الوصول الى الدولة قدره المرور في مخاض مؤلم وعسير

بقلم ممدوح نوفل في 09/02/1996

من البداهة القول إن بقايا الفكر الصهيوني العنصري الإستعماري التوسعي تحاول جاهدة تأخير حركة التاريخ وإعادة عقارب ساعة الزمن الى الوراء. وان استمرار بقايا هذا الفكر بصورة مؤثرة في المجتمع الاسرائيلي وسيطرته على القرار السياسي في إسرائيل سيجعل طريق التعايش والسلام بين الشعبين طويلا ومعقدا ومؤلما. وقد يجعل طريق تطور “الدويلة الفلسطينية” الى دولة مستقلة طريقا دمويا خاصة اذا عاد حزب الليكود الى الحكم في إسرائيل. فهذا التفكير الصهيوني العنصري الإستعماري هو المسؤول تاريخياً عن نشوء جبال من الحقد والكراهية والعداوة بين الشعبين. فهو الذي أخر الإعتراف الإسرائيلي بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني قرابة خمسين عاماً، وبوجود ممثلً شرعيً لهذا الشعب قرابة ربع قرن. وهو ذاته الذي يبعث النشوة الآن في نفوس بعض القادة الإسرائيليين كلما نجحوا في طعن الكرامة الوطنية الفلسطينية. وهو الذي حقن الشعوب العربية بالعداوة وبالحقد ضد اسرائيل وأوصل الشعب الفلسطيني الى الإنتفاضة الشاملة. وبقايا هذا الفكر هي التي تربك الآن قيادة حزب العمل، والحكومة الإسرائيلية في قيادة معركة السلام على كل المسارات، وتسبب لهم الإنفصام في مواقفهم السياسية. فبيريز والعديد من أركان حزب العمل وأركان الحكومة مازالوا يؤكدون بمناسبة وبدون مناسبة مواقفهم المعروفة “لا لدولة فلسطينية مستقلة” ولا يقدمون بديلاً مقبولاً للشعب الفلسطيني. وبذات الوقت هم أنفسهم رفضوا اعتماد بعض الخيارات التي يطرحها الليكود، وأحزاب اليمين المتطرف مثل: الضم والإلحاق، الترانسفير، ورفضوا بقاء الوضع على ما كان عليه قبل اوسلو، باعتبارها خيارات تجلب في المدى البعيد الكوارث والدمار لدولة إسرئيل ، وباعتبارها خيارات لا تنهي الصراع، وتضع إسرائيل في مواجهة رغبة العالم في صنع السلام في المنطقة.

وأعتقد أن قادة حزب العمل يدركون، أنهم منذ اعتمادهم قناة أوسلو للتفاوض مع ممثلي الشعب الفلسطيني، أقفلوا الطريق أمام أي دور عربي في حل المسألة الفلسطينية، وأنهم بتوقيع اتفاق اوسلو وباعترافهم بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، دفنوا الخيار العربي كطريق ووسيلة لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، واعتمدوا الخيار الفلسطيني كطريق لحل صراعهم المزمن مع الفلسطينيين . ويعرف قادة حزب العمل والمفكرون الإسرائيليون في قرارة انفسهم أن منح الفلسطينيين حكما ذاتيا محدودا أو واسعا لا ينهي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وإنما يبقى ناره متأججة تحت الرماد. فالحكم الذاتي كحل نهائي للقضية الفلسطينية رفضته القيادة الفلسطينية، ورفضه الشعب الفلسطيني ايام كمب ديفيد، وخلال الإنتفاضة، ولا زال مرفوضاً حتى الآن، واعتقد انه سيبقى مرفوضا في المستقبل. لأنه يبقى على الإحتلال بصيغة أو أخرى. والشعب الفلسطيني لا يجد فيه الحرية والإستقلال والسيادة الوطنية التي يطمح لها، ومن أجلها تحقيقها تحمل صنوف الألم والعذاب وقدم تضحيات جسيمة. وإذا كانت الخيارات الخمسه المذكورة(الضم والالحاق، الترانسفير، الخيار العربي، الحكم الذاتي، وبقاء الوضع الحالي ) بعضها مرفوض من قبل حزب العمل، وبعضها الآخر يرفضها الفلسطينيون، فلا يبقى أمام حزب العمل إلا أن يختار أحد أمرين أحلاهما مر في نظر كثير من الإسرائيليين: الأول، تجميـد الأوضـاع تحت سقف الحـكم الذاتي بصيغتـه القـائمـة الآن أو المحسنـة قليلاً، وتعطيل كل امكانية لتحويل “دويلة الحكم الذاتي” الى دولة مستقلة. واعتماد هذا الخيار ممكن إسرائيلياً ،لكن ثمنه سوف يكون باهظاً على إسرائيل والفلسطينيين وكل شعوب المنطقة. فسيقتل عملية السلام في منتصف الطريق وسيؤجج الصراع بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وستمتد نيرانـه بالتدريج الى كل الدول والشعـوب المحيطـة بفـلسطيـن حتى لو كان بينها وبين إسرائيل معاهدات أو اتفاقات سلام. وسيعيد الأوضاع الى اسوء مما كانت عليه قبل انطلاق عملية السلام، وستكون العداوة أكبر والحقد والكراهية أعمق. وسيؤدي الى إضعاف مميت للإتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل، ويقوي الارهاب والتطرف والتعصب، بكل اشكاله الديني والقومي والوطني، ويساعده في السيطرة على أوضاع المنطقة وتولي دفة قيادتها لسنوات طويلة، وبالتالي زجها في صراعات دموية، طائفية، ودينية، وعرقية، يصعب التكهن بنتائجها منذ الآن.

واختيار القيادة الإسرائيلية لهذا الخيار يعني السباحة والتجديف عكس تيار الوفاق الدولي الدافع بقوة باتجاه حل النزاعات ذات الأبعاد الدولية.
وإذا كانت عملية السلام أوجدتها القوى الدولية لتستمر، ولتحقق كل اوبعض اهدافها المرسومة لها، والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية وجدت لتنفذ، فلن يكون سهلاً على حكومة إسرائيل تحمل المسؤولية أمام شعبها والعالم، عن النتائج والآثار المدمرة التي يحملها هذا الخيار. وتبني مثل هذا الخيار يعني أيضاً خلط الأوراق من جديد داخل إسرائيل وداخل حزب العمل ذاته. ومن يدقق في مواقف بيريز وأركان حزب العمل والحكومة، يرى تبايناً في المواقف، فهناك من هم مع هذا الخيار، وهناك من هم مع دولة فلسطينية مستقلة. أما بيريز فالواضح أنه متردد ومتنقل بين الخيارين، فهو من جهة يرسى بقصد أو بدون قصد مقومات الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن جهة أخرى يعتبرها اضغاث احلام. يعترف بالشعب الفلسطيني كشعب ويرفض السيطرة عليه، ويرفض من جهة اخرى الإعتراف بحق هذا الشعب في تقرير مصيره. تفاوض مع المنظمة ووقع اتفاقات معها وسهل بناء سلطتها على الارض الفلسطينية ، ويعطل في ذات الوقت قدرتها وقدرة السلطة على تعزيز نفوذها ودورها في صفوف شعبها. وافق على تشكيل “جيش فلسطيني” قوامه الان اكثرمن عشرين الف رجل مسلح، وسيصير أكثر من ثلاثين الفا عند تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق طابا، ويرفض إطلاق سراح المعتقلين وإعادة المبعدين..الخ..

ومن البداهة القول ايضا ان إسرائيل لن تسلم بسهولة في تحويل “دويلة الحكم الذاتي” الى دولة مستقلة. ومن الطبيعي أن تعمل القيادة الإسرائيلية على تأجيل هذا الشر أطول فترة زمنية ممكنة. وأن تسعى لأن تكون هذه الدولة في حال قيامها ضعيفة وتابعة نسبيا، وغير قادرة على أن تصبح في المستقبل دولة معادية لإسرائيل أو مصدر تهديد لها. وأن تسعى للحصول على ضمانات أكيدة وصياغة كل هذه الضمانات في اتفاقات ومواثيق رسمية مضمونة دولياً. فالمسألة بالنسبة لإسرائيل هي مسألة مصير ومسألة حياة أو موت. والواضح منذ الآن أن هذا الإستحقاق قد لا يمر بسلام داخل المجتمع الإسرائيلي. فوجود ما يزيد على مائة وثلاثين مستوطنة في الضفة والقطاع، وما يزيد على مائة وعشرين ألف مستوطن على الأراضي الفلسطينية التي احتلت قد يفرض على القيادة الإسرائيلية لاحقا الدخول في مواجهات محدودة مع المتطرفين من المستوطنين ومع الأحزاب اليمينية التي تحرضهم وتساندهم.

وبغض النظرعن الخيار النهائي الذي سترسو عليها مواقف قيادة حزب العمل ، وعن حقيقة قناعته بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، فالثابت أن الإستمرار في التفاوض، وفي تنفيذ الإتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين،ولو بالتقسيط وعلى دفعات متأخرة، ونجاح السلطة الوطنية في النهوض بمهـامها، وتقدم المفاوضات على المحاور العربية الأخرى كلها عوامل تساعد على إبعاد خيار تجميد الأوضاع تحت سقف الحكم الذاتي عن التفكير الإسرائيلي، وتقربه من التعاطي الجدي مع خيار الدولة المستقلة.

اعتقد إن تشجيع المواطن والمفكر وصانع القرار في اسرائيل،على تقبل فكرة التعايش في دولتين متجاورتين مهمة فلسطينية من الدرجة الأولى. فلا يمكن لبيريز ولا لأي حكومة اسرائيلية الأخذ بخيار الدولة الفلسطينية كحل نهائي للصراع، إلا إذا توافرت أغلبية شعبية (51%) إسرائيلية تؤيد مثل هذا الخيار. وإذا كانت استطلاعات الرأي العام تشير الى حدوث تنامي في الفكر الواقعي في إسرائيل وتزايد نسبة المؤيدين لقيام الدولة الفلسطينية وللسلام مع العرب، فطمأنه المواطن الإسرائيلي على أمنه ومستقبله من قبل الفلسطينيين والعرب، ورفع المقاطعة العربية المفروضة عليه يقوي تيار السلام في اسرائيل، ويضعف مواقف القوى الإسرائيلية المتطرفة والمعارضة لقيام دولة فلسطينية مستقلة على الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967. وبالمقابل فإن رفض القيادة الإسرائيلية اتخاذ خطوات عملية وجدية يفهمها الفلسطينيون على أنها تؤدي مستقبلاً الى دولة، يقود الى توليد شعور بالإحباط واليأس عندهم من عملية السلام. وابقاء المواطن الاسرائيلي خائفاً من قيام دولة فلسطينية، تؤدي هي الأخرى الى ذات النتيجة. إن تبديد هذا الخوف وذاك القلق الفلسطيني الاسرائيلي المتبادل يتطلب عملا مضنيا، وبذل جهود كبيرة من قبل قوى السلام من الطرفين. كما يتطلب خطوات عملية امنية وسياسية واقتصادية وإعلامية شجاعة من قيادات الطرفين العربي والإسرائيلي. فلغة السلام تختلف عن لغة الحرب.

والعلاقات الأمنية والإقتصادية في حالة الحرب، تختلف عنها في حالة انتهاء حالة الحرب، وفي حالة التوجه لصنع السلام العادل والشامل والحقيقي. قبل اربع سنوات وافق القادة الفلسطينيون والإسرائيليون والعرب على الدخول في عملية السلام لإعتبارات دولية وإقيلمية ولإنعدام الخيارات الأخرى وتعاملوا مع الموضوع كتكتيك. وكانوا متشككين في امكانية تحقيق خطوات جدية على هذا الطريق. والآن وبعد تحقيق ما تحقق من اتفاقات ومن علاقات فقد اصبحوا جميعا أسرى لهذه العملية ومتورطين في تفاصيلها، وبعضهم انتقل للتعاطي معها كاستراتيجية. وأعتقد أن مصلحة الجميع، ومستقبل المنطقة، ومستقبل الأجيال عند الطرفين العربي والإسرائيلي تفرض على الطرفين تحويل مسألة صنع السلام في المنطقة الى استراتيجية ثابتة، وأن يوفروا كل مقومات ومستلزمات تحقيقها بأقل زمن ممكن، وبأقل قدر ممكن من الدماء والعذاب والدمار. وإذا كانت مصلحة إسرائيل ومستقبل السلام والتعايش بين الشعبين تفرض على القيادة الإسرائيلية التسريع في تجاوز هذه المرحلة الإنتقالية من حياتها، ومن علاقاتها مع العرب والفلسطينيين، فالمصالح الوطنية والقومية الفلسطينية والعربية تتقاطع مع هذا الهدف. وأعتقد أن الدخول في البحث عن صفقة تاريخية عربية – إسرائيلية تنفذ على مراحل متفق عليها أصبح ممكنا، وأظنه بات أقصر الطرق الموصلة الى السلام الحقيقي وأقلها ألماً وعذاباً للطرفين. وقاعدة الإنطلاق نحو هذه الصفقة يمكن أن يكون هكذا: تعيد إسرائيل للعرب كامل أرضهم وحقوقهم بما في ذلك حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في اطار دولة مستقلة، مقابل أن يضمن العرب جميعاً حق إسرائيل في الوجود، وأن يضمنوا امنها، ويطبعوا العلاقات معها، وأعتقد أن توصل الأطراف العربية الى اتفاقات ثنائية مع إسرائيل يجعل الوصول الى مثل هذه الصفقة التاريخية أمراً واقعياً وليس خيالياً. وإذا كان إصرار إسرائيل على التعاطي مع العرب بالمفرق على امتداد الاربع سنوات الماضية كان له ضروراته ومبرراته من وجهة النظرالإسرائيلية، فأظن انه استمراره بعد الاتفاقات السورية واللبنانية الاسرائيلية المتوقعة بعد الانتخابات الامريكية القادمة يفقده مبرره، فالقضايا المطروحة للبحث والنقاش بعد هذه الإتفاقات يتداخل فيها الخاص بهذا البلد أو ذاك، بالمشترك والذي يهم الجميع، من نوع اللاجئين، والنازحين، والعلاقات الإقتصادية، وقضايا البيئة، والحدود، والمياه..الخ. وأعتقد أنه سيمضي وقت طويل قبل قبول الشارع الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل، وقبول الشارع العربي تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وستدفع شعوب المنطقة ثمن هذا التأخير. ويبدو لي ان قدر ميلاد الدولة الفلسطينية، وتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية أن يمر في مخاض دموي مؤلم وعسير.