نتائج معركة النفق على الوضع الاسرائيلي الداخلي والخارجي القسم الثالث
بقلم ممدوح نوفل في 08/10/1996
1) عاصفة قوية داخل اسرائيل
اثارت معركة النفق عاصفة سياسية قوية داخل المجتمع الاسرائيلي وعلى كل المستويات. وبخاصة في صفوف قواه المنظمة بما في ذلك داخل الحكومة وفي اطار حزب الليكود ذاته. وخلخلت اسس الامن والسلم الاجتماعي الداخلي. ورفعت من وتيرة التوتر القائم في علاقات القوى الساسية والاجتماعية الاسرائيلية بعضها ببعض. وفتحت الباب امام صراعات سياسية واجتماعية اوسع من أي وقت مضى، وزادت من القلق الامني والسياسي عند مختلف فئات الشعب الاسرائيلي. وطغت الاحداث الدامية التي وقعت في شوارع مدن وقرى الضفة والقطاع على سواها من الاحداث الاخرى. وتركزت الانظار حول صور اطلاق النار من قبل الشرطة الفلسطينية على افراد الجيش الاسرائيلي. وحول صور القتلى والجرحى من الجانبين. واثارت تساؤلات كبيرة حول علاقة اسرائيل بالفلسطينيين والعرب وبالعالم، وحول مصير عملية السلام. وعمقت الاستقطاب في اسرائيل بين المعارضة والحكومة. وراحت مختلف القوى والاحزاب السياسية تتراشق الاتهامات حول التسبب في الاحداث الدامية التي وقعت في المناطق الفلسطينية. وحول الاسباب الحقيقية والجوهرية التي ادت الى الحاق الخسائر المادية والمعنوية بدولة اسرائيل وبعلاقاتها الاقليمية والدولية. وعاد الانقسام الحاد الذي ظهر ابان انتخابات الكنيست ورئيس الوزراء للبروز على سطح الحياة السياسية من جديد. ولم تكتفي القوى بالتعبير عن مواقفها على صفحات الجرائد وفي البيانات العلنية، بل نزلت للشوارع، ووقعت بينها مصادمات خفيفة. وحمّلت احزاب اليمين حزب العمل وميريتس مسؤولية تسليح الشرطة الفلسطينية وكبرة عددها. ولاحقا اعتبرت فشل قمة واشنطن انتصار سياسي ونجاح كبير لها ولسياستها الصلبة. ولم يتردد مدير مكتب رئيس الوزراء عن الافتخار بذلك.. وبالمقابل حملت احزاب المعارضة حكومة نتنياهو المسؤولية عن الاحداث. واعتبرت ايام الاحداث اياما سوداء في تاريخ اسرائيل. وحذرت من عزلة اسرائيل عن العالم. ومن تدمير العلاقات التي بنيت مع عدد من الدول المحيطة باسرائيل. ومن دفع الوضع الفلسطيني باتجاه الانتفاضة المسلحة. ومن دفع المنطقة ككل نحو انفجار رهيب. وذكرت قيادة حزب الليكود بانه هو صاحب اتفاقات كامب ديفيد ومناحم بيغن هو الذي وقعها وهي التي نصت على حكم ذاتي وعلى تشكيل شرطة فلسطينية مسلحة وقوية.
والواضح ان معركة النفق احدثت هزة عميقة داخل المجتمع الاسرائيلي. وحركت قواه السياسية والاجتماعية. فالمرتكزات الاربعة الاساسية التي تحدث عنها نتنياهو كقاعدة لحكمه ولعمل حكومته على مدى الاربع سنوات القادمة تخلخلت. وهي: الامن. السلام. تنمية الاقتصاد الاسرائيلي. وتطوير علاقات اسرائيل الدولية والاقليمية. فالامن الداخلي والخارجي بمفهومة الاستراتيجي والتكتيكي تدهور خلال الاربعة شهور الاولى من حكم الليكود اكثر من أي وقت مضى منذ حرب الخليج وحتى الان. ويمكن القول انه تلقى ضربة استراتيجية بعد ان عطلت القيادة القيادة السياسية امكانية اقامة علاقات سلام حقيقي مع جيران اسرائيل فبناء امن قوي والحفاظ على امن الدولة يتحقق بمقدار ما تنجح الدولة في اقامة علاقات سلام مع جيرانها، وايضا توسيع شبكة المصالح الامنية المشتركة مع التجمعات والدول المحيطة بها. وهذ الشيء اصبح بعد معركة النفق بعيد المنال. فالمرتكزات الاربعة مترابطة بعضها ببعض. وتأثر واحدتها على الاخرى. فتخلخل احداها يخلخلها كلها. فلا امن راسخ لاية دولة بدون سلام ثابت مع الدول المجاورة لها. وذات الشئ ينطبق على الاقتصاد ونموه. فبعد تدهور العلاقات السياسية مع الدول العربية، صار السلام بين اسرائيل وجيرانها ابعد ما يكون عن التحقيق. واصبح الاقتصاد الاسرائيلي معرضا لخسائر كبيرة. ولعل مبادرة دولة قطر بعد معركة النفق الى وقف كل اشكال التعاون الاقتصادي مع اسرائيل بما في ذلك تجميد صفقة الغاز نموذج على الخسائر المتوقعة.
صحيح ان عاصفة النفق لم تحدث تغيرا حتى الان في موقف نتنياهو ومن يشاركه الحكم. ولم تحدث تغييرا في خارطة التحالفات السياسية الا ان تفاعلاتها مازالت متواصلة وتضغط على الجميع. ويمكن التكهن بان احتدام الصراع داخل اسرائيل سوف يتواصل طيلة عهد الليكود. وقد يتفاقم اكثر فأكثر وقد يأخذ اشكالا عنيفة غير سلمية. وقد يتوقف اذا تم تشكيل حكومة وحدة وطنية. او اذا تدهورت الاوضاع بصورة دراماتيكية وسقطت الحكومة وعادوا للانتخابات من جديد. فمعركة النفق اعادت طرح الموضوع الفلسطيني بحدة على الشارع الاسرائيلي. وجعلت الوضع الاسرائيلي الداخلي مفتوح على كل الاحتمالات. لاسيما وان اوساطا واسعة من الرأي العام الاسرائيلي، بما في ذلك رجال اعمال، ومصوتون كثيرون صوتوا لنتنياهو توصلوا الى استنتاج بان التراجع عن عملية السلام يلحق باسرائيل خسائر فادحة. واذا كانت مصالح الاحزاب المؤتلفة تدفعها الان للتمسك بتحالفها في اطار الحكومة الحالية، فاني اعتقد ان تطورات الاحداث وتفاعلاتها اللاحقة، والضغوط الخارجية التي ستتعرض لها هذه الاحزاب والحكومة سوف تدفع ببعضها الى اعادة النظر في موقفها. حيث يجري الان نقاش قوي وحاد في معسكر اليمين الحاكم حول الموضوع. ومن غير المستبعد ان تجد الاتجاهات الاكثر تطرفا مثل شارون وبني بيغن وزئيف نفسها مضطرة لان تترك الحكم. وهناك اوساط اخرى داخل الحكومة مثل شاس حزب اليهود الشرقيين تدرك ان ترك نتنياهو المتسرع يتصرف على هواه وبدون رقيب جدي ولا حسيب فيه الكثير من المغامرة ولهذا بدأوا يتحدثون اكثر فاكثر عن حكومة وحدة وطنية يشارك فيها حزب العمل ويلوحون بالحاجة اليها لمواجهة الظروف والتطورات. وفي هذا السياق من المفيد التحذير من الوقوع في خطأ التقدير بان حصول مثل هذا التطور السياسي الكبير قريب. فوقوعه يحتاج الى وقت والى تفاعلات اكبر من التي تجري الان. فالقراءة الموضوعية لما وقع خلال حكم نتنياهو من احداث وتطورات تؤكد ان اي من مرتكزات حكم الليكود لم تسقط حتى الان. وان مصالح القوى المؤتلفة مازالت تكمن في الحفاظ على الائتلاف الذي بنته فهو الذي يؤمن لها مصالحها ومصالح جمهورها الانتخابي ومصالح قواعدها التنظيمية.
2) الجيش الاسرائيلي متأهب للرد
وفي سياق الحديث عن نتائج معركة النفق على الاوضاع الداخلية في اسرائيل، لا بد من معالجة موقف الجيش والاجهزة الامنية الاسرائيلية منها. والتمعن في وانعكاساتها عليها وعلى علاقتها بالمؤسسة السياسية الاسرائيلية، وعلاقتها بالفلسطينيين وبخاصة علاقتها باجهزة الامن الفلسطينية المختلفة. وفي هذا الاطار تبين التقارير والمعلومات التي رشحت للصحافة ان الجيش والاجهزة الامنية الاسرائيلية قد تنبأت قبل معركة النفق بوقوع احداث في المناطق. وفي حينه وقبل وقوع الاشتباكات، رفعت اجهزة المخابرات والاستخبارات العسكرية ومنسق شؤون “المناطق” اورن شحور تقارير للجهات السياسية العليا ، كانت كلها تشير الى تصاعد حالة الاحباط والياس من عملية السلام في الشارع الفلسطيني. واحتمال توتر وتدهور الاوضاع. واشارت الى ان الامور تسير باتجاه التصادم بين الطرفين وانها اقتربت من حافة الانفجار. ولم تستثن امكانية انفجار الشارع في وجه الجميع. واشارت تقاريرها الى ان اوساطا واسعة ومقرر في القيادة السياسية الفلسطينية فقدت الامل من احداث تغيير في مواقف الحكومة ومن امكانية تحقيق تقدم في عملية السلام. وتبين المناقشات التي نشرت بعد الاشتباكات ان قيادة الجيش والاجهزة الامنية سبق ووضعت اكثر من خطة لمواجهة التطورات المحتملة. احداها هي التي طبقت من قبل افراد الجيش والاجهزة الامنية الاخرى. واعتمدت اسلوب التصدي بقوة في الدفاع عن الذات وعن المواقع. والحفاظ على زمام المبادرة بما ذلك اطلاق النار وبغزارة عند الضرورة على المتظاهرين وعلى افراد الشرطة الفلسطينية اذا تدخلوا بطريقة غير مرضية. وسمحت الخطة باستخدام المروحيات في قمع المظاهرات عند الضرورة. ولم تغفل الاشارة الى العمل على عدم تاجيج المشاعر قدر الامكان وبما لا يتعارض مع الواجبات الاساسية. والتدقيق في التطبيقات العملية لهذ الخطة من قبل ضياط وافراد الجيش الاسرائيلي يؤكد ان الكثير منهم اندفعوا في تطبيقها اكثر من اللازم. وتعمدوا قتل وجرح اكبر عدد ممكن من المدنيين والعسكريين الفلسطينيين. اما مجزرة الحرم الاقصى التي وقعت يوم الجمعة الدموية فلا تفسير لها سوى انها نوع من انواع انتقام الجاني من الضحية، تم الاشراف علية من قبل قائد عسكري برتبة وزير..
اما الخطة الاخرى فكانت تقوم على اقتحام بعض مناطق السلطة الفلسطينية، وبخاصة الاعنف في تحركها، بقوات كبيرة وبمعدات واليات ثقيلة دبابات ومجنزرات وانصاف مجنزرات، واستخدام الطيران. والقيام بحملة اعتقالات واسعة للنشطاء الحركة الشعبية والتصدي لقوات الشرطة والاجهزة الامنية الاخرى اذا حاولت التدخل لاعاقة عمل الجيش. والواضح ان الخطة الثانية مستخلصة من الدروس والعبر التي توصلت لها القيادات الامنية والعسكرية من تقيمها للانتفاضة. حيث تم الاستخلاص في حينه بان احد الاسباب الرئيسية لاستمرار الانتفاضة عدة سنوات هو عدم قيام الجيش بضربها بقوة وعنف في الايام الاولى من انطلاقتها. وتبين التقارير الصحفية وبعض التصريحات الرسمية ان القيادة السياسية اعتمدت الخطة الاولى وجمدت العمل بالثانية. واعتبرتها صالحة للعمل بها اذا ما تطورت الاوضاع نحو الاسوء. كما تبين التصريحات الرسمية ايضا ان بعض قادة الاجهزة الامنية قد اخطئوا التقدير وفوجئوا بمسألتين اساسيتين: الاولى كما قال رئيس جهاز المخابرات العامة في المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء بعد عودته من رحلته الاوروبية. هي تقدير زخم التحرك الجماهيري. فتقديراتهم كانت تشير الى ان التحركات الشعبية سوف تكون ضعيفة ومحدودة لاسباب عديدة. احدها وجود هوة واسعة بين السلطة الفلسطينية والجمهور الفلسطيني. والثانية هي المشاركة الواسعة لافراد من قوات الامن الفلسطينية في التحركات وقيامهم باطلاق النار بغزارة على القوات الاسرائيلية دون اوامر من قيادتهم السياسية العليا، ولا من قيادتهم العسكرية المباشرة. واظن ان القيادة الاسرائيلية السياسية فوجئت بسرعة التحول في مواقف رجال الامن والشرطة الفلسطينية، وبغزارة النيران التي اطلقت من بنادقهم. ولعل التمعن في الخلفية الذهنية التي انطلق منها هذ التصور الاسرائيلي الخاطىء لدور قوات الامن الفلسطينية يبين انها تنطلق من عدم فهم المشاعر الوطنية والانسانية الكامنة في نفوس افرادها وضباطها. وتعتبرهم اناس بدون مشاعر وبدون كرامة وطنية او انهم فقدوها. وهذه النظرة يعتمدها عادة المستعمرون وتعتمدها القوات الغازية في التعامل مع العملاء والمأجورين. واظن ان دراساتهم النظرية المجردة، وتجربتهم العملية مع قوات لحد العاملة في جنوب لبنان، ومع عملائها من الفلسطينيين كان لها دورها في نسيان ان قوات الامن الفلسطينية تتألف من مناضلين لهم مشاعرهم الوطنية. ناضلوا سنوات طويلة من اجل انتصار قضية شعبهم العادلة وان المتظاهرين والمحتجين هم اخوانهم واخواتهم واهلهم. وايضا نسيان ان السلطة الفلسطينية لم تشكلها الحكومة الاسرائيلية. وان الطعن الجماهيري في الاداء والمطالبة بالتصحيح لا يغير من كونها مشكلة من اناس لهم تاريخهم الوطني. والنظرة الاسرائيلية لقوات الامن والشرطة الفلسطينية تنطلق ايضا من نظرة استعلائية خاطئة، جوهرها يطعن بشجاعة وكرامة المقاتلين الفلسطينين، وبشرف سلاحهم الذي يحملوه. وتتعامل معهم باعتبارهم بشر فاقدون لكرامتهم ولمشاعرهم الانسانية اتجاه التعدي عليهم وعلى حقوق الانسان الفلسطيني. ولا نذيع سرا اذا قلنا افراد الشرطة وقوات الامن الفلسطينية الذين اطلقوا النار على قوات الجيش الاسرائيلي اطلقوها بدون اوامر رسمية لا من قادتهم المباشرين ولا من قيادتهم السياسية. والتدقيق في المواقع والحالات التي لجأوا فيها لاستخدام سلاحهم تبين ان كرامتهم الشخصية والوطنية ودفاعهم عن اهلهم وعن شرف السلاح الذي حملوه ،وعن القسم الذي اقسموه عند حمله هي المحركات الداخلية التي دفعتهم الى اطلاق النار. وانهم اطلقوه دفاعا عن النفس بعدما تم استفزازهم الى ابعد الحدود.
والان وبدلا من ان تبحث القيادة السياسية العسكرية في اسرائيل في مسببات المصادمات والاشتباكات التي وقعت بين الطرفين وتستوعبها وتعمل على معالجتها جذريا بتنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين. نراها تمعن في مواقفها السياسية المتطرفة. وترفض احترام الاعراف والقوانين الدولية وقرارات الشرعية الدولية. ولا تعير لمواقف واراء ومصالح الدول الكبرى في المنطقة أي اهتمام يذكر. وترفض اخذ مصالح الطرف الاخر شعب وسلطة واجهزة امنية بعين الاعتبار. وتغوص في بحث ما يسموه تطاول قوات الامن والشرطة الفلسطينية على جيش الدفاع الاسرائيلي. ويناقشون لساعات طويلة خططهم السابقه واشكال المواجهة المحتملة. ويضعون خططا جديدة للمواجهة العسكرية القادمة. ويحشدون القوات والمعدات اللازمة لذلك. ويرفضون تفهم واستيعاب دوافع دبة الصوت العالي الذي قامت بها السلطة الوطنية دفاعا مصالح شعبها وعن الاتفاقات الموقعة مع الحكومة الاسرائيلية السابقة. ودفاعا عن عملية السلام ولتعطيل عملية الذبح الجارية لها صباح ومساء كل يوم وبدم بارد. ونسمعهم يطالبون بتجريد افراد الشرطة الفلسطينية الذين اطلقوا النار على الجيش الاسرائيلي من اسلحتهم وتسريحهم من سلك الاجهزة الامنية الفلسطينية. وانهم وضعوا اسمائهم في عداد قوائم الفلسطينيين المطلوبين للاجهزة الامنية والعسكرية الاسرائيلية.
وبذات الوقت ترفض الحكومة الاسرائيلية الاستماع لصوت المعارضة الاسرائيلية وصوت المثقفين والمفكرين الاستراتيجيين الاسرائيليين العقلاء الواقعيين التي تحذر من انفجار الاوضاع بصورة اعنف، ومن زج كل المنطقة في صراعات دموية جديدة لا طائل منها. ونجدهم قابعين منعزلين متمترسين خلف مواقفهم ومفاهيمهم الايدلوجية غير العملية وغير المفهومة من احد سواهم هم وانصارهم في الشارع الاسرائيلي. وبدأوا في اعادة النظر في موقفهم من دور قوات الامن والشرطة الفلسطينية، ومن تزويدها بما يلزمها من معدات عسكرية. وبينت الاشتباكات ان الجانب الاسرائيلي قد اخذ قراره بالتعامل مع قوات واجهزة الامن الفلسطينية باعتبارها بالحد الادنى غير صديقة ولا يؤتمن جانبها. ولا يمكن الاعتماد عليها في ضبط الامن في مناطق السلطة الفلسطينية وفقا للمفهوم الاسرائيلي للامن. واظن انه بصدد وضع الخيارات والبدائل لكل الاحتمالات. فلم يعد بامكان أي منهما الحديث عن تعاون وتنسيق مشترك بعدما اطلق الجانبان النار على بعضهما البعض، وقتلا من بعضهما البعض جنودا وضباطا كانوا قبل ايام يعيشون في مواقع متجاورة. اعتقد ان تمترس القيادة الاسرائيلية السياسية والعسكرية خلف المتاريس الايدلوجية والسياسية والعسكرية، وتمسكهم بفكر المحتل، يجعل من البديهي القول ان ما وقع من اشتباكات سياسية وعسكرية بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي حتى الان كافية تماما لتكوين خميرة نوعية لاشتباكات لاحقة اكبر واخطر واعنف. لاسيما وانها اسفرت عن سقوط اعداد كبيرة من القتلى والجرحى بين الطرفين. ومع سقوطهم سقطت اسس الترتيبات الامنية المشتركة التي بنيت بين الطرفين على مدى عامين.
ومن البديهي القول ان القيادة العسكرية الامنية تبحث الان عن مبررات لتقوم برد الصاع صاعين للسلطة الفلسطينية ولاجهزتها الامنية والعسكرية. ولتقوم بتأديبها حسب تعبير بعض القياديين السياسيين والعسكرين الاسرائيلين. والانتقام لمقتل 15 جندي وضابط اسرائيلي وجرح ما يقارب الاربعين جراح بعضهم خطيرة. واعتقد انها لن تعدم السبل لافتعال ما يبرر تحريك قواتها في الوقت الذي تراه مناسبا لذلك، على امل تحقيق ما تخطط له. اما خطة العمليات فالمرجح ان لا تخرج عن اطار الخطة الثانية التي اعتبرت قبل الاشتباكات الاخيرة احتياطية. واظن انها ستكون في جوهرها موجها لعمل الاجهزة الامنية في اية صدامات جديدة. فهذه الخطة تلبي الهدف السياسي للقيادة الاسرائيلية الحالية وهو انهاء مظاهر السيادة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وتعزيز السيطرة الامنية عليها. والتصرف فيها وكأنها جزء من ارض اسرائيل. وتلبي احد الاهداف الامنية المتمثلة بالاحتفاظ بالضفة الغربية كعمق جغرافي ناهيك عن كونها ارض الميعاد، وابقائهها تحت السطرة الامنية والعسكرية المباشرة. واعادة صياغة العلاقة الامنية مع الاجهزة الامنية الفلسطينية. واعادة تنظيمها على اسس جديدة بما في ذلك اعادة النظر في تسليحها. وتنسى القيادة الاسرائيلية ان الدبابات تحسم المعركة السياسية الدائرة واظن انها غير قادرة على حسم الاوضاع الامنية في المدن .
3) تدهور علاقات اسرائيل الاقليمية والدولية
وفي سياق الحديث عن نتائج وانعكاسات معركة النفق على موقف اسرائيل في الحقل الدولي، لا خلاف داخل اسرائيل ذاتها على ان معركة النفق الحقت اضرارا فادحة بسمعة اسرائيل وبعلاقاتها الاقليمية والدولية. ويستطيع كل مراقب سياسي ان يرى بدأ انحسار وتراجع علاقات السلام العربية الاسرائيلية بتسارع كبير. فالعلاقة مع مصر اكبر بلدي عربي وشريكتها في عملية السلام تدهورت، وتكاد تصل درجة القطيعة. وخير شاهد على ذلك هو الحملات الاعلامية العنيفة المتبادلة. وعمليات التحريض السياسي الخارجي والجماهيري الداخلي التي يقوم بها كل طرف ضد الاخر. وكذلك مقاطعة الرئيس حسني مبارك لقمة واشنطن احتجاجا على السياسة الاسرائيلية، وعلى عدم وفائها بالوعود التي قطعها نتنياهو على نفسه خلال زيارته اليتيمة لمصر. واذا كان نتياهو لا يعير اهتماما كبيرا للموقف المصري، فالعالم وبخاصة الدول الكبرى والدول العربية الاخرى تعيره اكبر قدر من الاهتمام. وتعتبره مقياسا للحكم على السياسة الاسرائيلية وموقفها من السلام. لاسيما وان فمصر هو اول بلد عربي وقع اتفاقا مع اسرائيل، وهي مفتاح السلام في المنطقة. اما على صعيد العلاقة مع سوريا فالواضح ان درجة توترها قد ارتفعت خلال وبعد معركة النفق. واعتقد انها مرشحة لمزيد من التوتر في الاسابيع والشهور القليلة القادمة.
ويمكن ايضا ملاحظة تراجع خطوات التطبيع السياسي والاقتصادي التي شهدتها علاقة اسرائيل بعدد من الدول العربية. والواضح انها بدات بالانحسار. وباتت مرشحة بعد معركة النفق للتوقف. وتغيير مسارها باتجاهها العودة لطريق المقاطعة السياسية، وفرض الحصار على المنتوجات والبضائع الاسرائيلية. واظن علاقة اسرائيل بالاردن لن تبقى على ما هي عليه الان بعد معركة النفق، واذا ما استمر نتنياهو في سياسته المعادية لعملية السلام. واصبحت هي الاخرى مرشحة للتراجع والانحسار وليس للثبات او التقدم للامام. وان احتدام الصراع السياسي الاسرائيلي ـ الفلسطيني العربي المتوقع لاحقا سوف يترك بصماته السلبية على العلاقة الاردنية الاسرائيلية وعلى الاتفاقات الموقعة بين الطرفين اكثر فاكثر وبصور واشكال متنوعة. وبخاصة الاتفاقات الاقتصادية والتبادل التجاري، واتفاقات السياحة والنقل والتنقل بين البلدين. ولعل ما رشح عن اجتماعات قمة واشنطن وما نقل من مواقف واقوال قالها الملك حسين لنتنياهو تؤكد ان تمادي نتنياهو في سياسته وتحديه للعالم يسرع في تدهور العلاقات الاردنية الاسرائيلية ويفقدها زخمها وحيويتها التي مرت بها في الشهور الاخيرة. لقد عبر الملك حسين بدقة عن بدأ تراجع اوضاع السلام مع اسرائيل حين قال : السلام مع اسرائيل يواجه خطر. واذا استمر نتنياهو في سياسته فيجد نفسه يوما مضطرا لبس السترة الواقية. وادان الاردن فتح النفق تحت الاماكن المقدسة.
كما ويمكن ملاحظة التدهور السريع الذي طرا خلال وبعد معركة النفق على علاقة اسرائيل بعدد من الدول الاسلامية. ولعل المواقف الرسمية التي اعلنتها الحكومة التركية والتي ادانت فيها فتح النفق تحت الحرم القدسي الشريف، والمظاهرات الشعبية الحاشدة التي اجتاحت تركيا في الايام القليلة الماضية، والتي نظمها الحزب الحاكم الرئيسي في الائتلاف الحاكم، احتجاجا على السياسة الاسرائيلية مؤشرا واضحا على المنحى الذي يمكن للعلاقة الاسرائيلية التركية ان تتجه نحوه. في حال استمرار نتنياهو في التعدي على المقدسات الاسلامية وعبثه بامكانها.ورفضه تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين. وبالرغم من ذلك كله نرى نتنياهو واقطاب حكومته يستخفون بكل ذلك. ويرفضون تفهم واستيعاب الدوافع والاسباب والمشاعر القومية والوطنية والانسانية التي دفعت بالدول وبالشعوب العربية وببعض الدول الاسلامية للتحرك سياسيا وفي الشوارع تضامنا مع الشعب الفلسطيني المهدور دمه وارضه، ودفاعا عن مصالحها المباشرة والاستراتيجية ودفاعا عن السلام.
اما فيما يتعلق بعلاقات اسرائيل الدولية فالثابت ان معركة النفق قد كشفت للعالم اجمع الحالة البائسة التي وصلتها عملية السلام بفضل سياسة نتنياهو المتهورة. واعادت لذهن الراي العام العالمي صورة اسرائيل المعتدية على العرب والفلسطينيين والتي اختفت تقريبا بعد اتفاق اوسلو والاتفاقات الاقتصادية التي وقعت معها. واظهرتها بوضوح بانها لا تحترم ما تتعهد به، ولا تعير السلام العالمي أي اهتمام يذكر. ولم تتردد معظم الدول الاوروبية والاسلامية والافريقية المهتمة بقضايا منطقة الشرق الاوسط، وبخاصة تلك التي ساندت عملية السلام ورعتها ومولتها، في تحميل الحكومة الاسرائيلية المسؤولية الكاملة عن تدهور اوضاع عملية السلام. وطالبتها بالالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني وتنفيذ ما استحق منها. وباغلاق النفق والانسحاب من مدينة الخليل. باختصار يمكن القول ان معركة النفق فضحت الموقف الاسرائيلي وكشفته امام العالم ووضعت اسرائيل في مواجة ليس الشعب الفلسطيني فقط بل وايضا في مواجهة الشعوب العربية والاسلامية وكل القوى والشعوب المحبة للسلام.