تبكيرالانتخابات الاسرائيلية يجمد المسار السوري ويضغط علىاالفلسطيني
بقلم ممدوح نوفل في 22/02/1996
في العادة تكون الانتخابات الإسرائيلية مناسبة وطنية يحاسب فيها الشعب الإسرائيلي حكومته وأحزابه، على ما قدمته وما قصرت في تقديمه. وفي مثل هذه المناسبة تتسابق الأحزاب الصهيونية اليسارية واليمينية المتدينة والعلمانية على أصوات الناخبين، ومن ضمنها اصوات عرب إسرائيل فتتذكرهم وتتذكر قضاياهم، وتتودد لهم، وتغدق عليهم الوعود، إلا أن معظم تلك الوعود سرعان ما تتبخر بعد إقفال صناديق الاقتراع.
ومراجعة شريط انتخابات الكنيست السابقة (الثالثة عشرة)، تبين انها تميزت عن سواها، وكانت لها نكهتها الخاصة. فمن أجل كسب الصوت الانتخابي سقطت كل الروادع الأخلاقية أو الإنسانية أو السياسية، وفتحت الاحزاب بازاراتها الانتخابية، وتطرفت في مواقفها السياسية وزاودت على بعضها البعض. وتحولت الحملات الانتخابية إلى عملية تعرية وردح وتجريح شخصي وسياسي للمرشحين، مورست فيها كل أنواع الشتائم والاتهامات. واستخدمت فيها كل الأساليب المباحة ديمقراطياً وغير المباحة أيضاً. في حينه كان متاحاً لكل كتلة أن تقدم دعايتها الانتخابية عبر شاشة التلفزيون الإسرائيلي، وكانت حرة في أن تقول ما تريد، وأن تعرض ما تريد من مواقف وأفكار. لقد كان واضحاً لكل مشاهد يفهم العبرية أو لا يفهمها أنه أمام سيرك وليس دعاية انتخابية. فمن اجل الفوز في الانتخابات تجاوز المرشحون كتلاً واحزاب وأفراد في دعاياتهم وإعلاناتهم كل الحدود الممكنة.
وبالتأمل في مواقف الاحزاب الاسرائيلية الاساسية على ابواب انتخابات الكنيست الرابعةعشرة (الحالية) وفي ظروف المعركة الانتخابية الجديدة، يمكن القول سلفا انها سوف تكون “حامية الوطيس” شبيهة بالانتخابات السابقة، بل وأسخن منها. لاسيما وان معظم الناخبين الاسرائيليين سيدلون بأصواتهم في هذه الانتخابات على أساس سياسي. ويعرفون انها مصيرية في تحديد مستقبل الحياة السياسية في اسرائيل، وحاسمة في تقرير مستقبل احزابها الرئيسية. ويدركون طبيعة الاستحقاقات الداخلية والخارجية المطلوبة من الحكومة الاسرائيلية القادمة، وما سيترتب على فوز أي من الاتجاهين الاساسيين.
لاشك في ان الفوز في الانتخابات القادمة هو الان الهدف الرئيسي المباشر لكل الاحزاب الاسرائيلية. ويتوقع ان تقوم كلها بفتح بازارت خاصة بالانتخابات تزاود فيها على بعضها البعض، وستعرض فيه مزيدا من المواقف المتطرفة، بهدف كسب أصوات الناخبين المتطرفين الذين لا زالوا يشكلون نسبة عالية في صفوف الرأي العام الاسرائيلي ومن ضمنهم المستوطنيين. صحيح ان قياة حزب العمل سوف تستثمر في هذه الانتخابات تراث رابين، الا انها تدرك ان الاعتماد على هذا التراث، وعلى مفعول الصدمة التي احدثها اغتيال رابين في المجتمع الاسرائيلي على يد المتطرفين غير كاف للفوز في الانتخابات. وان التطورات الدولية والاقليمية، وانجازات حزب العمل من عملية السلام، وبخاصة انفتاح اسرائيل سياسيا واقتصاديا على عدد من الدول العربية لم تحدث حتى الان التحول المطلوب في الفكر السياسي الاسرائيلي باتجاه الواقعية، ولم تلحق الهزيمة الكاملة بالافكار الصهيونية التوسعية المتطرفة التي تنادي باقامة اسرائيل الكبرى على اراضي الغير، وبالتمسك بارض الميعاد واستيطانها. ولم تضعف اليمين الاسرائيلي ولم تفقده قاعدته الشعبية العريضة الملتفة حوله وحول افكاره الى الحد الكافي لضمان الفوز في الانتخابات الجديدة.
وبالرغم من عدم بلورة حزب العمل لبرنامجه الانتخابي بصيغته النهائية حتى الان، فلاحاجة لان يكون الانسان نبيا حتى يقول ان قيادة الحزب بدأت بتكييف مواقفه الداخلية والخارجية، وبخاصة في المفاوضات مع السوريين والفلسطينيين لصالح الانتخابات. والتدقيق في نوعية البضاعة التي سيعرضها حزب العمل في بازاره الانتخابي، يبين انها سوف تكون في معظمها من الانواع التي تستهوي المتطرفين قبل سواهم من الناخبين. وانها ستعمل من الان وحتى موعد اجراءها “29 ايار القادم” على مراعاة حساسية الناخب الاسرائيلي اتجاه امنه الشخصي، وضمان عدم وقوع عمليات عسكرية “ارهابية” كبيرة فلسطينية ولبنانية داخل اسرائيل وعلى حدودها الشمالية مع لبنان. والضغط باتجاه الغاء او تعديل بنود الميثاق الفلسطيني التي تدعو الى تدمير دولة اسرائيل وتتعارض مع روح ونصوص الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. والمزاودة على الاحزاب اليمينية في القضايا الاساسية الحساسة ومحاولة هز قاعدتها الفكرية وتفكيك وحدتها التنظيمية. ولعل الهجمة الاستيطانية الجديدة، وقرار الوزير موشي شاحال حول منع الوزراء والشخصيات الرسمية الاجنبية من زيارة بيت شرق، وتصريحات وزير الخارجية ايهود براك حول القدس وعدم العودة الى حدود عام 1967، وحول الاحتفاظ بالمستوطنات المقامة فوق اراضي الجولان السورية، وفي الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967..الخ.. ليست سوى مؤشرات على الوجهة الرئيسية للحملة الانتخابية لحزب العمل، وعلى طبيعة المواقف التي سيتضمنها برنامجه الانتخابي الذي سيبلوره في مؤتمره القادم.
ولا استبق الامور اذا قلت ان على السلطة الوطنية الفلسطينية ان تتوقع من الان وحتى نهاية ايار القادم ركودا في المفاوضات حول استكمال تنفيذ الشقين الاول والثاني من اتفاق طابا، ومزيدا من الضغوط الدبلوماسية الدولية والعملية الاسرائيلية لالغاء بنود الميثاق الوطني، لاسيما وان الصراع الاسرائيلي الداخلي حول هذا موضوع قد تحول الى قضية انتخابية من الدرجة الاولى. وعليها ان تتوقع ايضا مزيدا من اغلاق بوابات العبور الاسرائيلية في وجه العمال الفلسطينيين، وانها سوف تتعرض لضغوط اقتصادية وسياسية شديدة ومتنوعة بهدف الضغط على حركتي حماس والجهاد الاسلامي لشل حركتهما ومنعهما من القيام باي عمليات عسكرية انطلاقا من المناطق الفلسطينية ضد اهداف مدنية أوعسكرية اسرائيلية.
وبصرف النظر عن التجربة المرة مع حزب العمل خلال فترة حكمه الاخيرة فالواضح ان نجاحه في الانتخابات القادمة يتلاقي مع استراتيجية العمل الفلسطيني في هذه المرحلة، ويخدم المصالح المباشرة والبعيدة للشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. ويعزز امكانية تواصل عملية البحث عن السلام، ويزيد من فرص توصلها خلال عقد من الزمن الى نتائجها المرجوة. ويفرض على القيادة الفلسطينية التعامل معه من منطلقات استراتيجية اساسها عدم التدخل في الانتخابات الاسرائيلية، واعتبارها شأن اسرائيلي داخلي. وتحضير الاوضاع الذاتية لكل الاحتمالات، بما في ذلك التفاوض مع حزب الليكود في حال فوزه في الانتخابات.
واذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني، والتطورات التي وقعت في بنية المجتمع الفلسطيني، تدفع باتجاه تجديد الوثائق الفلسطينية الاساسية بما فيها الميثاق الوطني باسرع وقت ممكن، فانها بذات الوقت تفرض على المجلس التشريعي المنتخب وعلى سلطته التنفيذية التمسك بروح ونصوص كل الاتفاقات التي تم التوصل لها مع الحكومة الاسرائيلية، واحترام التواريخ الواردة فيها، والاصرارعلى تنفيذ كل ما ورد فيها وعدم الاكتفاء بتجديد الوعود بشأن تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية، واطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين، وعودة المبعدين، واستكمال الانسحاب من مدينة الخليل ومن كل المنطقة ب ، ووقف مصادرة الاراضي، وعدم التوسع في المستوطنات، وتنظيم الوضع على المعابر، وتأمين الممر الآمن بين غزة والضفة الغربية، وتحقيق تقدم جدي في معالجة موضوع تنظيم عودة النازحين..الخ..
اما بشأن تاثير تبكير انتخابات الكنيست الرابعة عشرة، على المسار السوري، فيفترض ان لا يكون هناك خلاف في صفوف الكتاب والمفكرين السياسيين العرب بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم السياسية، المتفائلة والمتشائمة، “والمتشائلة”، على أن المفاوضات الاسرائيلية ـ السورية وبالتالي اللبنانية الاسرائيلية صارت خاضعة لحسابات حزب العمل الانتخابية ومرشحة للمراوحة في مكانها، ولن تحقق أي تقدم جوهري من الآن وحتى الانتهاء من الانتخابات. لاسيما وان الاتفاق على هذا المسار له استحقاقات مؤلمة من وجهة نظر قطاع واسع من الجمهور الاسرائيلي، وقيادة حزب العمل غير موحد حتى الان حول مفهوم السلام مع سوريا. والواضح ان استراتيجيتة وحرصه على الفوز في الانتخابات تفرضان عليه مواصلة المفاوضات مع سوريا وعدم توقيفها من الان وحتى الانتخابات، وتفرضان في الوقت ذاته التريث في التوصل الى اتفاقات معها، وضمان الهدوء على الحدود الاسرائيلية مع لبنان. وان موقفها من هذه القضايا تتقاطع مع مصالح الادارة الامريكية، ومع سياستها الراهنة في الشرق الاوسط. واظن انها لا تتعارض مع المصالح السورية في الوقت الراهن.
واعتقد ان عودة السوريين والاسرائيليين الى طاولة المفاوضات اواخر شباط الجاري هو لعب واع من الطرفين بالوقت الضائع من الان وحتى نهاية حزيران القادم. وتعبير عن رغبتهما في الاستمرار في الانضباط لقوانين اللعبة التي وضعها وزير الخارجية الامريكية السابق “بيكر” على ابواب مؤتمر السلام الذي انعقد في مدريد قبل اكثر من اربع سنوات (اكتوبر1991). وتاكيد لحرصهما على التجاوب مع ارادة الادارة الامريكية الحالية، وعدم تحمل المسؤولية عن تجميد او تعليق المفاوضات. وتحاشي التصادم مع رغبة المجتمع الدولي في استمرار المفاوضات باعتبارها الطريق الوحيد القادر على صنع السلام والاستقرار في المنطقة الشرق الاوسط. ولهذا يمكن القول سلفا ان المفاوضات السورية الاسرائيلية مرشحة للتواصل، مع التأكيد على ان تواصلها شيء وتوصلها الى نتائج ملموسة في الجولة القادمة وما سيتلوها من جولات اخرى خلال فترة الحملة الانتخابية في اسرائيل شيء آخر.
اما بشأن ضمان عدم قيام المقاومة الوطنية الاسلامية اللبنانية باية عمليات عسكرية نوعية مؤثرة خلال الشهور الثلاثة القادمة، فالواضح ان الحكومتين السورية واللبنانية سوف تتعرضان لضغوط امريكية هدفها ضبط حركة قوات حزب الله، ومنعه من القيام بعمليات من الجنوب اللبناني. تماما كالتي ستتعرض لها السلطة الفلسطينية لضبط اعمال حركتي حماس والجهاد الاسلامي. ومن غير المستبعد ان تقوم الحكومة الاسرائيلية بطرح بعض المبادرات من نوع الانسحاب المحدود من القطاع الغربي الممتد في الجنوب اللبناني من بلدة الناقورة على شاطئ البحر وحتى مشارف بلدة بنت جبيل في القطاع الاوسط، وتسليمه للجيش اللبناني، مقابل تعهد لبناني بمنع المقاومة اللبنانية من القيام بعمليات من كل الجنوب، وضمان سوريا لمثل هذا التعهد اللبناني. وفي حال عدم النجاح في الوصول الى مثل هذه الصفقة، واندفاع حزب الله باتجاه تسخين الجبهة، ووقوع توتر جدي على الحدود اللبنانية الاسرائيلية، فليس مستبعدا ان تبادر القيادة الاسرائيلية الى توسيع نطاق عملياتها في الجنوب اللبناني، وأن تحاول انجاز عمليات كبيرة نوعية وبراقة، تضمن من خلالها الهدوء في المدن والقرى الاسرائيلية القريبة من الحدود اللبنانية، وتساعدها على كسب اعلى نسبة ممكنة من اصوات الناخبين فيها.
وفي سياق الحديث عن الانتخابات الاسرائيلية وتاثيراتها المستقبلية لعل من المفيد القول ان اخطر ما قد يقع خلال حمى هذه الانتخابات هو خضوع حزب العمل لابتزازات اليمين، وان يلتزم بمواقف تتعارض مع الاتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني، ويقيد نفسه بمواقف مسبقه تغلق الطريق امام مفاوضات الحل النهائي وتكون بمثابة قيود يصعب الانفكاك منها لاحقا. اما فوز اليمين الاسرائيلي بزعامة حزب الليكود في هذه الانتخابات فالواضح انه سوف يكون بمثابة انقلاب سياسي داخل اسرائيل، يقلب اوضاع المنطقة راسا على عقب. وسيكون موجها بالاساس ضد عملية السلام وضد نتائجها التي تحققت حتى الان. ومن المؤكد ان وقوعه يؤخر صنع السلام والاستقرار في المنطقة، ويدفع بفكرة صنع التعايش بين الشعب الاسرائيلي والشعب الفلسطيني والشعوب العربية الاخرى الى الوراء.