هل نجح مؤتمر غزة في انقاذ عملية السلام على مسارها الفلسطيني؟

بقلم ممدوح نوفل في 15/03/1997

بناء على دعوة فلسطينية، عقد يوم 15آذار الجاري اجتماع للاطراف الدولية والعربية التي شاركت في التوقيع على اتفاق طابا، وفي دعم مسيرة السلام (الولايات المتحدة الامريكية، روسيا، الاتحاد الاوروبي، النرويج، اليابان، مصر، الاردن، المغرب، وممثل المتحدة) للبحث في الازمة الخطيرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. والبحث في اوضاع عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي، بعد ان وضعتها حكومة نتنياهو في مأزق حقيقي واوصلتها لحافة الانفجار. والواضح ان الموافقة الامريكية السريعة على حضور المؤتمر ساهمت في تأمين انعقاده رغم معارضة اسرائيل له. وتتضمن ضمن اهداف اخرى منها، بعضا من التعويض على الفلسطينيين عن الفيتو الذي استخدمته في مجلس الامن ضد مشروع قرار يدين الاستيطان في حبل ابوغنيم، وعن معارضتها لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة حول ذات الموضوع.
لقد تعمد الجانب الفلسطيني عدم دعوة اسرائيل للمشاركة في لقاء غزة. فقد كان مشكوكا في موافقتها على الحضور فيما لو وجهت لها الدعوة. فرئيس وزرائها عقب على المبادرة الفلسطينية بالقول “ان محاولة عقد مثل هذا المؤتمر هو خرق واضح لاتفاق اوسلو، لان الاتفاق يتضمن اطارا لتسوية الخلافات، هي لجنة التوجيه العليا المشكلة من الطرفين”. واضاف وزير جارجيته ” السلطة الفلسطينية التزمت أمام رابين ان تحل كل الخلافات عبر المفاوضات المباشرة بين الطرفين”. ولم تقصر حكومة اسرائيل في بذل اقصى الجهود كي لا ينعقد المؤتمر، وان لا يخرج بأية نتائج عملية او نظرية تدينها أو تمس مواقفها اذا انعقد، وهددت باتخاذ مواقف سلبية اكبر. متجاهلة المأزق الخطير الذي وصلته المفوضات. رافضة رؤية النار التي وصلت فتيل الاشتعال. وكأن املاءاتها المتكرر وبخاصة الاخيرة منها ابقت مخرجا للازمة، او ابقت بديلا سلميا لمؤتمر غزة وما يمكن ان يقوم به لاطفاء النار، ومنع انفجار الصراع، ومنع اراقة دماء جديدة، وانقاذ عملية السلام.
لقدت توجه قادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية للدول الراعية والمساندة لعملية السلام، حرصا منهم على استمرارالعملية. فهم مقتنعون بان الطريق الآخر يأتي بالخراب والدمار على الجميع. وحرصت القيادة الفلسطينية منذ البداية على ان تكلل اعمال المؤتمر بالنجاح. وان لا يخرج المؤتمرون من غزة فاشلين. ليس فقط لانها صاحبة الدعوة، ولان المؤتمر يعقد على ارضهم، بل لانها تعرف وتدرك اكثر من سواها نتائج فشله على شعبها وعلى الاخرين، وعلى كل عملية السلام التي شاركوا فيها عن قناعة. ولم يكن في نيتها اجراء محاكمة غيابية لنتنياهو وحكومته في مؤتمر غزة. فقد كانت ومازالت مقتنعة ان اجراء مثل هذه المحكمة غير ممكن في ظل الانحياز الامريكي لصالح اسرائيل وكيلها بمكيالين. لكنها كانت وما زالت مقتنعة ايضا ان بامكان الولايات المتحدة “اذا ارادت” والدول الراعية والمساندة لعملية السلام، انقاذ العملية. وتصحيح الخلل الكبير الذي وقع في العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، بسبب مواقف وممارسات حكومة نتنياهو تجاه الشراكة مع الفلسطينيين، وتجاه الاتفاقات التي شهدوا عليها. فهي تدرك عمق النفوذ الامريكي في المجتمع الاسرائيلي، وتعرف قدرات القيادة الامريكية على التأثير في القرار الاسرائيلي. ومقتنعة بان كل اوجه الانحياز الامريكي لجانب الموقف الاسرائيلي بشعة، باستثناء جانبا واحدا يمكن ان يكون مفيدا. فالانحياز الامريكي يفترض ان يكون مقرونا باستعداد اسرائيل سماع وجهة النظر الامريكية والاخذ بها، خاصة عندما تكون منطقية واقعية، وتتعلق بالمصالح العليا لشعوب المنطقة وبمصلحة السلام. والتجربة اكدت وجود هذا النوع من التبادلية في مواقف الطرفين.
وطالبت القيادة الفلسطينية المؤتمرين باقناع الحكومة الاسرائيلية باستحالة فرض الحل الليكودي للصراع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي، القائم على “السلام مقابل السلام، والامن مقابل الامن”. فهذ الحل ينطلق من نظرية عدوانية توسعية، وغير واقعي وغير منطقي. ولا يمكن لعاقل ان يقبلة. ومحاولة فرضه كأمر واقع يؤجج الصراع في كل انحاء المنطقة ويعيدها الى اجواء ما قبل انطلاق عملية السلام من مدريد عام 1991، ولا يوصل للسلام الشامل العادل والدائم المنشود. وطالبتهم ايضا بالزام الحكومة الاسرائيلية باعادة النظر في المساحة التي قررت الانسحاب من المناطق المسماة في الاتفاقات “ب” و “ج”. ليس فقط لانها قررت الموضوع وحدها، واستهترت بالشريك الفلسطيني واستخفت بمصالحه ولم تاخذ برأيه ولم تتشاور معه حولها. بل لان قرارها يتعارض مع نصوص الاتفاقات التي وقعت عليها وشهد العالم على ذلك. وجميع دول العالم تقر بأن الضفة الغربية ارض فلسطينية محتلة، وليست اسرائيلية، ولا متنازع عليها، واهلها لم يأتوا من بولونيا. وطرح على المؤتمرين سؤال، اذا كان الانسحاب الاسرائيليى في المرحلة الاولى قد اقتصر على 2% فقط من المنطقة ج، فكم ستكون مساحته في المرحلة الثانية، وهل من ينسحب بهذا المقدار سينسحب مرة ثانية وفي الاوقات المحددة لها؟ ويفترض ان يكون المشاركون في المؤتمر قد شاركوا الفلسطينيين مخاوفهم وقلقهم على ارضهم. وشاركوهم في السؤال، وفي شكوكهم الموضوعية في النوايا الاسرائيلية.
اما المطلب الفلسطيني الثالث فتلخص بالزام نتنياهو بتنفيذ ما لم ينفذه من قضايا المرحلة الانتقالية التي استحقت منذ فترة زفنية طويلة. وبالتحديد الزامة بفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، ورفع الفيتو عن تشغيل مطار غزة، وعن استكمال بناء مينائها، واطلاق سراح المعتقلين الذي لا يعقل بقائهم في السجون الاسرائيلية بعد هذا الكم من الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وبعد خمس سنوات من المفاوضات واللقاءات شبه اليومية وعلى كل المستويات.
والان وبعد ان انفضت اعمال الاجتماع، وعاد كل وفد ليبلغ حكومته بما جرى، برزت أسئلة عديدة منها: هل تمكن لقاء غزة، الفريد من نوعه في تاريخ عملية السلام العربية الاسرائيلية، من انقاذ عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي، ومن اعادتها الى وضعها الطبيعي؟ ومنع الانفجار الدموي الوشيك بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، ومن رأب الصدع والتفسخ الكبيرين الذي اصابا العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية؟ وهل استخلص المؤتمر العبر من عملية الباقورة المدانة، التي قام بها جندي اردني يائس ومحبط، ضد طالبات اسرائيليات؟
في سياق الاجابة على هذه الاسئلة يمكن القول، انه بصرف النظر عن النتائج العملية للمؤتمر، فتلبية الدعوة من قبل الاطراف الدولية والعربية المدعوة، بالرغم من اعتراض اسرائيل على الفكرة، انتصار للدبلوماسية الفلسطينية في مواجهة الدبلوماسية الاسرائيلية. ومجرد انعقاد المؤتمر على ارض غزة فيه تعزيز معنوي للنضال الفلسطيني العادل. وتعزيز لاستقلالية الكيان الفلسطيني الناشئ. ويعطي للشعب الفلسطيني اليائس من عملية السلام بارقة أمل ولو محدودة. وأظهر له ان قضيته ما زالت قادرة على تحريك القوى الاقليمية والدولية. صحيح ان المؤتمر لم يتخذ قرارات محددة، وكان هذا متوقعا، الا ان موافقة المشاركون على ابقاء جلساته مفتوحة تعني ان بالامكان تكراره في مرحلة لاحقة. والمؤتمر مثل سابقة يمكن اعتمادها لاحقا في حماية عملية السلام. والمؤتمرون وافقوا بصيغة او أخرى على اعتبار انفسهم مرجعية للمفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي، خاصة وان هذه المرجعية افتقدت خلال الفترة الماضية، وما طرحته الوفود المشاركة بين ان كافة الاطراف الراعية والمساندة لعملية السلام تشعر بالمأزق الخطير الذي دخلته. وعبرت بوضوح عن شعورها بالقلق الجدي والعميق على مصير العملية السلمية برمتها. وابدت حرصا شديدا على استمرارها. وتلمست التوتر الشديد والمتفجر في العلاقات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. وتمنت ان لا يتم اللجوء للعنف في حل الخلافات بين الطرفين. ووعدت بالتحرك السريع وباجراء الاتصالات والتحركات الضرورية في كل الاتجاهات لاعادة العملية السلمية الى قواعدها الاساسية، والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية الى نصابها الصحيح.
أعتقد ان تحقيق الاهداف الاساسية التي من اجلها انعقد المؤتمر تتوقف على سرعة تحرك المؤتمرين بجدية لاطفاء فتيل التفجير الذي اشعله نتنياهو في جبل ابو غنيم. ومرهونة بما ستقوم به الولايات المتحدة بالتحديد في الايام القليلة القادمة لاقناع نتياهو، او الزامه، بشتى السبل بعدم ارسال الجرافات لهذا الجبل. لان الاستيطان يتناقض مع نصوص وروح عملية السلام، ومع الاتفاقات التي شهدوا عليها. وياكل اجزاء من جسد عملية السلام مع كل قطعة يأكلها من الارض الفلسطينية. ولان الشعب الفلسطيني وقيادته لن يسكتوا على تغيير معالم مدينتهم المقدسة. ولاسيما وان مطلبهم عادل ومشروع. فلم يطلبوا “القمر” المستحيل من الادارة الامريكية ومن بقية مندوبي الدول المشاركة في المؤتمر، ولا يطالبون به الان. وكل ما يطالبون به يتلخص بالزام الجانب الاسرائيلي باحترام الشراكة واحترام شريكه في المفاوضات، وباحترام التعهدات والاتفاقات التي التزم بتنفيذها وشهدوا عليها. وهم يريدون اكل العنب وليس “مخانقة” الناطور. ولن يتوقفوا كثيرا امام الوسيلة التي يمكن استخدامها في انزال نتنياهو سالما معافى من على اشجار جبل ابوغنيم التي صعد الى قممها. ولا امام الوسائل غير المرئية وغير المعلنة التي يمكن استخدامها لاغلاق الطريق في وجه الجرافات الاسرائيلية لتعطيل صعودها للجبل. وأظن ان بامكان الدول المشاركة في المؤتمر، وبخاصة الادارة الامريكية، تحقيق ذلك ان هي ارادت ذلك وصممت عليه، وسبق للرئيس كلينتون ان نجح في وقف الاستيطان في رأس العمود في القدس، وفي مواقع اخرى.
بعد معركة النفق، وقبل التوقيع على اتفاق الخليل شهدت العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية ازمة كبيرة كادت ان تطيح بالمفاوضات بين الطرفين. في حينه نجحت جهود منسق عملية السلام “دينس روس” وجهود اكثر من طرف دولي وعربي في معالجة الازمة، وتم التوصل لاتفاق الخليل. وتم الاتفاق ايضا على اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي وانسحابه على مراحل من الارياف الفلسطينية. فهل سيتكرر المشهد؟.. اشك في ذلك لاسيما وان الطرف الاسرائلي غاب عن مؤتمر غزة وهو ضد هكذا لقاءات من حيث المبدأ. ولان الادارة الامريكية حددت سلفا وظيفته واعتبرته “فرصة للفلسطينيين لابداء قلقهم وخيبة املهم بسبب عدة خطوات اتخذتها اسرائيل مؤخرا”. ولان رسالة الرئيس كلينتون لرئيس السلطة الفلسطينية ومداخلة المندوب الامريكي في المؤتمر، حملت في طياتها مواقف هروبية ولا توحي بان الادارة الامريكية سوف تمارس ضغوطا جدية على حكومة نتنياهو.بمقدار الضغوط التي تمارسها على الجانب الفلسطيني. وآمل ان اكون مخطئا في التقدير..
واخيرا يمكن القول مهما كانت النتائج العملية للمؤتمر محدودة، يبقى المؤتمر مفيدا للفلسطينيين حتى لو اقتصرت نتائجه على تلبية الدعوة والاستماع لوجهة نظرهم. ويبقى يمثل سابقة يمكن اعتمادها لاحقا اذا اجاد الفلسطينيون ادارة الصراع في الايام والاسابيع الحاسمة القادمة.فهم عندما دعوا الاطراف الدولية والاقليمية المعنية بصنع السلام والاستقرار في المنطقة للمؤتمر كانوا يعرفون ان مؤتمر غزة، ليس، ولن يكون بديلا عن المفاوضات المباشرة مع الاسرائيليين لكنهم في الوقت ذاته ارادوا ان يقولوا لنتنياهو ان للمفاوضات قواعد واصول يجب ان تحترم.