ايهما سيسبق الآخر الانسحاب من الخليل أم التصادم من جديد؟
بقلم ممدوح نوفل في 01/12/1996
هل نضج الاتفاق حول الحليل بعد الصدام العنيف الذي وقع بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو اواخرايلول الماضي، استؤنفت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية “6/10/1996″. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الان عقد الجانبان سلسلة طويلة من الاجتماعات بمشاركة الراعي الامريكي وبدونه. وبالرغم من كثافة الاجتماعات واللقاءات “شبه يومية” ومستوياتها العالية الا انها ما زالت تراوح مكانها. ولم يستطع الطرفان التوصل الى اتفاق حول آلية تنفيذ الاتفاق الخاص بالانسحاب من الخليل الذي توصلا له في عهد حزب العمل. وبصرف النظر عن التصريحات والهبات الاعلامية التضليلية المتفائلة التي تصدر بين فترة واخرى عن الجانب الاسرائيلي وآخرها حديث المفاوض الاسرائيلي عن ليونة في المواقف، فالواضح ان الطرفين ما زالا بعيدين عن الاتفاق. فالصيغة الاخيرة التي تقدم بها الجانب الاسرائيلي، وهلل لها، لا تختلف في جوهرها عن الصيغ السابقة التي رفضها الجانب الفلسطيني. والتعديلات الواردة فيها شكلية ولا تستجيب للمطالب الفلسطينية. والقبول بها يكرس سابقة خطيرة للتعامل مع الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. فهي تتضمن بصورة واخرى احداث تعديلات جدية في الاتفاق السابق وبخاصة بنوده المتعلقة بالمسؤوليات الامنية “حق المطاردة الساخنة وصيغها التنفيذية، تسليح الشرطة الفلسطينية واماكن انتشارها ونوعية السلاح المسموح حمله في كل منطقة، المناطق العازلة حول البؤر الاستيطانية..الخ. اما الحديث الاسرائيلي عن فتح شارع الشهداء بشكل متدرج على مدى 4-6 شهور فهو يعني من الزاوية السياسية الوطنية والعملية التي تمس حياة الناس، القبول بتكريس تقسيم المدينة بين اهلها والمستوطنيين لاشعار آخر وليس للفترة المقترحة “6 اشهر”. واظن لا احد من الفلسطينيين الاكثر تفاؤلا ومن رعاة عملية السلام يستطيع ضمان فتح هذا الشارع طيلة عهد الليكود. ومن المفيد للمفاوض الفلسطيني وللراعي الامريكي استذكار حال طريق مستوطنة نتسريم المغلق منذ اكثر من 16 شهر بصورة مخالفة للاتفاق، واستذكار ان محاولات فتحه مؤخرا من قبل الفلسطينيين كادت ان تتحول الى شرارة لانفجار جديد اعنف من الانفجار الاخير. ومن الضروري ايضا لكل من يحسن الظن بنتنياهو استذكار كل الخروقات الاسرائيلية الكثيرة والمتكررة للاتفاقات الموقعة بين الطرفين.
وبجانب التعقديات والخروقات الاسرائيلية المتعلقة بالخليل هناك عقبات اخرى كثيرة تنتظر الطرفين على الطريق مباشرة بعد الخليل. وهي باهميتها قادرة على تعطيل حركتيهما، وستقف حاجزا امام توصلهما الى الاتفاق المنشود. فالطرفان لم يبحثا للان بصورة جدية تنفيذ اي من القضايا الاخرى الاكثر تعقيدا مثل الانسحاب الامني والعسكري الاسرائيلي من الارياف “المنطقة ب”، وتسليم المسؤولية الامنية والمدنية الكاملة عنها للجانب الفلسطيني، وتحويل المنطقة “ج” الى وضعية “ب” حسب نصوص الاتفاق، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع. علما بان تنفيذ بعض هذه القضايا استحق قبل الانتخابات الاسرائيلية، وبعضها الاخر استحق تنفيذه في ايلول الماضي. كما لم يبحثا للآن بصورة عملية تنفيذ بعض القضايا العملية الهامة المتفق عليها من نوع تشغيل مطار رفح، وتشغيل معدات ميناء غزة، واطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات، ومراجعة الاتفاق الاقتصادي. ولم يناقشا بعد قوائم طويلة من الخروقات والتجاوزات يحملها الطرفان، ويتهم كل منهما الآخر بانه تجاوز ما تسمح به الاتفاقات. واذا كان الجانب الفلسطيني يتحدث عن 34 خرقا اساسيا وفرعيا للاتفاقات فالجانب الآخر يتحدث عن 13 خرق معظمها من العيار الثقيل. من نوع: تكريس الغاء الميثاق الوطني ووضع صيغة نهائية له، تقليص عدد افراد الشرطة وتسريح الاعداد الزائدة “قرابة 15الف” عن التي تسمح بها الاتفاقات، سحب الاسلحة الزائدة من الشرطة والاجهزة الامنية الاخرى “بضعة آلاف” وتسليمها للجيش الاسرائيلي او وضعها في مستودعات تحرس بصورة مشتركة، محاسبة افراد الشرطة الذين اطلقوا النار على الجيش الاسرائيلي ابان معركة النفق وتسريحهم من الخدمة. وبجانب ذلك كله فهما لم يدخلا للآن في بحث جدي حول متى واين وكيف ستبدأ مفاوضاتهما حول قضايا الحل النهائي، وهي الاعقد والاصعب. علما بان الشروع بها استحق في شهر ايار الماضي، وعقدت في حينه جلسة رسمية واحدة بين الطرفين كانت جلسة بروتوكولية بحثت فقط في خطوطها العريضة.
وبصرف النظر عن التفاصيل فالواضح قائمة القضايا المطروحة على جدول اعمال المفاوضات طويلة ومعقدة ومن غير المتوقع انتهاء المفاوضات حولها خلال ايام او اسابيع قليلة. خاصة اذا بقي نتنياهو واركان حكومته متمسكين بمواقفهم وبقيت الادارة الامريكية منحازة للموقف الاسرائيلي ومترددة هي وبقية الدول الكبرى في تحديد من المسئول عن تعطيل وشل عملية السلام. وبقووا مترددين في ممارسة ضغوط سياسية وعملية كفيلة بالزام نتنياهو بتنفيذ الاتفاقات التي شهدوا عليها. والمعلومات المتوفرة تؤكد ان الطرفين يتمسكان بموقفيهما، والمفاوضات تدور في حلقة مفرغة منذ اكثر من شهر، ومن غير المتوقع ان يتوصلا لاي اتفاق خلال الفترة القصيرة القادمة. لاسيما وان نوايا نتنياهو ليست سليمة، ومسألة صنع السلام العادل والدائم مع الفلسطينيين والعرب ليست من اولوياته. ويمكن تلخيص موقفيهما على النحو التالي: الجانب الاسرائيلي يتفنن في طرح المواقف التعجيزية، ويسعى لكسب الوقت بانتظار تشكيل الرئيس كلينتون حكومته الجديدة وتعيين وزير خارجيتة الجديد. ويماطل ويراوغ في تنفيذ التزاماته على امل تطويع الموقف الفلسطيني، وفقا لنظرية نتنياهو القائلة “بان العرب يقبلون غدا ما يرفضوه اليوم”. ويصر على تجزئة الاتفاق وتعديله، وتجزئة تنفيذه. وتقوية الاستيطان في المدينة. وخلق سابقة خطيرة في التعامل مع الاتفاقات العربية الاسرائيلية واعتبار نصوصها وتواريخها غير مقدسة وغير ملزمة له. والليكود في كل الاحوال ضد تقدم المفاوضات على اساس اتفاق اوسلو وملحقاته. وضد تقدمها على أي من مساراتها الاخرى. فتقدمها يتعارض مع ايدلوجيته ويضرب جذورها، ويعرض وحدته الفكرية والسياسة والتنظيمية للتمزق والاندثار. كما يعرض الائتلاف الحكومي لمخاطر التفكك. اما تصريحات نتنياهو المتكررة حول قرب التوصل الى اتفاق حول الخليل، واتهامه المتكرر للجانب الفلسطيني بانه يتهرب من التوقيع على امل تحقيق مكاسب اضافية، واتهامه ياسر عرفات بانه يتهرب من اللقاء، فهي مطروحة للاستهلاك الداخلي والخارجي. وتندرج في اطار التغطية بطريقة ديماغوجية على مواقفه المعادية لاتفاق اوسلو ولكل ما بني عليه. وسبحان مغير الاحوال والمواقف..بعد فوز نتنياهو في الانتخابات كان لقاء عرفات نتنياهو مطلبا فلسطينيا، تدخلت في حينه دول اقليمية ودولية كبرى لتأمينه. اما الان فالمطلوب حسب تصريحات نتنياهو تدخل دولي لاقناع عرفات باهمية وضرورة اللقاء مع نتنياهو..
وبالمقابل يتمسك الجانب الفلسطيني بالاتفاقات الموقعة مع الحكومة الاسرائيلية، ويطالب باحترام نصوصها ويصر على تنفيذها كما هي. ولا نكشف سرا اذا قلنا ان وجهة النظر الفلسطينية الرسمية المقررة تعتبر الانسحاب من مدينة الخليل وتسليمها للسلطة الفلسطينية قضية مهمة لكنها ليست الوحيدة المهمة وليست الاهم في القضايا العالقة في المفاوضات والموقع بشأنها اتفاقات. كما انها ليست الاختبار الابرز لحقيقة نوايا نتنياهو وحقيقة مواقف حكومته المتطرفة من الاتفاقات التي تم التوصل لها. فالانسحاب من الارياف، وفتح الممر الآمن بين الضفة وقطاع غزة، ووقف التوسع في الاستيطان لا تقل اهمية عن الانسحاب من الخليل. وهي قضايا الامتحان الحقيقي لمدى التزام نتنياهو بتنفيذ الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. فخطوة استكمال اعادة الانتشار تحرر بصورة شبه نهائية قرابة 25% من ارض الضفة الغربية “يعتبرها الليكود يهودا والسامرا” اضافة لمسطحات المدن الرئيسية المحررة. وتحرر معظم سكان الارياف من نير الاحتلال وظلمه. وتزيل ضغطه الرابض على صدور المواطنيين والضاغط على عقولهم. اما موقف القوى والمنظمات الشعبية وبخاصة المؤسسات والفعاليات الوطنية في الخليل، فهي لم تكن راضية اصلا عن “اتفاق الخليل الاصلي” الذي تم التوصل في عهد حزب العمل. وتضغط الان على المفاوض الفلسطيني، وتطالب بتأجيل الاتفاق حول الانسحاب من الخليل لحين التوصل الى اتفاق حول آلية تنفيذ كل الاستحقاقات الاخرى، وربط تنفيذه بالتزامن مع تنفيذها. شعارها “الحل الظالم ليس افضل من الاحتلال الدائم. ومقاومة ظلم الاحتلال اسهل من محاربة جور الاتفاقات”. وتدفع باتجاه الاصرا على فتح شارع الشهداء فورا، وخروج ال200 مستوطن من قلب المدينة البالغ عدد سكانها 200 الف مواطن. وهناك اجماع شعبي على ان بقائهم في قلب الخليل يعني بقاء حالة التوتر والاستنفار المتبادل قائمة على اشدها. لاسيما وانهم من غلاة العنصريين المتطرفيين الموتورين، وبينهم اعداد كبيرة من ذوي السوابق. وبعضهم ينظر للمجرم غولد شتاين باعتباره قديس ويقول بوضوح وبصوت عال “الخليل لنا ولن نسمح لاي اتفاق حولها البقاء على قيد الحياة ولو لبضعة ايام ”
والتمعن في جذور وابعاد الصراع الجاري الان بين الطرفين داخل وخارج غرف المفاوضات يبين انه ليس بمقدورهما وحدهما جسر الهوة الفاصلة بين مواقفيهما. فلا نتنياهو جاهز لتغيير قناعاته بشان “يهودا والسامرا” ولا يمكن لاي قائد وطني التنازل عن عروبة الخليل والقبول بتقسيمها والاعتراف بالشراكة اليهودية فيها. اوالقبول بتأجيل تنفيذ الاستحقاقات الاخرى. واذا كان المفاوض الفلسطيني قد وافق، بناء على الحاح امريكي، عند بدء المفاوضات، على تناول القضايا المعلقة واحدة تلو الاخرى وان تكون البداية بالخليل، فمن حقه وواجبه عدم الخضوع لابتزازت نتنياهو والاصرار على تنفيذ الاتفاقات دون اي تعديل او تغيير فيها. والمصلحة الوطنية تفرض عليه التمسك بتنفيذ القضايا المتفق عليها كلها وفق جدول زمني محدد. وهناك شبه اجماع على ان اي اتفاق يتم حول الخليل لن تتلوه اية اتفاقات اخرى في عهد نتنياهو، الا اذا فك تحالفه الحكومي الحالي لصالح تحالف جديد يشرك حزب العمل في السلطة. واذا كان نتنياهو واركان حكومته يبدون الان استعدادا لانسحاب “ما” من مدينة الخليل، فهم ما زالوا يعتبرون الضفة والغربية ارض الميعاد. ويخطئ من يعتقد بانهم مستعدون للانسحاب منها وتسليمها للسلطة الفسطينية بعد الاتفاق حول الخليل. وذات الشيء موقفهم من الممر الامن الذي يوحد الضفة مع القطاع.
واخيرا يسجل لنتنياهو انه نجح الى حد كبير في تخدير قوى السلام في اسرائيل وايهام اقسام واسعة منها بان عملية السلام بخير، لكنه كما اعتقد لم ينجح في تضليل الراي العام العالمي ولا القوى الدولية المتابعة لمسيرة السلام الفلسطينية الاسرائيلية. فالاتصالات والتحركات الفلسطينية والعربية تشير الى انها قلقة، وتحمّل نتنياهو وحكومته، بطرق دبلوماسية خجولة، مسئولية تأخير تنفيذ الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. والاهم انه لم ينجح في تطمين الشارع الفلسطيني ولا في تقليص احتمالات انفجاره من جديد. ولا ادري ايهما سيسبق الاخر ضغط دولي واقليمي فعال يفرض على نتنياهو تنفيذ الاتفاقات ووقف الاستيطان. ام انفجار الصراع الدموي في الشوارع من جديد..؟