المساومة حول الاتفاقات السابقة يضيع الحقوق الفلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 10/09/1996
حول استئناف المفاوضات على المسار الفلسطيني ـ الاسرائيلي
بعد لقاء عرفات نتنياهو، ومع الاعلان عن استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية واجتماع لجنة التوجيه الفلسطينية الاسرائيلية يوم 9/9/1996، ارتفعت وتيرة الحديث في الساحة الفلسطينية العربية حول جدوى استئناف المفاوضات على هذا المسار. لاسيما وان هناك شبه اجماع على انه لا افق لاي تقدم جدي على أي من مساراتها الثلاث طيلة عهد الليكود. وبخاصة حول قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين وهي لب الصراع الفلسطيني العربي ـ الصهيوني ( القدس، اللاجئين، الاستيطان، الحدود، المياه، الامن، والعلاقات المستقبلية) . ويخشى البعض من تحول عملية التفاوض هذه الى مهزلة توفر غطاء لمواقف الليكود وسياساته المتطرفة. وتساعد على تكريس الواقع الاحتلالي القائم في جنوب لبنان والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة. وهناك من يطالب، بمن فيهم مفكرون عرب وفلسطينيين، واعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني، واعضاء في الوفود الفلسطينية التي سبق وشاركت في المفاوضات، بربط استئنافها بتراجع حكومة الليكود عن قرارها الخاص باستئناف النشاط الاستيطاني في الضفة والقطاع. وباعلانها الالتزام الكامل بتنفيذ كل نصوص الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وهناك من يدعو الى تجميدها بانتظار نتائج الانتخابات الامريكية. وربطها بالمسارين السوري واللبناني، وانتظار ما ستسفر عنه الاتصالات الدولية والمنكافات العلنية السورية الاسرائيلية الجارية بشأن استئنافها على هذين المسارين.
لا شك أن من حق كل انسان فلسطيني، وكل حزب أو فصيل عربي أن يقول رأيه في المفاوضات العربية الاسرائيلية، وبخاصة الفلسطينية الاسرائيلية. كونها تمس مباشرة صلب قضايا الامن القومي، وتؤثر على حاضر ومستقبل الشعوب العربية. ومن حقه ايضا ان يطلق عليها ما يحلو له من نعوت وصفات. وأن يطرح أفكاره بشأن كل مرحلة من مراحلها، وأن يقدم ما عنده من مقترحات، حتى ولو تضمن موقفه تغييراً وتبديلاً في القناعات، دون أن يقدم لذلك أية تفسيرات. فالموضوع شائك ومعقد ومتحرك تصح فيه الاجتهادات، وطبيعي ان تتعدد الآراء حوله وان تقع بشانه تباينات وخلافات اساسية.
ولكن اذا كان التباين السياسي والفكري حول المفاوضات الفلسطينية والاسرائيلية ومازال يعتبر بمثابة ظاهرة صحية فمن الجريمة ان يتسبب في توليد مزيد من الانقسامات. وتأجيج الخلافات الفلسطينية الداخلية، وتحويلها الى صراعات تناحرية بين السلطة والمعارضة او بين الداخل والخارج مثلا. وان يقود الى تضيع الحلقة المركزية التي يجب ان ينصب حولها البحث والنقاش. والى خلق صراعات فلسطينية عربية جديدة وعربية عربية اضافية. وان يؤدي الى اضعاف التضامن العربي مع الموقف الفلسطيني العادل، المطالب بربط خطوات التطبيع مع اسرائيل بمدى التقدم في المفاوضات حول قضايا الحل النهائي وفي مقدمتها قضية اللاجئين والحفاظ على الحقوق العربية في القدس.
اعتقد ان المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، والمصلحة القومية المشتركة لجميع الاطراف العربية، تفرض على الجميع ـ فلسطينيين وعرب ـ الاقرار المسبق بحق الاجتهاد. وتفرض عليهم تقدير الظرف المحيطة بكل منهم ، واحترام ومساندة مواقف بعضهم بعضا. ومنع تحول خلافاتهم وتبايناتهم حول هذه المسألة، او اية مسألة جوهرية اخرى، الى صراعات تناحرية. فليس من حق أي طرف فلسطيني او عربي فرض رأيه على الاخرين، او وضع مصلحته الاقليمية او القطرية او الحزبية الضيقة فوق مصالح الجميع.
فاذا كان على السلطة الفلسطينية وقيادة م ت ف والاردن مثلا تفهم واحترام ومساندة الموقفين السوري واللبناني بعدم الموافقة على فصل مساريهما، ورفض فكرة “لبنان اولا” ورفض استئناف المفاوضات على مساريهما، او مسارهما الموحد، قبل اقرار نتنياهو بمبدأ الارض مقابل السلام، وبأن الجولان اراض محتلة، والالتزام مسبقا بتنفيذ قرارات مجلس الامن الدولي 242 و338، والقرار 425 الخاص بالوضع في جنوب لبنان، فعلى سوريا ولبنان ومن يؤيدهما في مواقفهما تفهم موقف الاردن بان ليس بامكانه الغاء او تجميد الاتفاقات التي وقعها مع الاسرائيليين، او النقوص عن أي من نصوصها. فمثل هذا المطلب غير الواقعي يضع الاردن في مواجهة العالم ويعرضه لمخاطر كبيرة، ويسهّل على نتنياهو وحكومته تحويله يوما ما الى ساحة ملائمة لترانسفير الفلسطينيين. فهذا الحلم كان وما زال يحلم به بعض اركان الليكود ولم يلغوه من تفكيرهم. وبذات الوقت فان على سوريا ولبنان والاردن ايضا تفهم الموقف الفلسطيني القائم على: ليس بامكان م ت ف والسلطة الفلسطينية الغاء الاتفاقات التي وقعتها مع الاسرائيليين، او التراجع عنها باية صيغة كانت. وليس من مصلحتها في هذه المرحلة بالذات تجميد المفاوضات او تعليقها على المسار الفلسطيني الاسرائيلي. فمصلحة شعبها تكمن في تعزيز وتوطيد المكاسب الصغيرة او الكبيرة التي انتزعتها عبر المفاوضات وليس استنزافها وشطبها. وتفرض عليها المطالبة بالحقوق الفلسطينية المهضومة التي نصت عليها اتفاقاتها مع الاسرائيليين. والضغط على الراعيين وكل من شهدوا على الاتفاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، من اجل الزام حكومة نتنياهو بتنفيذ ما سبق ووقعت عليه والتزمت به حكومة بيريز. والمطالبة باستئناف المفاوضات فورا حول كل القضايا الجوهرية المطروحة على جول اعمال مفاوضات الحل النهائي. وعدم السماح باخضاع ما وقّع من اتفاقات مع الاسرائيليين لاعادة البحث والنقاش.
ومن البديهي القول ان ما يهم الفلسطينيين هو التطبيق الفعلي للاتفاقات بكل بنودها، وليس التفاوض من جديد حول على قضايا انتهى التفاوض حولها وتم الاتفاق حولها. فالعودة للتفاوض من جديد حول ما تم الاتفاق عليه يعني العودة الى نقطة الصفر وهدم اسس كل الاتفاقات السابقة. واعتقد ان السلطة الفلسطينية وقيادة م ت ف قد تدفع ثمنا باهظا على كل الصعد الفلسطينية والعربية والدولية اذا وافقت على الدخول في مفاوضات حول الاتفاقات السابقة. ومن البديهي القول ان الثمن سوف يكون افدح اذا وافقت على تقديم اية تنازلات اواجراء اية تعديلات ولو بسيطة على أي بند من بنود الاتفاقات التي تم التوصل لها. فالنتيجة معروفة سلفا: اما وقوع كل او بعض التعديل الذي يطالب بها نتنياهو، او ابقاء الوضع على ما هو عليه الان مع تحمل الجانب الفلسطيني المسؤولية عن خلق بلبلة واسعة في صفوف القوى العربية والدولية المساندة للموقف للفلسطيني، والحريصة على تنفيذ الاتفاقات كما وقعت امامها وشهدت في حينه عليها. ولا شك في ان الموقف من الاتفاق حول الانسحاب من الخليل ومن تنفيذ ما استحق تنفيذه من بنود اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات ملحقة هو المحك. وهو الاختبار الاول للطرفين والذي يراقبه العالم باهتمام بالغ .
واذا كانت مصلحة الفلسطينيين تدفعهم باتجاه تسريع العودة الى طاولة المفاوضات على امل تحقيق بعض المكاسب الاضافية، وتنفيذ ما لم ينفذ في عهد بيريز من بقايا الاتفاقات المرحلية. فلعل من المفيد القول ان اخطر ما قد يقع خلال هذه الفترة هو خضوع الجانب الفلسطيني لابتزازات الليكود. وان يتم الانسياق مع اطروحته الداعية الى اغلاق طريق اوسلو. وان يلزم نفسه بمواقف تتعارض مع الاتفاقات الموقعة، وان يتقيد بمواقف مسبقه تغلق الطريق امام مفاوضات الحل النهائي وتكون بمثابة قيود يصعب الانفكاك منها لاحقا. وفي هذا السياق اعتقد ان لجنة متابعة المفاوضات، والسلطة الفلسطينية، وقيادة م ت ف، قد اخطأت واساءت التقدير عندما وافقت على اغلاق ثلاثة مؤسسات فلسطينية فرعية في القدس. فالتجربة العملية والخبرة المتراكمة من المفاوضات الفلسطينية والعربية الاسرائيلية تؤكد ان مثل هذه التنازلات الصغيرة تفتح شهية نتنياهو على مطالبة الجانب الفلسطيني بقضايا اكبر. واظن ان نتنياهو حسم الشك باليقين حول هذه المسألة عندما وقف ليتشدق هو وبعض اركان حكومته بانهم استطاعوا، خلال اسابيع قليلة من حكمهم، تحقيق، بشأن وجود المؤسسات الفلسطينية في القدس، ما لم يستطيع حزب العمل تحقيقه خلال سنوات. وهناك فرق جوهري بين الحرص على استئناف المفاوضات على المسار الفلسطيني، وبين الحرص على استئنافها باي ثمن حتى لو كان هذا الثمن هو وجود بعض المؤسسات الفلسطينية في القدس، ولو كانت هذه المؤسسات صغيرة وغير اساسية. والتدقيق في مواقف الليكود وفي اتجاهات عمله الرئيسية يبين ان القضية المركزية المطروحة على بساط البحث ليست العودة او عدم العودة الى طاولة المفاوضات، بل مواجهة خطواته العملية التي بدأ بترجمتها على ارض الضفة والقطاع.
وبالمقابل اذا كان لا خلاف بين المفكرين الفلسطينيين والعرب على ان نتنياهو يسعى جاهدا لحرف مسيرة السلام عن مسارها الذي سارت فيه في عهد حزب العمل، والقضاء بصورة نهائيه على روح اتفاق اوسلو. فمن الخطأ الفاحش ان يتحمل أي طرف عربي امام العالم مسؤولية تعطيل استئناف المفاوضات، وتعطيل الجهود الدولية المبذولة من اجل استئنافها. طالما ان هناك قوى دولية مازالت تؤمن بضرورة مواصلة العمل من اجل صنع السلام والاستقرار في المنطقة. وذات الشيء ينطبق على الجانب الفلسطيني في حال عدم اجادته الدفاع عن مواقفه وعن حقوقه التي نصت عليها الاتفاقات. وتحمل مسؤولية تعطيل المفاوضات او قتل اتفاق اوسلو الذي ادخله نتنياهو في غيبوبة مميتة. وذات الشيء ينطبق على دخوله في مواجهة حاسمة مع حكومة الليكود غير مدروسة. طالما ان حدود التضامن العربي غير واضحة، وغير مطروح على جدول اعمال الدول العربية، فرادى ومجتمعة، استبدال خيار السلام الذي اختارته قبل خمس سنوات بخيار آخر كالحرب من اجل تحرير فلسطين وبقية الاراضي العربية المحتلة. والكل يعرف ان دور الامم المتحدة مشلول تماما، ودور الدول الاوروبية معطل من قبل الامريكان. وان يد الرئيس كلينتون مكبلة بالانتخابات وبضغوط اللوبي الامريكي الصهيوني الفعال. فمثل هذه الاخطاء تسهل على نتنياهو تحقيق اهدافه، وتوفر عليه مواجهة القوى الدولية والاقليمية الحريصة على استمرار عملية السلام في المنطقة وعدم انفجارها، وعلى تقدمها ولو بخطى بطيئة.
ولعل من المفيد لجميع الاطراف العربية استباق الارتفاع المتوقع في حرارة الخلاف حول تجدد المفاوضات على المسار الفلسطيني. والدخول في بحث ثنائي وثلاثي وجماعي صريح بهدف التوافق فيما بينهم. والبحث عن نقاط التلاقي وتطويرها وهي كثيرة، واكثر اهمية من نقاط التباين والاختلاف. وتحديد القواسم المشتركة وهي كبيرة ومساحتها اوسع بكثير من مساحة نقاط الخلاف. ورفع درجة التنسيق فيما بينها قبل شروع البعض في المطالبة بتجميدها وبالانسحاب منها. والاتفاق على عدم تحول التباينات والخلافات الى صراعات تناحرية تضعف الجميع دون استثناء. ومنع وقوع الحرائق في العلاقات العربية العربية تحت أي ظرف كان. ومن البديهي القول ان وقوع مثل هذه الصراعات التناحرية يقوى حكومة نتنياهو داخليا ويخفف عنها الضغوطات الدولية. ويضعف التضامن الدولي مع قضايا العرب العادلة ومواقفهم الواقعية.