذور في وجه السلطة الفلسطينية قبل عبورها الى الضفة الغربية، وهذه الازمة علاجها صعب ويستغرق وقتا طويلا ويحتاج الى مساعدات خارجية كبيرة.
ويمكن القول سلفا ان دخول الشرطة الفلسطينية للضفة الغربية وتولي السلطة الوطنية لكل الصلاحيات المدنية فيها لن يخلص الناس هناك من الضائقة المالية والاقتصادية التي يعيشونها. بل يتوقع لهذه الضائقة ان تزداد خلال العام القادم على الاقل، وذلك للاعتبارات التالية:
ا) استمرار اسرائيل، بحجة الامن، في سياسة الاستغناء عن العمال الفلسطينيين واغلاق حدودها في وجههم. فبعد انسحاب قواتها من مدن الضفة الغربية سوف تزداد شكوكها في العابرين اليها من هذه المدن. وبينت تجربة العام الأخير ان تقدم المفاوضات وتحسن العلاقات الفلسطينية اسرائيل لايعني تشريع بوابات العبور الإسرائيليه امام الألوف من العمال الفلسطينيين العاطلين عن العمل. فمنذ اتفاق اوسلو وحتى الان قلصت اسرائيل عدد العمال المسموح لهم بالعبور الى اسرائيل، واغلقت حدودها اكثر من نصف ايام السنة الماضية حسب الاحصاءات الفلسطينية. فالتقدم في المفاوضات وفي تنفيذ الإتفاقات لها تفاعلات عديده ومتنوعه داخل المجتمعين الفلسطيني والأسرائيلي المنقسمين على ذاتهما. فهي من جهة، تريح بعض القوى لكنها تدفع من جهة اخرى بقوى اخرى نحو المزيد من التطرف والتوتر. ويرجح لهذا النمط من التفاعلات ان يزداد بعد دخول الشرطة الفلسطينية الى مدن الضفة الغربية. فالتوتر القائم بين المستوطنيين والفلاحين الفلسطينيين سوف يرتفع في العام القادم،حيث سيزداد القلق في صفوف المستوطنيين على مصيرهم، اما الفلاحون الفلسطينيون فسيجدون انفسهم مجبرين على خوض معارك اقوى دفاعا عن ارضهم وممتلكاتهم. ومع اقتراب موعد الانتخابات الاسرائيلية سيرتفع التوتر داخل المجتمع الاسرائيلي اكثر فاكثر، وستضطر الاجهزة الامنية الى رفع درجة يقظتها وحذرها، وسوف تشدد من اجراءاتها الامنية، بما في ذلك تقليص نسبه الإحتكاك المباشر بين الشعبين، وتقليص عدد العابرين للعمل في اسرائيل. ناهيك عن ايام الاغلاق الكثيرة التي ستتم بسبب العمليات العسكرية المتوقعة من الان وحتى الانتخابات الاسرائيلية. فالقوى المحلية والاقليمية المتضررة من تقدم عملية السلام لن تألوا جهدا في تنفيذ ما يمكن تنفيذه من عمليات عسكرية ضد اهداف اسرائيلية في الضفة الغربية وداخل اسرائيل خلال هذه الفترة بالذات.
ب) من غير المتوقع ان تغير الدول المانحة (الدونرز) خلال العام القادم من طريقة تعاملها مع السلطة الفلسطينية. وسيبقى ايفاؤها بالتزاماتها المالية يسير في ذات المنحى. فوقائع الحياة على مدى عامين من عمر اتفاق اوسلو اكدت ان التوصل الى اتفاقات فلسطينية اسرائيلية، ووقوع تحسن في العلاقات لا يعني تدفق المساعدات المالية الخارجية بصورة أوتوماتكية على السلطة الفلسطينية كما تشتهيها. ناهيك عن ان المساعدات التي ستقدمها الدول المانحة في العام القادم بالكاد تغطي رواتب موظفي السلطة، الذين سيصبح عددهم اكثر من 60 الف موظف بعد استكمال ملاكات قوات الشرطة الى 30 الف. ومساعدات الدونرز مهما بلغت لن تصل في في كل الاحوال الى حدود إستيعاب البطالة الواسعة في الضفة والقطاع.
جـ) وبالتدقيق في التوجهات المالية للمستثمرين الفلسطينيين، السابقة والحالية، يتبين ان بعضهم ما زال مترددا في الاندفاع نحو الاستثمار في الضفة الغربية وقطاع غزة لاعتبارات متنوعة. وان من تجاوز التردد والخوف على راسماله حرص على تجنب المغامره، وراح يبحث عن الربح السريع، وفضل الاستثمار في مجال تأسيس البنية التحتية، والمضاربة بالاراضي، والمتاجرة بالعقار. اما من توجهوا للاستثمار في مجالات الصناعة والزراعة والسياحية فهم قلة حتى الان . وبغض النظر عن الحجم الاجمالي للاستثمارات الفلسطينية والعربية في الضفة الغربية وقطاع غزة فالدراسات تؤكد انها لم تستطع تقليص نسبة البطالة في صفوف العمال. ومن الواضح ان مردود اية مشاريع صناعية او زراعية جديدة في تصحيح الوضع الاقتصادي الفلسطيني سيأخذ وقتا طويلا ولن يظهر في العام القادم في كل الاحوال.
أعتقد أن تشجيع الرأسمال الفلسطيني والعربي على الإستثمار، بات يتطلب إجراء تصحيح سريع للخلل الذي ارتكب عند تشكيل السلطة الفلسطينية (الوزارة). فعند تشكيلها افتعلت معارك مع الراسماليين الفلسطينيين، واتهموا بانهم يريدون قطف ثمار تضحيات المناضلين. وغاب رموز الرأسمال الوطني الفلسطيني عن تشكيلة السلطة، ولم يفكر (اي روتشيلد) الفلسطيني في المشاركة فيها. كما يتطلب ايضا رؤيا فلسطينية موحدة لمعالجة الاوضاع الاقتصادية، وسن قوانين ثابتة وواضحة تنظم العلاقة بين السلطة والمستثمرين. وابعاد الرموزغير الموثوقة التي تولت متابعة العقود الاقتصادية بين السلطة والمستثمرين. والقضاء على روائح الروشة والفساد التي انتشرت في العام الاخير في محيط السلطة الفلسطينية، وتكريس نمطا من الرقابة على العمل في المجال المالي والاقتصادي الفلسطيني.
واظن ان لا خلاف على ان التوجه لبناء المؤسسات الفلسطينية على اساس الكفاءة والاختصاص، وتشغيلها وفقا للقواعد العلمية الصحيحة، وتعزيز الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية هي الطريق الاقصر نحو النهوض بالاقتصاد الفلسطيني. والنهوض بكل الاعباء الوطنية الكبرى في مرحلة ما بعد اتفاق طابا.