هل سيتم تنفيذ الاتفاق حول الخليل بسلام؟ حلقة 3
بقلم ممدوح نوفل في 17/01/1997
اشغلت قضية الخليل وما ربط بها من قضايا اخرى اهل المنطقة والعديد من حكومات العالم فترة طويلة. وأظن ان اسم هذه المدينة التاريخية سوف يبقى يتردد في الصحافة العربية والعالمية رغم الاتفاق الذي وقعه الطرفان حولها. ويدور الآن جدل ونقاش في الاوساط القيادة السياسة الفلسطينية حول تقييم طبيعة موافقة نتنياهو على اتفاق “الخليل” ومدى التزامه بتنفيذ ما وقع عليه. وحول انعكاس الاتفاق والموافقة عليه على مسيرة السلام ومستقبل الحكومة الاسرائيلية وعلى الخارطة الحزبية في اسرائيل. فهناك من يقول بان ما قام به نتنياهو خطوة تكتيكية هدفها امتصاص الضغوط الدولية والعربية التي تعرض لها، والتخلص من الضغوط الامريكية، ومن الكمين الذي نصبه له بيريز حين اجل تنفيذ بعض بنود اتفاق طابا. وان نتنياهو انحنى مؤقتا امام العاصفة، وتراجع في التعامل مع الفلسطينيين خطوة للوراء لترتيب اوضاعه والتقدم خطوتان الى الامام في علاقته مع العرب والامريكان.
والواضح ان هذا النقاش الحيوي والهام مرشح للتواصل وللاحتدام اكثر فاكثر في الاسابيع والشهور القليلة القادمة في صفوف المفكرين والمحللين السياسيين الفلسطينيين والعرب والاسرائيليين. لاسيما وان هناك اجماع على ان طريق الاتفاق الجديد مليء بالصعوبات والعراقيل. وان اكثر الفلسطينيين تفاؤلا يقرون ان تنفيذه لن يسير في خط مستقيم. على كل حال ما يمكن قوله الآن هو ان كل تسوية او اتفاق من النوع الذي نتحدث عنه يجلب معه اسئلة كثيرة وآراء متباية. ويجعل الحوار حوله والتباين بشأن تقيمه أمران طبيعيان تماما. والحكم بشكل حاسم على التحول الذي طرأ على مواقف نتنياهو ومواقف أغلبية كبيرة في حزبه يبقى من الان وحتى تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحابات سابق لأوانه. واذا كانت المفاوضات حول القضايا المؤجلة، والالتزام بتنفيذ ما اتفق عليه هما مواد الامتحان الكفيل باظهار درجة تكيف نتنياهو مع طريق اوسلو ومع متطلبات عملية السلام، فمن الآن يمكن الجزم بان تنفيذ الاتفاق الجديد لن يمر بهدوء وسلام لاسباب عديدة ابرزها:
اولا/ الاتفاق مليء بالثغرات الخطيرة
ابقى الاتفاق العديد من المسائل الجوهرية معلقة بانتظار جولات جديدة من المفاوضات، منها فتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، وتشغيل مطار غزة ومينائها واطلاق سراح المعتقلين. وحدد فترة طويلة “18 شهر” للانسحاب من ارياف الضفة الغربية. ولم يحدد مساحات الانسحاب في كل مرحلة. وجعل التنفيذ عبارة عن شراكة عمل بين الطرفين. وربط دفع الجانب الاسرائيلي للاستحقاقات المطلوبة منه بتنفيذ ما يجب تنفيذه من قبل الجانب الفلسطيني. ولا احد يضمن بان المفاوضات حول القضايا المؤجلة سوف تنتهي بنجاح. ولا احد يضمن التزام الليكود بتواريخ مراحل الانسحاب المحددة فالتجربة العملية مع حزب العمل بعد اتفاق اوسلو أكدت ان توصل الاسرائيليين الى اتفاقات رسمية مع الفلسطينيين شيء والالتزام الدقيق والامين بتنفيذها شيء آخر. ولا اظن ان الليكود سوف يكون اكثر وفاء من حزب العمل للاتفاقات مع الفلسطينيين
ربطها بالحل النهائي. عجل في تحديد البدء بمفاوضات الحل النهائي وهذا ليس تعبير عن صدق نوايا بل لربط بعض الامور الانتقالية بالنهائية
يتيح الاتفاق لاصحابه فرصة المماطلة والتلاعب في التنفيذ اذا ارادوا. واعتقد ان اصرار الجانب الاسرائيلي على تاجيل البت ببعض القضايا الجوهرية والاصرار على هذا الترابط ليس بريئا على الاطلاق. وان نتنياهو اعطى نفسه فترة عام ونصف العام تقريبا لتنفيذ الانسحاب من الارياف الفلسطيني، ليبقي لنفسه خط رجعه يستطيع عبره التراجع عن توقيعه، وتعطيل تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة منه او الاخيرة على الاقل اذا اقتضت مصالحه ذلك،. وأظنه لن يعجز عن خلق الذرائع والمبررات اللازمة لذلك اذا اراد التعطيل. وهذه الفترة الطويلة تبقى الاتفاق عرضة للتاثر بالاحداث وتفسح المجال لاعدائه من الطرفين تحضير اوضاعهم الذاتية وتوحيد جهودهم وطاقاتهم والعمل على تعطيلة.
ثانيا/ المستوطنون واهل الخليل غير راضين بالحل
التدقيق في الحل الذي حمله الاتفاق لاهل الخليل وللمستوطنيين فيها، وفي الواقع الجديد الذي خلقه في المدينة، يبين انه قسم الى مدينتين ( hebrone 1 و hebrone 2 )، واحدة فلسطينية كبيرة تضم 180 الف مواطن فلسطيني واخرى اسرائيلية صغيرة تضم قرابة 400 مستوطن وعشرين الف فلسطيني. والتجول في المدينة “المقسمة امنيا والموحدة اداريا” يلاحظ ان الاحتلال العسكري لم ينتهي منها بل كثف من تواجد قواته في قلبها. وان الحل لم ينهي التداخل الحاصل في مواقع الطرفين على خلاف باقي مدن الضفة الغربية. وابقى الحرم الابراهيمي تحت السيطرة الاسرائيلية الكاملة. والطرفان غير راضيان عن الحل، والعلاقة بينهما عدائية ومتوترة جدا. واذا كان اهل الخليل عبروا ويعبرون عن تحفظهم على الاتفاق بهدوء وبطريقتهم الخاصة، فالمستوطنون اعلنوا الحداد بسببه واقاموا طقوسها اليهودية المعروفة، واعتبروه يوما اسود في تاريخ الحركة الصهيونية واسرائيل. وهم من العنصريين المتطرفين الحاقدين الذين لا افق لتغيير قناعاتهم او لاي تفاهم او تعايش معهم، ولا يخفون تصميمهم على افشاله في الخليل وخارجها. يقابله موقف حاسم “للخلايلة” بان لا سلام ولا استقرار ولا أمن في المدينة بدون خروج المستوطنيين الحاليين. ويبدون استعدادا حقيقيا لتقبل وجود اليهود الاصليين اصحاب البيوت اليهودية المهجورة من خمسين عام. باختصار يمكن القول ان الاتفاق ابقى الوضع في مدينة الخليل على حافة الانفجار من الان ولاشعار آخر.
ثالثا/ موافقة حكومة نتنياهو تمت بالاكراه
عندما جلس نتنياهو على كرسي رئاسة الوزراء اعتقد انه لم يكن يتصور بأنه سيضطر بعد نصف سنة على التوقيع على وثيقة معناها الحقيقي “مهما كان تفسيره لها” الاعتراف الرسمي بسيادة فلسطينية ما غربي نهر الاردن. او انه سيضطر على القيام بعملية اقناع شاقة لاعضاء حزبه وقادة احزاب الائتلاف الحاكم ان لا بديل عن اتفاق اوسلو ـ طابا، وعن تنفيذ ما لم ينفذ منه. ويمكن القول ان موافقة نتنياهو وغالبية وزراء حكومته واركان حزبه على الانسحاب من مناطق ب و ج في الضفة الغربية لم تكن وليدة قناعات راسخة بالحل الاستراتيجي الذي يكرسه اي “الفصل بين الشعبين والارضين”، وتحويل فكرة الاحتفاظ بيهودا والسامرا كجزء من ارض اسرائيل الى احلام تنتمي للماضي، من الآن ولاشعار آخر. مثلها مثل احلام اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى عكا ويافا وحيفا واللد والرملة ..الخ من المدن والقرى الفلسطينية التي شردوا منها عام 1947 ـ 1948. والظاهر ان التحولات الفكرية والسياسية “ان كان هناك تحولات حقيقية” عند نتنياهو وكل من ايد الاتفاق من اليمين الاسرائيلي ما زالت جنينية وفي بداياتها. وليس عسيرا التراجع عنها واجهاظها من قبل حاملها لاسباب كامنة في نفسه، او من قبل اعدائها داخل وخارج الائتلاف الحاكم ومن قبل كل المتضررين منها وبخاصة المستوطنين الذين يعدون العدة لمقاومتها على كل الصعد وفي كل المجالات.
رابعا/ موافقة قيادة م ت ف تمت على مضض
بالمقابل يمكن القول ان موافقة عرفات وقيادة م ت ف على هذا الاتفاق الناقص لم تكن ايضا وليدة قناعات بانه التنفيذ الدقيق للاتفاقات التي وقعت سابقا مع حكومة العمل. او انه يلبي الحقوق الوطنية الفلسطينية في الخليل وارياف الضفة الغربية كما نصت عليها الاتفاقات. ولا اكشف سرا اذا قلت ان الموافقة الفلسطينية على الاتفاق الجديد حصلت في اطار مرحلة الاهداف الفلسطينية، ومرحلة كل مرحلة منها وفقا لموازين القوى وللظروف المحيطة بالموقف الفلسطيني. وحصلت ايضا في اطار المنهج الواقعي الذي انتهجته منذ التوقيع على اتفاق اوسلو والذي يقول: خذ اقصى ما تستطيع من الحقوق دون اغلاق الطريق على الحقوق الاخرى. وراكم ما استطعت من المكاسب الصغيرة والكبيرة واعمل على صيانتها وحمايتها. وتابع النضال والمطالبة ببقية الحقوق دون ملل او تراخي او استهتار حتى قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وحل مشكلة اللاجئين حلا عادلا. والتجربه العملية لتعامل الاسرائيليين مع الاتفاقات التي وقعوها حتى الان مع الفلسطينيين تؤكد ان انتهاء معركة صياغة الاتفاق تعني بدأ معركة تقليص سلبياته وتطوير ايجابياته، وتثبيته وتنفيذه كما هو دون نقصان، وهي دائما أصعب وأقسى من صياغته واخراجه الى حيز الوجود .
خامسا/ الضمانات الامريكية ليست ضمانه للحقوق
التدقيق في نصوص الاتفاق يبين انها لم تؤمن آلية محددة يلجأ لها الطرفان للتحكيم اذا اخل احدهما بالتزامته. والواضح ان كلاهما يشك في نوايا الطرف الاخر، وكلاهما اراد من الراعي الامريكي ضمانة بان يتم الالتزام بتنفيذ ما اتفق عليه. ومن هذا المنطلق تمت صياغة رسائل الضمانات الامريكية. اعتقد ان كلا الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي يدركان ان الضمانات الامريكية مطاطة وغير ملزمة من الناحية القانونية لاي منهما. واذا كان من الخطأ التقليل من قيمتها الادبية والمعنوية بخاصة للطرف الضعيف، الا ان المفاوض الفلسطيني يرتكب خطأ جسيما اذا اعتمد عليها في تحصيل حقوقه المنصوص عليها في الاتفاق. فالتجربة الفلسطينية مع ضمانات الادارة الامريكية لحقوقهم مرة. ولعل رسائل الضمانات الامريكية التي قدمت للجانب الفلسطيني قبل خروج القوات الفلسطينية من بيروت عام 1982، وعلى ابواب انعقاد مؤتمر مدريد، وما تلاهما من اعمال اسرائيلية مخالفة لهما (مجازر صبرا وشاتيلا، الاستمرار في الاستيطان، مطمطة المرحلة الانتقالية حتى الان، والمماطلة الاسرائيلية في تنفيذ اتفاقات اوسلو وطابا..الخ شواهد حية في الذاكرة الفلسطينية على مفعول الضمانات الامريكية وقيمتها عند الجانب الاسرائيلي. وبجانب ذلك لعل من الفيد للمفاوض الفلسطيني ايضا استذكار مواقف الوسيط الامريكي خلال المفاوضات. حيث لم يبدي حماسا للموقف الفلسطيني الذي اصر على الجدول الزمني لمراحل الانسحاب الثلاث، بل ابدى انزعاجه الشديد منها. وكان مستعدا للاكتفاء بالاتفاق حول الخليل فقط. وكانت الاداره الامريكية تعتبره وحده انجازا كبيرا للفلسطينيين. ثم من الواضح ومن الطبيعي ان ينال المسار السوري الاسرائيلي قسطا كبيرا من الجهود الامريكية في الفترة القادمة فعملية السلام بدون تقدمو على هذا المسار او بدون على الاقل تخديرها بعودة الطرفين الى عرف المفاوضات تبقى عرضة للانتكاس. وقد تجد الادارة الامريكية نفسها في وضع تتساهل فيه مع نتنياهو في تنفيذ الاتفاق الفلسطيني مقابل قبول نتنياهو بتقديم تسهيلات لتحريك المفاوضات على المسار السوري تحريك المفاوضات وليس التوصل الى اتفاق. وقد تجد نفسها ذريع خلاصتها مراعاة اوضاع نتنياهو وتقدير ظروفه الداخلية واوضاعه مع حزبه ومع المتطرفين.
سادسا/الترتيبات الامنية وحدها لا تكفي
وان لا الامن الفلسطيني ولا الاسرائيلي ولا التعاون المشترك بينهما بامكانه ضمان منع وقوع احداث دموية فيها. واجهزة الامن الاسرائيلية تقول ان وقوع مثل هذه الاحداث اصبحت مسألة وقت وليس اكثر. واظن انها محقة في تقديراتها. وان السيناريو القادم سيكون عملية ينفذها مستوطن “مجنون” من الخليل او خارجها ضد العرب في الخليل او خارجها. كما ومن غير المستبعد ان نسمع في الشهور القادمة عن محاولة اغتيال او اكثر لنتنياهو، فالفكر الذي افرز ايغال عمير قاتل رابين ما زال قادرا على فرز ايغال عمير ثاني وثالث. ولعل الضمانة الوحيدة لمنع وقوع مثل هذه السيناريو هو اتخاذ نتنياهو موقفا حازما من المستوطنيين وليس تدليلهم والتهاون معهم كما فعل رابين. وافهامهم بصراحة ان ثمن اي عمل دموي سوف يكون كبيرا. والواضح ان ترحيل المستوطنيين من مدينة الخليل الى مكان آخر يساعد في ذلك، وينهي احدى بؤر التوتر الملتهبة، وكلما تم الاسراع في نقلهم كلما كان افضل للطرفين ولعلاقاتهما المستقبلية ولعملية السلام وتقدمها. الا ان هذه الخطوات بعيدة تماما عن تفكير نتنياهو واركان حزبه واعضاء حكومته.
سابعا/ اعتقد ان لا خلاف على ان اعداء الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية من اولها وحتى آخرها كثيرون في صفوف الشعبين، وعلى المستوى الاقليمي، وان لديهم قدرات يجب ان لا يستهان بها. ومن البديهي القول ايضا انه عندما يكون هناك نزاع كبير، يجري العمل على حله ـ من حجم النزاع الفلسطيني الاسرائيلي يكون هناك مستفيدون ومتضررون، وكلما اقترب المتنازعون من الحلول اسرع المتضررون نحو التوحد ورص الصفوف والتلاقي لوضع الخطط المشتركة، وتقسيم الادوار والواجبات فيما بينهم لتعطيل الحلول الضارة بمصالحهم. ولعل ما قام به المتطرفون البيض في جنوب افريقيا بعد الاتفاق على انهاء الميز العنصري، وما قام به الجيش الفرنسي السري على أرض الجزائر بعد اتفاقية ايفيان الاولى والثانية، والمجزة البشعة التي ارتكبها المستوطن المجرم غولدشتاين في الحرم الابراهيمي الشريف بعد التوقيع على اتفاق القاهرة (شباط 1994)، والمحاولة التي قام بها فريدمان في الخليل مؤخرا وايغال عمير قاتل رابين شواهد على ذلك.
ثامنا/ المفاوضات اللاحقة هي الاعقد
واظن ان لا احد يضمن باننا لن نشاهد نتنياهو في الاسابيع القليلة القادمة يشجع الاستمرار في مصادرة الاراضي، ويشجع الاستيطان في الضفة الغربية، ويهدم البيوت العربية في القدس. ويطالب الفلسطينيين بمطالب تعجيزية ويماطل في تنفيذ بعض حقوقهم الواردة في الاتفاق وقد يقفزعن بعضها ايضا. ولا احد يضمن بان المفاوضات الاحقة حول تشغيل الممر الامن والمطار والميناء واطلاق سراح المعتقلين ستمر كلها بيسر وبسهولة. واظن ان تاجيل البت بها لم يكن حسنة لجه الله ووجه الفلسطينيين، ولا شك ان تأخير التوصل الاتفاق حولها لم يكن عبثا
ولهذا يمكن القول ان الاتفاق الجديد لم ولن ينهي التوتر بين الطرفين. وان حالة انعدام الثقة بينهما ما زالت قائمة حتى لو اكثر كل منهما مدح الآخر. وقد يكون تطبيق الاتفاق الجديد عنصرا جديدا مثيرا للاشكالات بينهما