ماذا بعد اتفاق الخليل واعادة الانتشار في الضفة الغربية حلقة 1
بقلم ممدوح نوفل في 17/01/1997
اولا/ دروس مستخلصة حول ادارة المفاوضات .
اسفرت جهود اللحظات الاخيرة التي بذلها اكثر من طرف دولي وعربي الى ايصال منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية للاعلان عند الساعة الثانية والربع من فجر يوم الاربعاء الخامس عشر من كانون الثاني 1997 الموافق 6رمضان، عن نهاية المفاوضات المارثونية التي استمرت 126 يوما “9/9/1996 ـ 15/1/1997″. واختتامها بالتوقيع بالحرف الاولى في معبر الحدود الفلسطينية ـ الاسرئيلية ” بيت حانون” على بروتوكول تنفيذ اعادة الانتشار في الخليل وفي بقية مناطق الضفة الغربية، وبدء مفاوضات الحل النهائي. وحدد كل طرف قضاياه الرئيسية التي يجب ان تتضمها رسائل الضمانات الامريكية الموجهة للطرفين. ويفرض ان تستكمل مراسم التوقيع النهائي على الاتفاق في غضون ايام قليلة.
وانطلاقا من رؤيتهم لاهمية نتائج الاتفاق على الاوضاع الاقليمية والدولية بارك بعيد التوقيع كل من الرئيس مبارك والملك حسين والرئيس كلينتون الاتفاق، خلال مكالمات هاتفية اجروها مع عرفات ونتنياهو. وتلاهم في تقديم التهاني عدد كبير من زعماء العالم. وبعد اقل من 24 ساعة اقر الاجتماع المشترك لمجلس السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الاتفاق، وذات الشيء فعلت الحكومة الاسرائيلية حيث اقرته بأغلبية احد عشر صواتا وعارضة سبعة وزراء، واقرته الكنيست باغلبية كبيرة بعدما صوتت احزاب المعارضة الى جانب الاتفاق. وبعد هذه الخطوات الدستورية شرعت القوات الاسرائيلية فجر يوم الجمعة 17/1/ 1997 في الانسحاب من عدد من احياء مدينة الخليل، ودخلتها قوات فلسطينية من مختلف التشكيلات الامنية والعسكرية الفلسطينية. ويفترض اذا لم تقع مفاجئات، وهذا وارد، ان يواصل الطرفان في الايام والاسابيع القادمة تنفيذ بقية بنود الاتفاق، وان يواصلوا التفاوض مباشرة حول بقية المسائل التي لم ينتهي التفاوض حولها.
لاشك في ان نتنياهو نجح الى حد ما، بدعم واسناد امريكي، في فتح الاتفاق بصيغة او اخرى، ونجح في تأجيل بعض المستحقات الفلسطينية الهامة، وابرزها تاخير فتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، وتأخير تشغيل المطار، وأجل اطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات. وخلق سابقة في التعامل مع الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، لا تقل خطورة عن التي خلقها رابين حين اعلن ان لا تواريخ مقدسة مع الفلسطينيين ونفذ في حينه ما اعلنه. اما الاتفاق ذاته فبعض نصوصه تتضمن في ثناياها الكثير من النواقص والثغرات والعيوب، وبخاصة تلك المتعلقة بمدينة الخليل، الا ان تنفيذه سوف يقود بالتدريج الى تعديل نوعي في ميزان القوى في الضفة الغربية لصالح السلطة الفلسطينية، ولصالح قيام الدولة المستقلة، ويعزز مواقعها في المفاوضات اللاحقة، وفي انتزاع مزيدا من الحقوق الفلسطينية المغتصبة.
وقبل الاستطراد في الحديث عن نتائج الاتفاق وتفاعلاته المباشرة والبعيدة المدى على الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي اعتقد ان من الضروري، ولعله يكون مفيدا، التوقف امام بعض الدروس الاساسية المتعلقة بادارة المفاوضات والمستخلصة من هذه الجولة المارثونية من المحادثات. فهناك الكثير من العبر بالغة الاهمية للجانب الفلسطيني يمكن استخلاصها والاستفادة منها في متابعة تنفيذ ما اتفق عليه، وفي المفاوضات اللاحقة حول قضايا الحل النهائي والمقدر لها ان تبدأ يعد اسابيع قليلة. وفي هذا السياق يمكن القول:
ان اول هذه الدروس والعبر المستفادة هو ان التمسك بالمواقف وبالحقوق الوطنية، والتمترس وراء جمل وصياغات واضحة ومحددة منتج ومفيد. وان اعتماد هذا النهج في هذه الجولة المارثونية من المفاوضات لم يكن من باب ممارسة هوايات ورياضة ذهنية وفذلكة لغوية. بل كان بهدف تجنب النصوص حمّالة الاوجه، وعدم تكرار ما حصل في اتفاق طابا. وتحسين المواقف والمواقع الفلسطينية في الصراع اللاحق على الارض وداخل غرف المفاوضات. وانتزاع مزيد من الحقوق، وتثبيت ميزان قوى معين في النصوص لا يوفره الواقع الحالي والمنظور على الارض. وأكدت النتائج المثبتة في الاتفاق ان صبر وصمود المفاوض الفلسطيني اربعة شهور وتمترسه خلف النصوص التي تحفظ له حقوقه لم يكن عبثا، ولم تذهب جهوده هدرا. وان قضاء هذه الفترة الزمنية الطويلة في مناقشة بعض “التفاصيل” لم يؤدي الى ضياع وقت سدى كما اعتقد البعض. فتثبيت الجدول الزمني لاعادة الانتشار في الضفة الغربية بمراحله الثلاث مكسب هام جدا حتى لو لم يلتزم به نتنياهو لاحقا.
وثاني الدروس المستخلصة هو ان الصمود داخل غرف المفاوضات وخارجها، والتحلي بالهدوء وبطول النفس، والتسلح بالحقوق وبالحالة الشعبية في مقاومة الضغوط متعددة الجنسيات، والاصرار على التمسك بالمطالب الاساسية امر ممكن وضروري وصحيح ومنتج ايضا. فمن يقارن تصريحات نتنياهو وبقية المسؤولين في الحكومة الاسرائيلية في بداية تسلمهم السلطة وخلال المرحلة الاولى من المفاوضات بتصريحاتهم بعد الاتفاق يدرك بوضوح من الذي تغير وتراجع عن مواقفه. اما من يقارن برامج احزاب الائتلاف الحاكم واطروحاتهم الفكرية والسياسية بما اسفر عنه الاتفاق فيمكنه القول انها لم تصمد امام الوقائع التي خلقها اتفاق اوسلو، وتراجعت تحت ضغط الاصرار الفلسطيني على اخذ حقوقه، وضغط الموقف الدولي. وانها في طريقها على المدى الاستراتيجي اما للتكيف مع المتغيرات الدولية التي حصلت بعد انتهاء الحرب الباردة، او معاناة ما عانته الاحزاب الشيوعية في بلدان اوروبا الشرقية وبقية دول العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط سور برلين وتفكك حلف وارسو. ويخطأ من يعتقد ان قبول نتنياهو بهذه النتيجة، قد تم برغبة ذاتية ولا دور للعامل الفلسطيني في بدئه بالنزول عن الشجرة العالية التي صعد الى قمتها.
وثالث الدروس التي يمكن استخلاصها هو ان الرضوخ للضغوط الخارجية حتى لو كانت من العيار الامريكي الثقيل والمزعج والمخيف، ليس قدرا لا ارادة له، وليس قضاء لامفر منه، وليس بلاء لا يمكن مقاومته او تفاديه والوقاية منه وتقليص حجم اضراره. لقد مارس الراعي الامريكي ضغوطا متعددة على القيادة الفلسطينية كي تقدم تنازلات في عدة نقاط اساسية، وكان منحازا لجانب الموقف الاسرائيلي، كما عبر عنه مبعوثوه وكما يرويه ابوعمار وبعض المفاوضين. وكان المنسق الامريكي “دينس روس” ينسق مواقفه مع الجانب الاسرائيلي، ويغلّب على الدوام اعتبارات مراعاة المصالح الاسرائيلية على اعتبارات احترام دور الوساطة واحترام الاتفاقات الموقعة برعاية دولية ومن ضمنها الامريكية. ومسار المفاوضات ونتائجها اظهرت ان رفض الاستسلام والخضوع للمطالب الامريكية امر ممكن ومفيد ومنتج. واذا كان تجاهل الدور الامريكي او الاستهتار به يعتبر خطا جسيما فان الاستسلام له ولشروطه دون مقاومة كان يعني ارتكاب خطيئة كبرى. واثبت التجربة ان التسلح بالحقوق وادارة الصراع على طاولة المفاوضات بحنكة كفيلة بتلقي الصدمة وارباك الطرف الآخر، وقادرة على امتصاص اقوى واعنف موجات الضغوط الاسرائيلية والامريكية. فالنتيجة الملموسة كانت تراجع واشنطن ممثلة بدينس روس عن مواقف عديدة فور تراجع المفاوض الاسرائيلي، ولم تتوتر العلاقات مع الامريكان، ولم تصدر امريكا اوامرها للدول المانحة بوقف المساعدات للفلسطينيين، وللعرب بوقف دعم المطالب الفلسطينية .
اما الدرس الرابع والاكثر اهمية فيتلخص في حقيقة اساسية تكرر تأكيدها خلال ازمة المفاوضات الطويلة وهي ان الوضع الذاتي الفلسطيني ليس بالضعف الذي يتصورة البعض. وان القضية الفلسطينية بصورتها الجديدة في الوضع الدولي الجديد اثبتت انها مازالت نقطة الجذب ومحور الاستقطاب للوضع العربي. وفي لحظة تصور البعض انها تراجعت في سلم الاوليات، عادت لتؤكد انها قادرة على ان تسهم بشكل مؤثر وفعال في ضبط ايقاع التحرك العربي في طريق السلام وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية. واكتسب هذا التأثير قوة مضاعفة نتيجة الطابع الاستفزازي لسياسات حكومة الليكود، وكنتيجة ايضا لصدمة الوعي العربي بالمحصلة المحدودة لعملية السلام. وهذه القوة عبرت عن نفسها باوضح تجلياتها في المواقف المصرية والاردنية التي امدت المفاوض الفلسطيني بزخم كان له وزنه في الحسابات الاقليمية والدولية، وفي المفاوضات. وبينت المفاوضات ان الاستناد على الدور العربي بصيغة واخرى امر ممكن وله فوائد ونتائج ملموسة. وان اعتماد الثنائية الفلسطينية ـ الاسرائيلية التي افادت في عهد حزب العمل يضر في عهد الليكود، ويلحق خسائر معنوية ومادية كبيرة بالموقف الفلسطيني وتفقده بعض الزخم الاضافي والدعم المؤثر والفعال.
وآخرهذه العبر هي ان خوض المعركة فوق طاولة المفاوضات منتج ومثمر. ويمكن من خلاله انتزاع الكثير من الحقوق الفلسطينية بما فيها تحرير الشعب من نير الاحتلال وظلمه واسترداد اجزاء واسعة من الارض، والتقدم بخطوات ثابته نحو بناء الدولة الفلسطينية المستقلة. وانه في الظرف الاقليمي الدولي الراهن اكثر انتاجا من خوضها بالسلاح في ميادين القتال. واذا كانت مقولة “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” و “الكفاح المسلح هو اقصر الطرق المؤدية الى تحرير فلسطينين” مفيدة وصحيحة في سنوات الستينات والسبعينات، فالواضح انها لا تصلح لمرحلة الوفاق الدولي. وان الاخذ بها في الظرف الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي الراهن ضار وغير منتج. فما تحرر وسيتحرر من الارض الفلسطينية بعد اتفاق الخليل لم يتمكن الكفاح المسلح الفلسطيني، ولا الحروب العربية الاسرائيلية من تحريرة. واظن انه ما كان له ان يتحرر لو لم يذهب الفلسطينيون الى مدريد عام 1991 ولم يدخلوا المفاوضات التي تغيرت شروطها. وفي هذا السياق اعتقد المصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض في هذا الوقت بالذات على الفلسطينيين المعارضين لعملية السلام، ومن ما زالوا يؤمنون بالكفاح المسلح طريقا وحيدا او رئيسيا للتحرير ان لا يعطلوا تنفيذ هذا الاتفاق، وان لا يقدموا الذرائع للجانب للاسرائيلي لتأخير التنفيذ والتراجع عن التزاماته التي التزم بها
دروس عديدة قدمتها تجربة المفاوضات حول الخليل سنحتاجها في الايام والشهور القادمة كثيرا. واذا كان تجربة الخليل زادت خبرة المفاوض الفلسطيني واصبحت اغنى الان بعد هذا المارثون التفاوضي العسير فالطريق ما زال طويلا. وفي هذا السياق اعتقد ان المصلحة الوطنية والصدق مع النفس تفرض على كل المفاوضين الفلسطينيين وأركان السلطة الفلسطينية واعضاء اللجنة التنفيذية واجب اعادة تقييم مواقفهم وادوارهم في المفاوضات من خلال المقارنة بين مواقفهم وتقديراتهم الذاتية بما اسفرت عنه المفاوضات وبما تضمنه الاتفاق. واظن اني لا افشي سرا وطنيا اذا قلت بان نتائج المفاوضات وتراجع نتنياهو عن مواقفه فاقت تقديرات كثيرين. والسؤال هل سيستفيد البعض من هذه الدروس ويأخذ بها في متابعة تنفيذ الاتفاق وفي الجولات اللاحقة من المفاوضات حول الممر الامن والمطار والميناء والمعتقلين..الخ وحول قضايا الحل النهائي. وهل ستستفيد المعارضة الفلسطينية منها ومن كل الدروس الاخرى التي لم يجري رصدها في هذا المقال..؟