هل الادارة الامريكية جادة في انقاذ وتحريك عملية السلام؟

بقلم ممدوح نوفل في 10/04/1997

في كل المحطات المفصلية التي مرت بها عملية السلام، كانت الساحة الفلسطينية العربية تشهد نقاشات وحوارات حول الدور الامريكي في رعاية المفاوضات العربية الاسرائيلية، وتمكينها من تحقيق اهدافها. وبعد الاعلان عن نتائج التحقيق في فضيحة بار أون ـ الخليل، ومعرفة الجميع بأن عملية السلام هي اكبر المتضررين من الهزة العنيفة التي احدثها هذا الاعلان، قفز للذهن السؤال من جديد حول الموقفين الامريكي والاوروبي المحتملين. ومع تعقد القضية اكثر فأكثر صارت القوى الرسمية والشعبية العربية تتطلع لدورامريكي اوروبي فعّال لانقاذ عملية السلام، ومنع تدهور الاوضاع في المنطقة، ومنع اندفاعها نحو الهاوية. خاصة وان الهزة التي اصابت الحياة السياسية الاسرائيلية اصابت معها العملية السياسية في الصميم، وزادت من تعقيد الموقف الفلسطيني العربي الرسمي والشعبي المعقد اصلا. ووضعت الحكومات العربية وبخاصة السلطة الوطنية في موقف حرج امام شعوبها. وصّعبت الخيارات المطروحة امامها، وهي قليلة اصلا، لمواجهة سلوك نتنياهو وحكومته وضد الاتفاقات التي تم التوصل لها للآن .
ويعتقد البعض ان استخدام الادارة الامريكية “الفيتو” في مجلس مرتين وتصويتها في الجمعية العامة ايضا مرتين، آخرها يوم 25/4/1997، ضد القرارات التي أدانت اسرائيل، ليست سوى تسليفة كبيرة قدمتها ادارة الرئيس كلينتون لحكومة نتنياهو، تمهيدا لممارسة الضغوط عليها وارغامها على القبول بمبادرتها التي ستطلقها لاعادة عملية السلام على المسار الفلسطيني الى مجراها الطبيعي. فهل الادارة الامريكية في عجلة من امرها وجادة في انقاذ وتحريك عملية السلام على مساراتها الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني؟ وهل سيتمكن المنسق الامريكي “روس” في حال قدومه للمنطقة من تقليص الفجوة بين الموقفين الفلسطيني والاسرائيلي، واعادة الطرفين الى مائدة المفاوضات، بعدما نجح في جولته الاخيرة في احياء التنسيق الامني بينهما، واعطاه شكلا ثلاثيا جديدا (اسرائيلي امريكي فلسطيني) ؟
يفترض ان لا يكون هناك خلاف على ان المفاوضات على المسارين السوري واللبناني لم تكن موضع تفكير عند نتنياهو منذ فوزه في الانتخابات. وانه بعد تسلمه رئاسة الوزراء واطلاعه هو وحلفائه في الحكومة على ملفي هذه المفاوضات، وقراءتهم لحقيقة ما قدمه بيريز ورابين من استعدادات للانسحاب من كل الجولان المحتل، زادت قناعتهم بضرورة تجميد المفاوضات مع السوريين الى الابد، ومع اللبنانيين طالما انهم يربطون مسارهم بالمسار السوري. وعلى كل حال فالثابت هو ان نتنياهو لم يكلف نفسه عناء محاولة تحريك هذه المفاوضات اطلاقا. واعتقد في فترة مضت ان بامكانه عزل الموقف السوري عن الموقف العربي، وكسب ثمار السلام دون الوصول الى حل مع السوريين حتى دون استئناف المفاوضات معهم. واذا كانت مواقف اليمين الاسرائيلي بزعام نتنياهو من الحل مع السوريين مفهومة، فأظن ان من حق وواجب حكومات كل الدول العربية عدم استيعاب الموقف الامريكي الذي هادن واستسلم لمواقف نتنياهو، وصمت صمت القبور على مواقفه من هذه المفاوضات طيلة عام كامل، وعلى تناسيه ان هناك مسارين آخرين للمفاوضات غير المسار الفلسطيني. ومن غير المفهوم ايضا للجمهور العربي، وحتى للمراقبين السياسيين المحايدين، صمت العرب كل هذه المدة على هذا الصمت الامريكي. اعتقد ان اعادة اثارة موضوع المفاوضات السورية واللبنانية من جديد ، في هذه الفترة، يساهم في فضح مواقف نتنياهو وحكومته من مسألة صنع السلام العادل في المنطقة ويظهرها على حقيتها. ويخدم المواقف العربية في المحافل الدولية، وقد يفيد المعارضة الاسرائيلية في صراعها ضده. فالشارع الاسرائيلي والعالم يعرف بأن السلام الشامل والدائم يتطلب مفاوضات سلام مع السوريين.
اما بشأن آفاق التحركات الامريكية المتوقعة، ومن ضمنها زيارة دينس روس القادمة للمنطقة، التي يراهن البعض عليها، فلعل من المفيد تذكير الجميع بأن الزيارات العربية والفلسطينية لواشنطن في الشهرين الاخيرين لم تسفر عن اشياء جدية جديدة. وأن وزيرة الخارجية لم تكلف نفسها، منذ توليها منصبها، عناء زيارة المنطقة. وان اقتراح الرزمة الذي حمله روس في جولته الاخيرة في المنطقة لم يخرج عملية السلام من مأزقها. حيث اقترح روس رزمة من الافكار تضمنت: العودة للتنسيق الامني فورا بين الاجهزة الفلسطينية والاسرائيلية، واستمرار اسرائيل في البناء في جبل ابو غنيم مع وقف اجراءات الاستيطان الاخرى مدة 6 شهور. وخلق توازن بين الاعمال الاستيطانية في جبل ابوغنيم واستكمال تطبيق ما تبقى من بنود الاتفاق الانتقالي. والشروع فورا في مفاوضات الحل النهائي وفقا للقاعدة التي اقترحها نتنياهو. ولا اذيع سرا اذا قلت ان رزمة الافكار التي حملها روس زادت شكوك القيادة الفلسطينية حول جدية الحديث الامريكي عن ضرورة التزام الجميع بأسس عملية السلام وقواعدها. فالرزمة الامريكية جمعت الشيء ونقيضه، وخلطت الاتفاقات مع نقيضها. والاخطر انها تضمنت صراحة موافقة امريكية رسمية على استمرار الاستيطان في جبل ابو غنيم، علما بان ادارة الرئيس كلينتون وضعت تواقيعها على نصوص اتفاقات تعارض اي توسع في الاستيطان. وان كل الادارات الامريكية السابقة تعاملت مع الاستيطان منذ انطلاق عملية السلام من مدريد باعتباره عملا غير مشروع، ويتناقض مع اهداف عملية السلام ويعرقل المفاوضات حول المرحلة الانتقالية، ويجحف بمفاوضات الحل النهائي.
واذا كانت الادارة الامريكية قد اتخذت مثل هذه المواقف المنحازة لاسرائيل قبل ظهور نتائج التحقيق في فضيحة بار ون الخليل، فمن المؤكد انها بعد ظهور النتائج لن تحدث اية تغيرات جوهرية فيها. بل انها ستجد في الهزة التي اصابت المجتمع السياسي الاسرائيلي مناسبة ثمينة توفر لها الغطاء اللازم للتستير على مواقفها المهادنة لنتنياهو وحكومته. واظن انها سوف تتخذها ذريعة لترفع من وتيرة ضغطها على الجانب الفلسطيني. ويخطئ من يأمل بان يأتي المنسق الامريكي لعملية السلام “دينس روس”، هذه المرة، للمنطقة وهو حاملا في جعبته خشبة الخلاص التي ستنقذهم من المأزق الذي يقفون فيه، وتنقذ عملية السلام من الغرق. بل على الفلسطينيون ان يتوقعوا عكس ذلك. فدينس روس لن يمارس الضغط على حكومة اسرائيل، وسوف يركز حديثه مع السلطة الفلسطينية حول التريث والتحلي بالصبر وطول البال.. ويتوقع ان يستخدم شتى سبل ووسائل الاقناع والضغط والاكراه لجعلها تتفهم وتستوعب ظروف نتنياهو “الضعيف المسكين..”! الصعبة والمعقدة ..الخ من المعزوفة المعروفة سلفا للجميع. وقد لا يتوقف مطولا امام متطلبات استئناف المفاوضات. ويرجح ان لا تكتفي الادارة من الفلسطينيين بأقل من العودة السريعة للتنسيق الامني مع قوات الامن الاسرائيلية حتى لو بقيت المفاوضات مجمدة وتنفيذ الاتفاقات مؤجل. ولن يضير نتنياهو اذا تكرست صيغة ثلاثية “فلسطينية امريكية اسرائيلية” للاجتماعات الامنية، فالمهم اكل العنب وليس مخانقة السلطة الفلسطينية “الناطور” المفروض علية حماية امن اسرائيل والاسرائيليين.
والتمعن في الموقف الامريكي منذ اعادة انتخاب الرئيس كلينتون وللأن يؤكد تراجع درجة اهتمام ادارته الجديدة بأوضاع عملية السلام على مساراتها الثلاث. والشواهد على ذلك كثيرة، بدء من السكوت على خروقات نتنياهو للاتفاقات، ومحاولة تعطيل ذهاب الفلسطينيين للامم المتحدة وحرمان الجانب الفلسطيني من اللجوء الى استخدام الشرعية الدولية سلاحه الوحيد في ظل موازين القوى، مرورا بما تضمنته الخطوط العريضة للمبادرة الامريكية الجديدة، وعدم رغبة دينس روس في تنسيق تحركاته مع مصر وبعض الدول العربية الاخرى، وانتهاء بعدم قيام السيدة اولبرايت وزير الخارجية بزيارة المنطقة، رغم معرفتها بأن لدى الطرف الفلسطيني ملاحظات كثيرة على دور”روس”، ليس فقط لانه منحاز تماما لصالح الموقف الاسرائيلي، بل وايضا بسبب عدم امانته في نقل المعلومات لحكومته وللحكومة الاسرائيلية عن الموقف الفلسطيني. اعتقد ان الادارة الامريكية وصلت بسياستها الشرق اوسطية الى نقطة لا تستطيع الاستمرار في رعاية مفاوضات معلقة في الهواء. وعليها ان تقرر اما ان تترك لاسرائيل حرية التصرف بعملية السلام وفعل ما تشاء، واما العودة لادارة المفاوضات ورعايتها بطريقة مختلفة عن الطريقة التي اتبعتها منذ فوز الليكود في السلطة.
ومراجعة مواقف الادارة الامريكية منذ تربع نتنياهو على كرسي رئاسة الوزراء تقود للاستنتاج بأنه لا ينبغي توقع خطوات امريكية جدية سريعة لاخراج عملية السلام من مأزقها وليس هناك ما يدعو للتفاؤل. فالادارة الامريكية تتصرف في ادارة وحل الصراعات الاقليمية والدولية وفقا لمصالحها، ووفقا لرؤيتها وتقيمها وليس وفقا لتقييم الشعوب ورغباتها. ومواقفها تخلق انطباع وكأن قضايا المنطقة تراجع موقعها في جدول الاولويات الامريكية. واذا لم يكن الامر كذلك، فمن حق شعوب المنطقة، وبخاصة شعب فلسطين الذي يعاني الامرين يوميا، ان يشك في ان تبدلا جوهريا قد طرأ على الموقف الامريكي ازاء معالجة قضايا المنطقة. ملامح وجهته الجديدة تقوم على ارهاق أنظمتها واغراقها في متاعب متنوعة. وترك الحرائق تشتعل في بعض ارجائها والتدخل لاحقا لاطفائها بعدما يكون الجميع قد ارهق واستنزف. وتجربة تعاملها مع الصراع في البوسنه والهرسك نموذجا لذلك. وتجاهل صرخات العرب وكل الحريصين على عدم قتل عملية السلام يبعث على الشك في النوايا. فالادارة الامريكية تعرف ان كل ما يمكن ان تفعله جولات دينس روس هو تأجيل الانفجار فترة زمنية قصيرة وليس أكثر. وشخصيا، لا استوعب الحديث الامريكي وحديث بعض العرب عن عدم قدرة امريكا على الضغط على اسرائيل، فالتجربة التاريخية، وتصرفها وقت “هبة النفق” توكد العكس.
وأظن ان دول السوق الاوروبية ومعها روسيا وكندا واليابان لن تستطيع هي الاخرى ردع نتنياهو في المرحلة القادمة، ولن تستطيع تجاوز الدور الامريكي. فالادارة الامريكية تحرص على استمرار استفرادها بادارة العملية السياسية، واستمرار التحكم بنتائجها في كل مرحلة . وتقف للتحركات الاوروبية بالمرصاد، وتحرض نتنياهو ضد كل مبادراتها ونشاطاتها رغم انها الممول الرئيسي للعملية السلمية ومتطلباتها المادية. ناهيك عن ان المصالح الامريكية والاوروبية في المنطقة ليست مهددة على المدى المباشر والقريب.
في ضوء هذه الرؤيا يمكن القول، اذا لم يتحرك الفلسطينيون والعرب فلن يتحرك احد لنصرتهم في مواجهة سياسة نتنياهو، وفي تفعيل وتصحيح المواقف الادارة الامريكية الضبابية من قضاياهم العادلة. ولعل من المفيد الشروع في استطلاع المواقف الدولية بشأن امكانية الدعوة لعقد “مؤتمر دولي لحماية وانقاذ عملية السلام في الشرق الاوسط”، على غرار مؤتمر مدريد الذي انعقد للتأسيس للسلام والاستقرار في المنطقة. واذا كان قرار عقد مثل هذا المؤتمر موجود في البيت الابيض، مثله مثل قرار الضغط على حكومة نتنياهو والزامها بدفع استحقاقتها في عملية السلام، فمن الضروري ان يفكر اصحاب القرار عند العرب بكل السبل الكيفية باقناع الادارة الامريكية بان نهج التردد الذي اتبعته في معالجة الصراع الاثني في البوسنة والهرسك لا يصلح لمعالجة قضايا الشرق الاوسط .