هل سيتم طبخ “لبنان اولا” على نيران المدافع في الجنوب اللبناني؟
بقلم ممدوح نوفل في 17/08/1996
منذ توليه السلطة يحاول نتنياهو تبديد الانطباع بانه متشدد، ودحض التهمة الموجهة له بانه يسعى لتعطيل عملية السلام واعادة عقارب الزمن الى الوراء. ولحسن الحظ او سوءه لم يتأخر نتنياهو كثيرا قبل ان يكشف اوراقه ويوضح مفهومه لاسس عملية السلام ومتطلبات احيائها من جديد على مساراتها الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني. والتدقيق الولي فيها يبين ان تحركاته ستسير في منحى آخر يختلف نوعيا عن المنحى الذي سارت فيه في عهد حزب العمل. فقد اعلن التزامه بعملية السلام وطالب باستئناف المفاوضات على مساراتها الثلاث بدون شرطة مسبقة، لكنه اقرن ذلك بشروط اسرائيلية واضحة. واذا كان هذا المقال غير مخصص للبحث في ما يفكر به ويخبأه الليكود للمسار الفلسطيني، فمواقف نتنياهو وحكومته تعتبر ان ما تم على المسار الفلسطيني في عهد حزب العمل تجاوز الخط الاحمر لانه فرط بارض اسرائيل التوراتية ويجب وقفه عند حدوده. وتعطي الان اولوية لتحريك المفاوضات على المسار اللبناني ولا تمانع في ان يتم ذلك بمشاركة سورية. واقتراح وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق مردخاي على نظيره السوري مصطفى طلاس باللقاء في بعبدا يندرج في هذا الاطار. فالمعروف ان ما يهم الليكود من لبنان ويشغل بال المؤسسة السياسية الاسرائيلية على اختلاف الوانها الحزبية، والمؤسسة العسكرية على اختلاف الرتب فيها هي اولا مسألة امن الحدود الشمالية لاسرائيل وامن مدنها وقراها ومستوطناتها في الجليلين الغربي والشرقي. وثانيا المساومة مع القيادة السورية بعدما اصبح لبنان من وجهة نظرهم “الاسرائيليين” ساحة مساومة مسيطر عليها سوريا، بعد فشل المحاولة الاسرائيليةعام 82 ـ 83 في اقامة نظام سياسي لبناني موال لها. واعتقد ان الغالبية الساحقة في القيادة السياسية ـ العسكرية الاسرائيلية مستعدة للقبول بتسوية تنسحب فيها القوات الاسرائيلية من لبنان مقابل ترتيبات امنية وسياسية كالتي وضعت في اتفاق ايار 1983 بعد عملية سلامة الجليل، على ان تضمن لاحقا من خلالها اخراج سوريا من لبنان وتوسيع نفوذها فيه. وانهاء الدور الايراني فيه ووقف عمليات حزب الله منه وتجريده من اسلحته الثقيلة والخفيفة. وحل موضوع جيش لبنان الجنوبي العميل لاسرائيل بضمه رسميا للجيش اللبناني مع بقائه في الجنوب يحرس حدود اسرائيل الشمالية في اطار ترتيبات لبنانية اسرائيلية مشتركة وبضمانات سورية.
اما بشأن المفاوضات على المسار السوري فالواضح ان نتنياهو يرغب ويعمل على تاجيلها اطول وقت ممكن. فهو ناهيك عن قناعته الشخصية حول اهمية الجولان لاسرائيل، يدرك ان الشروع فيها كفيل بتفجير حكومته، ويعرف ان جماعة الطريق الثالث بزعامة كهلاني انسحبوا من حزب العمل قبل الانتخابات بسبب الموقف من احتمال الانسحاب من الجولان. وان اساس انضمامهم لحكومته وبقائهم فيها هو عدم الانسحاب من الجولان وان اية مفاوضات مع السوريين يجب ان تقوم بوضوح على هذا الاساس. وغني عن التذكير بان شارون وايتان قطبي الليكود الاخرين يعارضان أي انسحاب من الجولان حتى لو كان جزئيا.
ويمكن القول ان اطروحات نتنياهو حول استعداده لاستئناف المفاوضات على المسار السوري تدخل في اطار المناورة والتكيك، ويسعى الى انتزاع موافقة سوريا على تأجيلها. ويحاول استفزاز القيادة السورية بالقول ان الجولان اراضي متنازع عليها تم ضمها لاسرائيل منذ سنوات طويلة. ويسعى لتمويه مواقفه بشتى السبل بما في ذلك وضع العديد من الشروط التعجيزية وتحميل سوريا مسؤولية استمرار تعطيلها. فهو يربط استئنافها بشطب مبدأ “الارض مقابل السلام”. ويشترط موافقة سورية مسبقة على استبداله بمبدأ “الامن مقابل السلام”، والموافقة ايضا على ان تبدأ المفاوضات “بلبنان اولا” باعتبار ان المفاوضات حول الجولان ستكون طويلة وشائكة لان لها موقعها الخاص في اطار استراتيجية الامن القومي الاسرائيلي.
ووفقا للمتوفر من المعلومات فان زيارت نتنياهو للولايات المتحدة الامريكية ولقاءاته مع بعض زعماء العالم كانت ناجحة على اكثر من صعيد. وشجعته على المضي قدما في اتجاه “لبنان اولا” حيث وجد تقاطعا واسعا في المصالح الامريكية ـ الاسرائيلية حول ضرورة التنسيق والعمل سويا للقضاء على “الارهاب الايراني” في كل مكان. ووجد تأيدا لفكرة ان يتضمن امتداده المتمثل في “ارهاب” حزب الله في لبنان. ووجد قناعة مشتركة بان العمل “بلنان اولا” يمكن ان يكون الطريق الاقصر والاسهل نحو التوصل الى اتفاقات مع اللبنانيين ولاحقا مع السوريين رغم الصعوبات الكبيرة التي تقف في طريقه.
والواضح ان التحركات الدولية التي تمت مؤخرا، وبخاصة نتائج زيارة نتنياهو للويات المتحدة وجولة دينس روس منسق عملية السلام في المنطقة زادت من قلق السوريين واللبنانيين. فقد اكدت لهم ان توجهات نتنياهو نحو فك الارتباط الوثيق القائم بين المسارين اللبناني السوري توجهات جدية وليست مناورة تفاوضية تكتيكية. وانها تلقى بالفعل استحسانا امريكيا، ليس فقط لكسب ود حكومة الليكود واللوبي الصهيوني الامريكي في مرحلة الانتخابات بل ولان بعض اركان ادارة الرئيس كلينتون مقتنعين بضرورة اضعاف سوريا، وفك تحالفها مع ايران وتجريد حزب الله من اسلحته وانهاء علاقته الاستخبارية مع ايران.
ومراجعة تجربة المفاوض على المسارين السوري واللبناني تبين ان محاولة نتنياهو فصل هذين المسارين عن بعضهما البعض ليست جديدة، وجربت في عهد حزب العمل ولم تنجح. فهل سيمضي نتنياهو في تنفيذ مشروعه “لبنان اولا”؟ وهل يمكن له ان يكون مدخلا لتحريك المفاوضات السورية الاسرائيلية؟ وهل سينجح فيما فشل فيه حزب العمل؟ وكيف ستتعامل سوريا مع هذا المشروع؟؟
في سياق الاجابة على هذه الاسئلة الكبيرة اعتقد ان من الضروري بداية الخلاص من فكرة “لبنان اولا مدخلا للمفاوضات” وفي هذا السياق يمكن القول: قد يبدو للبعض ان هذا الاقتراح يساعد على توليد بعض الثقة المفقودة بين القيادتين السورية والاسرائيلية. وسبيلا لاستعادة المفاوضات الجدية على المسارين السوري واللبناني. وقد يبدو ان له ديناميكية عملية قد توصل الى اتفاق لبناني اسرائيلي بموافقة سورية، وان التوافق الاسرائيلي السوري حول لبنان هو احد المداخل الجدية التي من الممكن ان تقود الى اتفاق سوري اسرائيلي حول الجولان. اعتقد ان من السذاجة السياسية افتراض النوايا الطيبة لدى الخصم. وان من الغباء القفز عن ايدلوجية الليكود ونظرته للجولان، وعن موقف القوى المشكلة للحكومة الاسرائيلية المعروفة من السلام ومن اتفاق اوسلو، ومن الانسحاب من الجولان، ومن الوجود السوري في لبنان. فكلها تشير الى سوء نوايا نتنياهو في طرح المشروع.
اعتقد ان حكومة الليكود ماضية قدما في مشروعها، واعتباراتها تتجاوز عقد اتفاق مع لبنان وتتجاوز الجبهة اللبنانية كلها. فهو يندرج ضمن نطاق الاستراتيجية الاقليمية العامة لاسرائيل. وتضع اسرائيل في حساباتها امكانية التصادم مع القوات السورية العاملة في لبنان. فهي تعرف اكثر من سواها ان سوريا ترفض المشروع وستعمل على مقاومته بالطرق والاساليب التي تراها ممكنة ومناسبة. فنجاحه يعني حشرها في زاوية ضيقة، ويقود الى ضعضعة اوضعها الداخلية بسرعة كبيرة وتحجيم دورها الاقليمي. ويستطيع كل مراقب سياسي او اعلامي ببساطة رؤية التعبأة النفسية، الجارية على قدم وساق في هذه الايام، للراي العام الاسرائيلي في وسائل الاعلام التي تسيطر عليها القوى اليمينية. واظن ان نتنياهو مقتنع تماما بامكانية نجاح مشروعه ودق اسفين بين سوريا ولبنان. وان شارون وايتان وكهلاني وعدد من جنرالات الجيش الاسرائيلي يهللون ويكبرون له ويبسطون نتائجه. رغم انهم يدركون ان تمريره لا يمكن ان يتم بدون وضعه على نار حامية. وجميعهم مقتنعين ان تنظيم الوضع على الساحة اللبنانية بصورة مريحة لاسرائيل شر لابد منه، ويظنون ان ثمن ذلك لن يكون كبيرا في كل الاحوال. واظنهم لن يفشلوا في ايجاد الذريعة لتحريك دباباتهم خلال وقت قصير. وحملتهم القوية الجارية الان حول امتلاك حزب الله صواريخ من عيار 240 ملم يصل مداها الى اكثر من 40 كلم، واطلاق نتنياهو تهديداته المتكررة لسوريا تندرج في هذا الاطار.
واظن انني لا اخطأ التقدير اذا قلت ان سوريا كانت احد الاطراف الاقليمية التي لم يزعجها نجاح نتنياهو. ويفترض بها ان تكون قد وضعت في حساباتها امكانية شغله على فصل مسارها عن المسار اللبناني. والواضح ان مصلحتها الان، ومعها لبنان، تكمن في عدم العودة الى طاولة المفاوضات قبل الانتخابات الامريكية باعتبارها فترة الوقت الضائع. وتفرض عليهما ايضا عدم العودة للتفاوض وفقا للصيع والشروط المسبقة التي يضعها نتنياهو، والاصرار على تراجعه عنها لان الاخذ بها يعني الموافقة على نسف الاسس التي بنيت عليها عملية السلام على المسار السوري الاسرائيلي، واللبناني الاسرائيلي، ونسف كل المواقف التي طرحت في المفاوضات منذ مدريد وحتى آخر جلسة عقدت بينهم.
وطالما ان الوضع على الساحة اللبنانية يتجه نحو التأزم، والوضع في جنوبه يسير بخطى سريعة نحو الانفجار العسكري، لعل من المفيد لجميع الاطراف بمن فيهم سوريا وبقية الدول العربية واسرائيل وراعيي عملية السلام العودة قليلا للوراء قبل ان تنطلق قذائف المدافع وصواريخ الطائرات والراجمات. ومراجعة فترة الصراع الاقليمي والدولي حول السيطرة على الساحة اللبنانية ابان الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين، والتي استمرت اكثر من سبع سنوات (76 ـ 84). والكل يتذكر فشل محاولات اسرائيل المتكررة والتي دعمت من قبل الامريكان في السيطرة المطلقة على الساحة اللبنانية وفي تحجيم الوجود الفلسطيني والدور السوري فيها. والتي بلغت ذروتها في حرب بيروت عام 1982 ومجازر صبرا وشاتيلا واستقالة شارون، وفي الغاء اتفاق ايار عام 1984، وخروج القوات المتعددة الجنسيات بعد تفجير مقر قوات المارينز الامريكية والذي تسبب في قتل بضع مئات من افرادها.
اعتقد ان اية محاولة اسرائيلية جديدة للسيطرة على لبنان واخراج القوات السورية منه، والفصل بين المسارين السوري واللبناني لن تمر بهدوء وسلام. ونتيجها الوحيدة المؤكدة هي مزيدا من الدمار والعذاب للشعب اللبناني. اما النتائج الاخرى فكلها تبقى في اطار الاحتمالات والتوقعات غير مؤكدة. بما في ذلك تعقيد عملية السلام على كل المسارات، وتوتير اجواء المنطقة ووضعها على حافة الانفجار، ودفع شعوبها نحو مزيد من التطرف ونسيان عملية السلام. في السابق تردد حزب العمل في التقدم على هذين المسارين بسبب المعارضة القوية التي واجهها داخل الحزب ذاته ومن قبل المستوطنيين ومن كل جمهور الليكود. والان جاء الليكود ليستغل نتائج تردد حزب العمل ويحولها الى سد منيع في وجه السلام بين شعوب المنطقة.ويبدو ان قدر شعوب هذه المنطقة ان تمر في مرحلة جديدة من الصراع الدموي الرهيب قبل ان يقتنع الجميع بان لابديل عن السلام العادل.