مراجعة للمفكرة الفلسطينية / الحلقة الثانية ـ جيلين دفعوا الثمن
بقلم ممدوح نوفل في 05/06/1997
(الحلقة الثانية)
ـ جيلين من العرب دفعوا ثمن دخول عبدالناصر الحرب دون تحضير
ـ اصرار اللاجئين على العودة وخوف العرب من اسرائيل خلقا منظمة التحرير
ـ القوميون العرب عارضوا دعوة فتح توريط العرب في حرب مع اسرائيل
ـ هزيمة حزيران سرّعت صعود الوطني الفلسطينية ووسعت دائرة الصراع
رغم نجاح الحركة الصهيونية في النصف الثاني من الخمسينات في توطيد دعائم دولة اسرائيل وبروزها كقوة عسكرية كبيرة، إلا أن اللاجئين الفلسطينيين لم يفقدوا الأمل بالتحرير والعودة الى بيوتهم. ولم يسلموا بوجود دولة اسرائيل على انقاضهم. وبعد قيام ثورة 23 تموز في مصر بقيادة عبد الناصر انتعشت آمالهم اكثر فأكثر. ومنذ منتصف الخمسينات ظهرت في صفوفهم ميول قوية للقيام بدور عسكري فلسطيني مستقل عن الدول العربية ضد اسرائيل. وقامت عدة تنظيمات فلسطينية في قطاع غزة تبنى بعضها الكفاح المسلح من اجل تحرير الوطن السليب. في حينه لقي بعضها تشجيعا ورعاية شبه رسمية من السلطات المصرية التي كانت تتولى الاشراف على ادارة قطاع غزة. اما حكومات الدول العربية فحافظت على ذات المواقف التي اتخذتها مطلع الخمسينات حول المسألة الفلسطينية، وحول العلاقة مع اسرائيل. وظهر في صفوف بعضها وبخاصة دول الطوق تخوفات حقيقية من نوايا اسرائيل العدوانية ضدها، ومن اطماع الحركة الصهيونية العالمية في الاراضي والمياه العربية. وفي كانون اول 1964عقد الزعماء العرب في القاهرة أول قمة جامعة لهم قرروا فيها، بدفع من رئيس مصر “جمال عبد الناصر” تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، كأطار لتعبئة وتنظيم وحشد طاقات الشعب الفلسطيني في معركة التحرير المنتظرة على يد الجيوش العربية. وبجانب هذا القرار انشأت قيادة عسكرية عربية موحدة للدفاع عن الاراضي العربية ضد اي تهديد اسرائيلي. وتم انشاء هيئة للاشراف على تنفيذ مشروع عربي لاستغلال مياه نهر الاردن. وكانت اسرائيل قد بدأت في حينه في تنفيذ مشروعها لتحويل مياه نهر الاردن للنقب.
واستنادا لقرار القمة عقد المجلس الوطني الفلسطيني الاول اولى دوراته في القدس “28/5/1964″. وانتخب احمد الشقيري رئيسا له وكلا من حكمت المصري وحيدر عبد الشافي ونقولا الدر نوابا للرئيس، واختار عبدالرحمن السكسك امينا عاما. واتخذ المجلس عددا من القرارات الخاصة منها: اعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية وان يكون شعارها وحدة تعبئة تحرير، ابلاغ جميع الدول والمنظمات الدولية والشعبية وحركات التحرر في العالم بقيام المنظمة وباهدافها، طلب المساندة والتعاون والتأييد لها. المصادقة على الميثاق الوطني الفلسطيني، والنظام الاساسي لمنظمة التحريرالذي نص في مادته الثامنة على انعقاد المجلس الوطني بدعوة من رئيسه مرة كل سنة، انتخاب احمد الشقيري رئيسا للجنة التنفيذية وتكليفه اختيار أعضائها وعددهم 14 عضوا فقط. انتخاب عبد المجيد شومان رئيسا لمجلس ادارة الصندوق القومي وعضوا في اللجنة التنفيذية. وفي المجال العسكري قرر المجلس: المباشرة بفتح معسكرات لتدريب جميع القادرين من الشعب الفلسطيني رجالا ونساء على حمل السلاح بصورة الزامية. تشكيل كتائب فلسطينية عسكرية نظامية وكتائب فدائية فعالة، واتخاذ الاجراءات السريعة لتسليحها. تطبيق نظام المقاومة الشعبية في صفوف الشعب الفلسطيني. وفرض ضريبة التحرير على الفلسطينيين، واتخاذ الاجراءات اللازمة الكفيلة برعاية اسر الشهداء. وفي المجال السياسي اتخذ المجلس عدة قرارات منها: قيام “اسرائيل” في فلسطين يعتبرعدوانا استعماريا صهيونيا مستمرا ويخالف مبدأ حق تقرير المصير. وبقاء اسرائيل في هذا الجزء من الوطن العربي يشكل خطرا على كيانه وعلى السلام العالمي. العمل مع الدول العربية على طرد دولة اسرائيل من الامم المتحدة وجميع المحافل الدولية الاخرى. قيام م ت ف بتمثيل فلسطين لدى جامعة الدول العربية ومكاتب المقاطعة ومؤسسة الامم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها المختلفة، والمؤتمرات الرسمية والشعبية وهي تملك وحدها حق تمثيل الفلسطينيين وتنظيمهم والنطق باسمهم. استنكار مواقف الدول الاستعمارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا من قضايا العرب بصورة عامة وقضية فلسطين بصورة خاصة. وتقدير مواقف الدول الاشتراكية وبشكل خاص الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية من هذه القضايا. وفي حينه وبناء على التفويض الذي منحه المجلس للشقيري باختيار أعضاء اللجنة التنفيذية قام الشقيري بعد التشاور مع أعضاء المجلس الوطني بتشكيل اللجنة التنفيذية الاولى من : بهجت ابوغربية، حامد ابو سته، د حيدر عبد الشافي، خالد الفاهوم، فاروق الحسيني، فلاح الماضي، د قاسم الريماوي، قصي العبادلة، عبد الخالق يغمور، عبد الرحمن السكسك، عبد المجيد شومان، نقولا الدر، د وليد القمحاوي، اللواء وجيه المدني.
فتح تتقدم والقوميون العرب يترددون ويتخلفون
لاحقا في الاول من كانون ثاني 1965 أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” عن نفسها حركة فلسطينية مستقلة تعتمد الكفاح المسلح كاسلوب وحيد لتحرير فلسطين. واتخذت موقفا سلبيا من م ت ف ومن الصيغة التي تم تشكيلها فيها. واعتبرتها أداة بيد الانظمة العربية. وسارعت في بدء ممارستها الكفاح المسلح. ونفذت اولى عملياتها العسكرية من منطقة الاغوار الاردنية الشمالية في 1/1/1965. وكان للاعلان عن تشكيل منظمة التحرير دور في اندفاع عدد من قادتها ومنهم ياسرعرفات الى حرق مرحلة الاعداد العسكري التي حددتها لنفسها. اما حركة القوميين العرب، التي انتميت عام 1962 لصفوفها، فقد آثرت التريث، وتعاملت، بايعاز من عبد الناصر، ايجابا مع قرار تشكيل منظمة التحرير. وبدأت بفتح قنوات اتصال مع اللواء وجيه المدني عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة مسؤول الشؤون العسكرية. وعلى امتداد عامي 1965و 1966 نجحت حركة فتح في استقطاب اعداد من الشباب الفلسطيني في كل اماكن التجمعات الفلسطينية وبخاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ونفذ فدائيوها عددا من العمليات العسكرية الناجحة ضد المنشئات الاقتصادية الاسرائيلية. وفي 13 تشرين ثاني 1966 قامت القوات الاسرائيلية بشن هجوم على قرية السموع. وهي قرية صغيرة من قرى قضاء الخليل في الضفة الغربية. وانزلت بسكانه ومعظمهم من اللاجئين خسائر جسيمة في الارواح والممتلكات. واعلنت اسرائيل انها قامت بتلك الغارة ردا على اعمال “تخريبية” فلسطينية نفذت من الاراضي السورية.
في حينه عزز النشاط العسكري موقع حركة فتح في صفوف المواطنيين الفلسطينيين، وشاع اسمها كتنظيم للفدائيين. ورفعت حركة فتح شعار الكفاح المسلح طريقا وحيدا لتحرير فلسطين، وقالت “من فوهة البنادق تنبع السياسة”. ودعت الشعب الفلسطيني في بياناتها الاولى للانخراط في الكفاح المسلح والالتحاق بصفوفها ودعم هذا الشكل النضالي باعتباره البديل للنضال السياسي الذي جرب ولم ينفع. كما دعت الاحزاب والحركات السياسية الفلسطينية لانتهاج ذات الطريق. ورفعت شعار “وحدة البنادق على ارض المعركة”. في حينه تعرض هذا التنظيم الجديد للملاحقة من قبل النظامين المصري والاردني، باعتباره يسعى لتوريط العرب في حرب مبكرة مع اسرائيل. وتم التعامل مع ياسرعرفات باعتباره عنصر خطير مطلوب اعتقاله وصدرت مذكرات رسمية بحقه .. اما النظام السوري فقد تعامل مع حركة فتح بشكل ايجابي، وسهل لافرادها الاقامة بصورة غير رسمية في دمشق، والانطلاق من الاراضي السورية للقيام بعمليات عسكرية ضد اسرائيل. وكانت الحكومة الجزائرية قد سبقت السوريين في تقديم التسهيلات لفتح. وانشأت لها المكاتب، وفتحت لها المعسكرات على ارضها لتدريب اعضائها على حرب العصابات وعلى استخدام الاسلحة والمتفجرات. وقدمت لها مساعدات مادية ومعنوية، كان من ضمنها اقامة علاقة عملية مع الصين الشعبية. وخلال ذات الفترة شهدت التجمعات الفلسطينية في الخارج والداخل وبخاصة قطاع غزة حركة سياسية نشطة، وظهر فيها وبخاصة في القطاع العديد من الحركات والتنظيمات الصغيرة تبنت الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية طويلة الامد.
في تلك الفترة واستجابة لمواقف عبد الناصر رفضت قيادة حركة القوميين العرب بزعامة جورج حبش ومحسن ابراهيم وآخرون، توجهات حركة فتح السياسية والعسكرية ورفضت ممارساتها العملية وبخاصة شروعها في تنفيذ عمليات عسكرية ضد اسرائيل. واتهمتها بانها تسعى لتوريط مصرعبد الناصر في حرب غير مدروسة وغير معد لها بصورة جيدة. واستجابة لمواقف عبد الناصر رفعت قيادة الحركة في تلك الفترة شعار الكفاح المسلح على ان يكون “فوق الصفر ودون التوريط”. والشعار كان يعني في التطبيق العملي: التحضير للعمل العسكري وعدم الشروع في تنفيذ عمليات قتالية حتى لا يتم توريط مصر في حرب مبكرة مع اسرائيل وغير مخطط لها جيدا. وواصلت العمل في اعداد كوادرها عسكريا. وتعاونت مع تنظيم ابطال العودة الذي اسسه الجنرال وجيه المدني تنفيذا لقرار المجلس الوطني، والحقت كوادرها العسكرية به. وشكلت لهم اطارا تنظيميا خاصا بهم داخل تنظيم ابطال العودة اطلقت عليه “اسم شباب الثأر”. وراح هذا التنظيم يقوم ببعض الاعمال العسكرية التحضيرية من نوع اقامة المعسكرات السرية في الاردن للتدريب. وتخصيص مدربين لتدريب الاعضاء في البيوت. واستطلاع المواقع العسكرية، والمنشئات الاقتصادية الاسرائيلية الاستراتيجية. وكانت تلك المعلومات تصب في قنوات الاستخبارات المصرية وتوظف في خدمتها. واستشهد في احدى العمليات التي نفذها شباب الثأر في الجليل عام 1964 كل من رفيق عساف من كفر لاقف احدى القرى المجاورة لمدينة قلقيلية، وشقيق ابو ماهر اليماني عضو قيادة حركة القوميين العرب، في تلك الفترة، وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لاحقا .
في حينه كنت احد أعضاء تنظيم الحركة الذين ابدوا رغبتهم في الانتقال من العمل الحزبي السياسي للعمل العسكري. فقد كنت مقتنعا بما كان يقولة عبد الناصر” ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”. وكنت من المعجبين بالثورات الكوبية والجزائرية والفيتنامية والصينية مثلي مثل الاغلبية الساحقة من الشباب الفلسطيني ابناء جيلي. ولعل بؤس حالة اللاجئين الذين التجأوا الى بلدتي قليقيلية، واحاديث الاهل عن اراضي العائلة التي احتلها اليهود والواقعة امام النظر وعلى بعد مئات الامتار من البلدة ، وحالة البؤس والشقاء التي عاشها اهل بلدتنا بعدما فقدوا 90% من اراضيهم، والاعتداءات المتواصلة التي تعرضت لها البلدة خلال طفولتي 1944-1956 وبخاصة هجومها مقر قيادة المنطقة ومخفر الشرطة في المدينة وقتل اعداد من شبابها وتدمير آبار المياه، فيها كانت كلها الدافع الخفي لتلك الرغبة وذاك الاختيار الشخصي. وكان سروري كبيرا عندما أبلغت بموافقة قيادة التنظيم على نقلي للجناح العسكري للحركة ، وترشيحي لدورة عسكرية ” وحدات فدائيين” في مصر في معسكر انشاص. وحزنت كثيرا عندما منعتني المخابرات الاردنية من مغادرة الاردن لسببين اولهما شبهات حول انتمائي لتنظيم محظمور “حركة القوميين العرب” والثاني دخولي السجن لفترة قصيرة عام 1963 بسبب المشاركة في تحضير قيادة المظاهرات التي اندلعت في معظم انحاء الاردن في تلك الفترة تأيدا لمشروع الوحد الثلاثية “التي لم ترى النور”. وخلال فترة زمنية قصيرة تمكنت من تنظيم خلية عسكرية سرية في منطقة قلقيلية. كان عددها 12 عنصرا معظمهم من كبار السن ممن اشتهروا في بلدتنا نتيجة ادوارهم في المعارك التي خاضها اهل البلدة عام 1947- 1948 مع القوات العراقية التي كانت ترابط في محيط البلدة واهمها: معركة الطيرة، معركة بيار عدس، معركة قلمانيا، مغركة كفار سابا، معركة رامات هاكوفيش، معركة بيارة الداعور. واظن ان حديث والدي واصحابة عن فترة النضال في الاربعينات ضد اليهود والانجليز وعن المناضلين الذين برزوا وعن الشهداء، من ابناء البلدة ومن الجيش العراقي، الذين سقطوا في تلك الفترة، الهب حماسي للعمل العسكري وساعدني على تحقيق هذا النجاح السريع في تشكيل خلية عسكرية قوية وذات خبرة. اما تعليق بعض كبار السن من امثال والدي على عملنا الحزبي السياسي فقد زادني تصميما على السير في درب العمل العسكري وكرس قناعتي به كوسيلة للتحرير. فقد كان لكلماتهم لي ولاعضاء التنظيم “الحركة” بعد كل اجتماع حزبي نعقده في بيتنا فعلها في نفسي وفي حركتي اللاحقة: “فلسطين راحت بالسلاح واليهود دفعوا الدم ثمن دولتهم وفلسطين لا تعود بالعمل السياسي”. فلسطين لن تعود الا بالسلاح وبالدم”. وكم كانت فرحتي وسعادتي كبيرة عندما ابلغت اول مرة ان القيادة العليا لشباب الثأر سترسل لاعضاء الخلية اسلحة تكفي لتسليح الجميع. وفعلا في صيف 1966 وصل السلاح، ووزع على اعضاء الخلية وكان من نوع رشاش “كارلو بورسعيد” المنقول عن الرشاش كارلو غوستاف. واقمنا معسكرا للتدريب في احراش وادي قانا بالقرب من قرية كفرلاقف المقام قي منطقتها الان شبكة من المستوطنان الاسرائيلية الكبيرة تعرف باسم خط شمرون ومن ضمنها مستوطنة “القنا” واريئيل وعمنويل. حيث بينت الفحوص الجيلوجية ان نبع وادي قانا الذي كنا نذهب اليه في رحلات مدرسية ونحن صغار، ولاحقا للتدريب العسكري ليس الا “تنفيسة” ضغط أكبر حوض ماء في باطن الضفة الغربية، والمعروف الأن عند الجيلوجيين وخبراء المياة ” بالحوض الغربي”. ومن ذلك التاريخ بدات رحلتي مع العمل العسكري الفلسطيني. ومعها بدات مرحلة جديدة تماما من حياتي اخترتها بمحض ارادتي. واخترت لنفسي اسما حركيا “ممدوح” تيمنا باسم احد ضباط الجيش العراقي الذين رابطوا في محيط بلدتي قلقيلية عام 1948 واظهروا، حسب أقوال كبار السن، براعة عسكرية في تخطيط العمليات العسكرية ضد المستعمرات الاسرائيلية، وابرزوا شجاعة عالية في مقاومة القوات الاسرائيلية وفي قيادة المعارك والتخطيط لها واخر الاربعينات. وفي فترة عامين 1966ـ 1967 نفذت خليتنا الكثير من مهمات الاستطلاع، وكنت انا غير الخبير بالارض احدد لهم الاهداف بناء على ما كان يرد من القيادة. وكنا نرسل نتائج الاستطلاع لقيادة الحركة المقيمة في دمشق، ولاحقا عرفت بأن كل تقارير الاستطلاع التي كان ترسل من خلايا العمل العسكري التابعة لحركة القوميين العرب كانت ترسل تباعا، بحكم علاقة الحركة مع عبد الناصر، للاستخبارات العسكرية المصرية .
وبتاريخ 31/ 5 ـ4 /6/ 1965 عقد المجلس الوطني الفلسطيني، تنفيذا لنظامه الاساسي دورته الثانية في القاهرة. وبعد جلسة الافتتاح التي حضرها الرئيس جمال عبد الناصر، انتخب المجلس هيئة مكتب رئاسة تألفت من احمد الشقيري رئيسا، حكمت المصري ومحمود نجم نائبين للرئيس، ورفعت النمر امينا للسر. وناقش المجلس عدة تقارير قدمتها اللجنة التنفيذية. وكان ابرز ما حققته المنظمة خلال الفترة الفاصلة ما بين المجلسين : انشاء ثلاثة تشكيلات عسكرية نظامية، كلا منها بحجم لواء، في اطار جيش التحرير الفلسطيني. وهي عين جالوت في مصر وحطين في سوريا، والقادسية في العراق، والبدء بتسليحها وتدريبها في سيناء وقطاع غزة وسورية والعراق. انشاء الصندوق القومي وبدء الجباية الشعبية ومن ضمنها جباية ضريبة التحرير، وشروعه في الانفاق على كافة اوجه نشاط المنظمة. انشاء دوائر منظمة التحرير ومقرها العام في القدس. مشاركة المنظمة في عدد من المؤتمرات الدولية بدعم من عبد الناصر واهمها مؤتمر عدم الانحياز الذي انعقد في القاهرة عام 1965. واتخذ المجلس في تلك الدورة عددا من القرارات السياسية كان من ضمنها: المنظمة تحدد سياستها الخارجية وعلاقتها بالدول تبعا لمواقفها من القضية الفلسطينية. ورفض المجلس تصريحات الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة التي اطلقها خلال زيارته الى اريحا ودعا فيها الى قبول العرب بقرار الامم المتحدة الداعي الى تقسيم فلسطين. وقرر ان تقوم اللجنة التنفيذية بالاتصالات اللازمة مع الدول العربية لمضاعفة جهودها لتحقيق المزيد من الانجازات العسكرية بالسرعة الممكنة وبخاصة زيادة حجم القوات الفلسطينية المرابطة على اراضيها. وفي نهاية اعماله قدمت الجنة التنفيذية الاولى استقالتها، وكلف الشقيري بتشكيل اللجنة الثانية، وادخل عليها تعديلات واسعة، لكنها لم تمس جوهر تشكيل اللجنة التنفيذية الاولى الذي اعتمد الشخصيات المستقلة. وبقيت حركة فتح والتنظيمات الاخرى المسلحة خارجها.
بعد عام عقد المجلس الوطني دورته الثالثة ” 20ـ24/5/ 1966″ وسط جو متوتر. نتج عن ارتفاع حدة التوتر في العلاقة المصرية السورية من جهة والاسرائيلية الامريكية من جهة اخرى، وقيام اسرائيل ببعض الاعتداءات المتفرقة ضد القرى والمزارعين الفلسطينيين في الضفة الغربية. وفي حينه رفضت الحكومة الاردنية فرض ضريبة التحرير على الفلسطينيين في الاردن واعتبرته عملا يمس بالسيادة الاردنية. وكان لرفض الحكومة الاردنية السماح للمنظمة بتسليح قرى الخطوط الامامية في الضفة الغربية ورفضها فرض ضريبة التحرير على ابناء فلسطين في الاردن دوره ايضا في ازدياد اجواء التوتر العربية. وفي تلك الدورة ارتفع عدد اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني من 379 الى 466 عضوا. واقر المجلس عدد من القرارات حول حرية العمل الفلسطيني، ووحدة العمل الثوري، والعلاقات الفلسطينية ـ العربية والدولية. وقرر توحيد الالوية العسكرية التي تم تشكيلها في اطار جيش واحد وقرر ان يعرف باسم جيش التحرير الفلسطيني وان تكون له قيادة مستقلة. وفي نهاية الدورة الثالثة قام الشقيري بتشكيل اللجنة التنفيذية الثالثة وادخل تعديلات على اللجنة التنفيذية الثانية. وكان من المفروض وفقا للنظام الاساسي للمنظمة ان يعقد المجلس الوطني دورته الرابعة في اواخر ايار واوئل حزيران 1967 الا ان الظروف حالت دون ذلك. وبدلا من انعقاد المجس الوطني وقعت الحرب ووقعت الهزيمة العربية الكبرى الثانية وصار ما صار للشعب الفلسطيني ولكل الشعوب العربية. ودخلت المنطقة طورا جديدا من الصراع العربي الصهيوني.
حرب 1967 توحد الارض والشعب تحت الاحتلال
مع حلول عام 1967كانت علاقة مصر بالولايات المتحدة الامريكية قد تدهورت تماما بسبب تطور وتنامي العلاقة السوفيتية المصرية من جهة، وترسخ العلاقة الامريكية الاسرائيلية من جهة اخرى. وكانت اجزاء كبيرة من القوات المصرية تتواجد على ارض اليمن دعما لنظام عبد الله السلال. وكان العالم العربي يعيش ذروة الانقسام بين انظمة “تقدمية” واخرى “رجعية”. في تلك الفترة تصاعد التوتر بين اسرائيل وكلا من سوريا ومصر. وارتفعت وتيرة التهديدات الاسرائيلية ضد سوريا، ونقلت اكثر من جهة دولية معلومات للقيادتين السورية والمصرية بان اسرائيل تحضر لعدوان واسع ضد سوريا. وكان المسرح السياسي مهيئ لاسرائيل لتصعيد عملياتها العسكرية. وعلى أبواب حزيران 1967 أصدرت الحكومة السوفياتية في 23/5/1967 بياناً حذرت فيه من وقوع تلك الحرب، وحذرت مصر والدول العربية الاخرى من الحشودات العسكرية الاسرائيلية الكثيفة على الحدود السورية والمصرية، ونبهتها لأهدافها العدوانية التوسعية. وذكّرالبيان دول العدوان الثلاثي الى أن الشرق الأوسط مجاور للاتحاد السوفيتي ويقع على حدوده. الا انهم بذات الوقت طلبوا من مصر وسوريا ان لا يكون اي منهما هو البادىء بالحرب. وفهمت القيادتين السورية والمصرية في حينه ان الاتحاد السوفيتي سوف يتدخل بجانبهم اذا بدأت اسرائيل بالهجوم. في 12 ايار 1967 اعلن اسحق رابين رئيس اركان الجيش الاسرائيلي في تلك الفترة ” اننا سوف نشن هجوما خاطفا على سوريا وسنحتل دمشق لنسقط النظام فيها ثم نعود”. اما ليفي اشكول رئيس الوزراء الاسرائيلي في حينه فقال ” اسرائيل مستعدة لاستخدام القوة ضد سوريا”. وتوترت اجواء المنطقة وارسل الرئيس عبد الناصر رئيس اركان الجيش المصري “محمد فوزي” الى دمشق لدراسة الموقف العسكري والتشاور مع القيادة السورية. واعلن حالة الطوارىء في القوات المصرية، وحرك المشير عبد الحكيم عامر وزير الحربية المصري بعض القطعات العسكرية الاساسية بصورة استعراضية الى داخل شبه جزيرة سيناء. وظهرت صواريخ “الضافر” “والقاهر” في شوارع القاهرة. وفي 16 ايار ارسل الفريق فوزي بناء على تعليمات المشير عبد الحكيم عامر الى قائد القوات الدولية في قطاع غزة وشرم الشيخ رسالة تطلب منه سحب قواته من شرم الشيخ.
وفي 23 من الشهر نفسه اعلن الرئيس جمال عبد الناصر اغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الاسرائيلية. وفي ذلك اليوم ارسل الرئيس الامريكي جونسون رسالة تضليلية للرئيس عبد الناصر قال فيها “تعتقد حكومة الولايات المتحدة الامريكية انه من الضروري ان يتوقف الاتجاه الحالي لتعبئة القوات وحشدها على الجانبين. ولقد اخذنا بعين الاعتبار ان مصر واسرائيل تشيران الى ان تحركات قواتها المسلحة ذات اغراض دفاعية. وتستطيع حكومة الجمهورية العربية المتحدة ان تتأكد بيقين وان تعتمد على ان حكومة الولايات المتحدة تعارض معارضة صارمة اي عدوان في المنطقة، من اي نوع سواء قامت به القوات المسلحة النظامية او قوات غير نظامية.” وامعانا في التضليل اتفقت الادارة الامريكية مع الحكومة المصرية على عقد لقاء مصري امريكي رفيع المستوى يوم 7/حزيران/1967 ووجهت دعوة رسمية بذلك. وقرر عبد الناصر ان يسافر زكريا محي الدين الى واشنطن. وفي الاسبوع الاخير من شهر ايار وصل الى واشنطن وفدان اسرائيليان الاول برئاسة وزير الخارجية اباايبان والثاني برئاسة رئيس ادارة المخابرات ” الموساد” مائير اميت. واطلعا اركان الادارة الامريكية على تفاصيل خطة اسرائيل العسكرية، وعادا وهما مطمئنان تماما للدعم الامريكي. وفي 30 ايار وصل الملك حسين الى القاهرة وطلب من عبد الناصر توقيع اتفاقية للدفاع المشترك، مماثلة لتلك التي كانت بين مصر وسوريا. وخطوة الملك حسين جاءت في حينه بعد ان لمس تصعيد اللهجة العدوانية الاسرائيلية ضد الاردن وسوريا. وتيقنه من جدية تهديداتها لهما، ومن احتمالات مبادرتها بالهجوم ضد الدول العربية ومن ضمنها الاردن .
فجر الخامس من حزيران 1967 بادرت اسرائيل وبتشجيع وتواطىء امريكي الى شن حرب واسعة ضد مصر وسوريا والاردن. ونجحت في تدمير سلاح الطيران المصري بالكامل خلال وقت قصير، ونجحت خلال اقل من “سبعة ايام” في إحتلال اراضي عربية واسعة شملت كل صحراء سيناء المصرية، والضفة الغربية من الاردن، وقطاع غزة “بقية الاراضي الفلسطينية”، ومرتفعات الجولان السورية. وكانت خسائرها قليلة جدا. ومع بدء الهجوم الاسرائيلي على مصر وسوريا والضفة الغربية ونجاحه انتقل الصراع العربي الفلسطيني ـ الاسرائيلي طورا جديدا. ودخلت منطقة الشرق الاوسط مرحلة جديدة من الصراع، وتحركت رياح وعواصف الحرب الباردة بقوة باتجاهه. وتحولت ارضه الى ميدان مفتوح لصراع العملاقين ولاختبار الاسلحة والمعدات الالكترونية السوفيتية والامريكية ؟
صباح الخامس من حزيران استيقظت على اصوات الطائرات الاسرائيلية وهي تعبر اجواء مدينتنا قلقيلية القريبة من تل أبيب. اسرعت الى جهاز الراديو لاتحقق مما ادركته. فتأكدت من ان الحرب العربية الاسرائيلية المنتظرة قد بدأت. وعشت في حينه لحظات نشوة وسعادة. حيث كنت واثقا من انتصار مصر وسوريا في تلك الحرب. فكل الاذاعات العربية، وبخاصة اذاعة صوت العرب عبر صوت معلقها المشهور “احمد سعيد” كانت تهلل منذ شهور للحرب وللثأر من نكبة العرب وفلسطين عام 1948. والمعلومات التي كانت تصلنا من قيادة التنظيم الذي كنت انتمي اليه وكنت عضوا في قيادته المحلية “حركة القوميين العرب” بزعامة جورج حبش ووديع حداد”، كانت متفائلة جدا. وكانت تؤكد لنا نحن الاعضاء ان عبد الناصر قد اعد العدة اللازمة لتحرير فلسطين. وانه لن يقبل وقف الحرب قبل ضمان عودة اللاجئين الى بيوتهم وممتلكاتهم. وان القيادة المصرية تدرس موضوع العودة الى قرار التقسيم.
استمعت للحظات الى اذاعة صوت العرب، وتفاعلت بحماس مع الاغاني الحماسية التي كانت تبثها. وهللت في نفسي لوقوع الحرب لاسيما وان احمد سعيد كان يتحدث بين الوصلة والاخرى عن اسقاط عشرات الطائرات الاسرائيلية وعن تدمير عشرات الدبابات وعن تقدم القوات المصرية والسورية على الجبهتين. اسرعت بعدها مهرولا باتجاه بيوت افراد الخلية السرية المسلحة، في اطار تنظيم حركة القوميين العرب، التي كنت اتحمل مسؤولية قيادتها وتوجيه عملها. خلال تجوالي على بيوت اعضاء الخلية بدات بعض قذائف المدفعية الاسرائيلية تتساقط على المدينة “قلقيلية”. ودب الرعب في نفوس السكان خاصة بعدما سقط عدد من ابنائها شهداء وجرحى. في اللقاء مع من عثرت عليه من اعضاء الخلية كان السؤال المطروح علينا جميعنا ما العمل؟ اذ لم يكن هناك اية توجيهات من القيادة لمواجهة مثل هذا الظرف. لسبب بسيط هو ان توقيت الحرب فاجئ الجميع. وردا على السؤال طلبت من كل افراد الشبكة المسلحة برشاشات كارلو غوستاف وعددهم 12 ان يلتحق كل اثنين او ثلاثة منهم باحدى مواقع الجيش الاردني القريبة من المنازل. وان يشاركوا افراده مهمة الدفاع عن المدينة في حال تعرضها لهجوم القوات الاسرائيلية. واتفقنا على ان نلتقي في المساء لنقيم الموقف، لاسيما وان بعض افراد الخلية من المحاربين القدامى طرحوا سؤال لماذا لا ندخل اسرائيل، ونبدأ بالعمليات العسكرية التي طالما انتظرنا قرارا من القيادة بالشروع في تنفيذها؟ والارض ارضنا ونعرفها جيدا. في حينه فكرت بالموضوع للحظات، لكني آثرت التريث وقلت في نفسي لن نخسر كثيرا اذا تأخرنا في تنفيذ بعض العمليات. امكانياتنا محدودة امام امكانيات الجيوش العربية. ونحن سنكون في خنادق الجيش الاردني نهجم اذا هجم وندافع اذا دافع. في حينه تحفظ بعض أفراد الخلية على الالتحاق بمواقع الجيش الاردني خشية انكشافهم وتعرضهم للاعتقال بعد انتهاء الحرب. الا ان الموضوع حسم بسرعة واقتنع الجميع بان التطورات اكبر من هذه التفاصيل لاسيما وان الجيش الاردني شرع في توزيع ما توفر لديه من السلاح على جميع القادرين على حمله من ابناء البلدة.
عدت قبل الغروب للبيت لاتفقد أحوال الاسرة. فالقصف على المدينة صار كثيفا، وانا رجل البيت كما يقولون. والدي سافر الى عمان على ظهر شاحنة النقل التي يعمل عليها بالاجرة. موعد عودته لم يحن فرحلة نقل الخضار من قلقيلية الى عمان تستغرق في العادة ثلاثة او ارباع ايام. فمن عادة سواقين بلدنا الانتظار هناك يوم او يومين اضافيين على امل العثور على ما ينقلوه من عمان الى قلقيلية او نابلس حتى لا تعود شاحناتهم فارغة. في البيت لم اجد سوى جدتي العجوز التي عاصرت الحربين العالميتين وكل الصراعات الفلسطينية العربية الصهيونية. اصرت على البقاء في المنزل بعد ان رحلت والدتي واطفالها مع الجيران ومع الاقاراب الى خلة الزيتون في “الطبال”. وجدتي اصلا لم تكن تقوى على المشي الطويل. قالت جدتي مؤنبة ” ابوك مسافر واخوك الكبير في الكويت. انت كبير العائلة وعيب عليك ترك امك واخواتك وحدهم في الخلى. اهلك غادروا مع دار ابويحيى بدون فطور، ولم يحملوا معهم سوى ابريق ماء وقليل من الحليب للصغار. الحق بهم وخذ معك خبز وشاي وبصل وجبنة وزيتون، واذا طالت الحرب الحقوا ابوكم على عمان. الظاهر ان القصة اكبر من النكبة اترك ما يدور في رأسك والحق اهلك بعدك شاب في اول طلعتك”
قبل المساء كانت المدينة قد اصبحت شبه مهجورة فغالبية سكانها ماعدا العجزة وكبار السن، غادروا بيوتهم باتجاه المرتفعات واحراش الزيتون القريبة من المدينة، على امل العودة الي بيوتهم في المساء. الا ان رحلتهم طالت ولم يعودوا الى بيوتهم الا بعد فتر زادت عن الشهر. حيث منعت السلطات العسكرية الاسرائيلية الاهالي من العودة الى بيوتهم، وحركت الجرافات لتدمير المدينة، ومحوها من الخارطة. ولم تتوقف اعمال التجريف الا بعد تدخل امريكي مباشر. اما افراد الخلية المسلحة فتبعثروا في الارياف والقرى مع عائلاتهم. ولاحقا اتفقت مع من التقيت به ان يدفن سلاحه بعد لفه بالخرق المبللة بزيت الزيتون، ولاحقا فعلت ذات الشيء، وان يبلغوا الاخرين بذات التوجه. بعد يومين كانت الاذاعات تتناقل اخبار احتلال القوات الاسرائيلية للاغوار الاردنية، وتدميرها الطيران المصري وعبورها صحراء سيناء باتجاه قناة السويس. وصار أمل الناس ان تتقدم القوات السورية وتحتل مناطق صفد وطبريا في شمال اسرائيل. او يتدخل السوفيت لانقاذ حليفهم عبد الناصر. لكن النتيجة النهائية للحرب كانت عكس ذلك فالقوات الاسرائيلية احتلت كل صحراء سيناء واصبحت ترابط على الضفة الشرقية لقناة السويس، واحتلت مرتفعات الجولان السورية وصار بامكانها مراقبة كل التحركات السورية على الطرق المؤدية الى دمشق. واحتلت كل الضفة الغربية ويمكن القول انها انها وحدت الارض الفلسطينية ومن تبقى عليها ولكن تحت الاحتلال.
بعد ظهور نتائج الحرب اصيبت الجماهير الفلسطينية والعربية بالذهول من هول الهزيمة. اما اهل بلدتنا فكانت مصيبتهم اكبر من مصيبة الاخرين. فالطائرات والمدفعية الاسرائيلية واصلت قصفها، والجرافات الاسرائيلية تابعت هدم المنازل. وجميعهم اصبحوا مشردين في محيط القرى يبحثون عن لقمة العيش، وعن شربة الماء. وصارت حالتهم شبيهة بحالة اهل قرى كفر سابا والشيخ مونس وسيدنا علي وعرب ابو كشك وجلجولية وبقية اللاجئين الذين لجاوا لبلدتنا في هجرة عام 1948. والذين اطلقوا عليهم اهل بلدتنا لقب القرعان، لانهم حلقوا شعر رؤوس ابنائهم للنظافة “على الصفر”، على غرار قصة وحدات قوات المارينز الامريكية.
اعتراف عبد الناصر بالخطأ هل يفيد؟
يوم 9 حزيران القى الرئيس عبد الناصر بيانا للامة العربية صارحها بما حصل واعلن تحملة المسؤولية الكاملة عن الهزيمة. واعلن في الوقت ذاته تنحيه عن رئاسة الجمهورية وكلف زكريا محي الدين بتولى رئاسة الجمهورية. الا انه سرعان ما عاد عن استقالته تحت ضغط الشارع المصري والعربي الذي رفض التسليم بالهزيمة، وطالب عبد الناصر بالاستمرار في تحمل المسؤولية والثار من الاسرائيليين. ولاحقا انتحر المشير عبد الحكيم عامر وزير الدفاع المصري. وفي حينه اولى جمال عبد الناصر الوضع الاردني وبخاصة مصير الضفة الغربية المحتلة اهمية خاصة. وطلب من الملك حسين عمل الممكن والتحرك باتجاه الادارة الامريكية والدول الغربية على امل انقاذ ما يمكن انقاذه، مقدرا له مشاركته في حرب حزيران رغم ضعف القدرات العسكرية الاردنية في مواجهة اسرائيل. ومقدرا مطامع الصهيونية في الضفة الغربية وخطورة بقائها فترة طويلة تحت الاحتلال.
بعد تلك الحرب أصدر الرئيس جونسون مبادرته الشهيرة ضمت خمسة بنود: “الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود، تحقيق العدالة للاجئين، المرور البريء للملاحة في الممرات المائية، فرض قيود على سباق التسلح، والاستقلال السياسي ووحدة الاراضي للجميع. شكلت من وجهة النظر الأمريكية إطاراً لحل قضية الشرق الأوسط. ونصت في البند الخاص بالقضية الفلسطينية كما هو واضح على ضرورة حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً. وطالبت كل الأطراف ” بإنصاف اللاجئين بعدما زادت الحرب عمق مأساتهم”. وفي تلك الفترة 22 نوفمبر 1967 صدر قرار الأمم المتحدة رقم 242 ، اذي نص على: [ ان مجلس الامن : اذ يعبر عن قلقه المستمر ازاء الموقف الخطير في الشرق الاوسط، واذ يؤكد على عدم جواز الاستيلاء على الاراضي عن طريق الحرب، والحاجة الى العمل لاجل سلام عادل ودائم تستطيع كل دولة في المنطقة ان تعيش في أمن. واذ يؤكد ايضا ان جميع الدول الاعضاء عندما قبلت ميثاق الامم المتحدة قد التزمت بالتصرف وفقا للمادة الثانية من الميثاق يؤكد على:
1ـ ان تطبيق مبادئ الميثاق يتطلب اقامة سلام عادل ودائم في الشرق الاوسط، الامر الذي يجب ان يتضمن تطبيق كلا المبدأين الآتيين: (ا) انسحاب القوات المسلحة الاسرائيلية من اراض احتلت في النزاع الاخير. (ب) انهاء جميع حالات الحرب او الادعاء بها، واحترام، والاعتراف بالسيادة ووحدة الاراضي والاستقلال السياسي الخصاة بكل دولة في المنطقة وبحقها في ان تعيش في سلام في نطاق حدود آمنة ومعترف بها ومتحررة من اعمال القوة او التهديد بها.
2ـ ويؤكد المجلس ايضا ضرورة : (ا) ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية في المنطقة، (ب) التوصل الى تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين، (ج) ضمان الاستقلال السياسي لكل دول المنطقة وعدم الاعتداء على اراضيها، عن طريق اجراءات من بينها اقامة مناطق منزوعة السلاح.
3 ـ يطلب من السكرتير العام ان يعين ممثلا خاصا ليتوجة الى الشرق الاوسط لاقامة ومداومة الاتصالات مع الدو المعنية بهدف تشجيع الاتفاق والمساعدة في الجهود للتوصل الى تسوية سلمية مقبولة وفقا للنصوص ةالمبادئ الواردة في هذا القرار،
4 ـ يطلب من السكرتير العام ان يبلغ المجلس عن مدى تقدم جهود المبعوث الخاص قي اقرب وقت ممكن .]
وبصدور هذا القرار أنهى مجلس الأمن اجتماعات استغرقت 107 ساعات في 32 جلسة. وبهذا القرار، وعلى الأخص في الفقرة الثالثة منه، بدأت مرحلة مساعي الدكتور غونار يارنغ. ففي 24 تشرين الثاني 1967 وبعد يومين فقط من صدور القرار رقم 242 أعلن اوثانت الأمين العام للأمم المتحدة أنه تلقى الموافقة من حكومة اسوج على تعيين غونار يارنغ مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة، وان يارنغ نفسه وافق على المهمة. وبعد يومين من هذا التاريخ “26 تشرين الثاني” وصل المبعوث الدولي “يارنغ” إلى نيويورك، وعقد في اليوم التالي اجتماعاً مع الامين العام للامم المتحدة “اوثانت”. وتباحث في 29 من الشهر نفسه مع سفراء كل من مصر والأردن ولبنان وإسرائيل لدى المنظمة الدولية حول مهمته وسبل التحرك لتنفيذ القرار. وأحاط نشاطه بجو من التكتم الشديد. كما أجرى محادثات مع رؤساء وفود الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وفي العام 67 ذاته صدرت مبادرة أمريكية أخرى لمعالجة قضية الشرق الأوسط، تضمنت على الجانب الفلسطيني، الجملة ذاتها “حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين”.
مع بدء حرب حزيران ادان الاتحاد السوفيتي العدوان الاسرائيلي على الدول العربية. وقطع علاقته الدبلوماسية مع اسرائيل. وطالبها بالانسحاب الفوري من كل الاراضي العربية التي احتلها. وبادر إلى تبني وجهة النظر العربية في تفسير قرار الامم المتحدة 242، وأخذ بالنص الفرنسي الذي اعتمده العرب. والذي يقول “الانسحاب من الأراضي المحتلة”. ودعم جهود يارنغ. وبادر إلى إعادة تسليح كل من مصر وسوريا. وحمّل الولايات المتحدة مسؤولية تشجيع إسرائيل على العدوان. وبصرف النظر عن الاسباب التي دفعت بالسوفييت لثني الرئيس المرحوم عبد الناصر عن أخذ زمام المبادرة في حرب 1967، فالثابت أن هزيمة عبد الناصر والعرب في تلك الحرب رفعت من وتيرة الحرب الباردة في المنطقة، وفتحت الأبواب أمام السوفيات لتحقيق مزيد من التغلغل فيها. ومكنتهم من تحسين وتعزيز مواقعهم التي تواجدوا فيها بعد العدوان الثلاثي على مصر وغزة عام 1956. فبعد الحرب زار موسكو كلا من الرئيس الجزائري هواري بومدين وعبد السلام عارف، وبحثوا مع القيادة السوفيتية الموقف العسكري وضرورة اعادة تسليح الجيشين المصري والسوري، كما بحثا معهم في الموقف من مشروع القرار المطروح على الامم المتحدة بشأن معالجة ذيول الحرب. في حينه اخذ الرئيس الجزائري هواري بومدين موقفا متشددا خلاصته رفض مشاريع القرارات المعروضة عى الامم المتحدة ورفض وقف اطلاق النار على كل الجبهات ومواصلة القتالواعمتاد مبدأ حرب التحرير الشعبية والحرب طويلة النفس،.
أما الولايات المتحدة فلم تغضبها نتيجة الحرب، بل رأت فيها عقابا لجمال عبد الناصر على مواقفه الراديكالية المضادة لسياستها في المنطقة. وعقابا له على انفحتاحه الواسع في العلاقة مع السوفييت. ورفضت تثبيت جملة “الانسحاب من الأراضي التي احتلت ” بدلا من ” أراض احتلت ” التي تمسكت بها إسرائيل. وتبنت وجهة النظر الإسرائيلية كاملة والتي تقول بأن الأمور يجب أن تحل بالتفاهم بين العرب وإسرائيل في المفاوضات. لم تقدم الإدارة الأمريكية دعما حقيقيا لنشاطات المبعوث الدولي غوناريارنغ. وفي تلك الفترة توترت العلاقة العربية الامريكية اكثر فاكثر، وقطعت مصر وسوريا علاقاتهما الدبلوماسية مع امريكا. وراح كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة يرقب تفاعلات نتائج الحرب عند أهل المنطقة شعوبا وحكومات، ويحولها لحساب تعزييز مصالحه الخاصة في مواجهته الآخر.
في حينه وكرد فعل على الهزيمة المؤلمة ونتائجها المأساوية رفض الفلسطينيون بقيادة م ت ف وسوريا الأعتراف بالقرار 242 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي. واعتبراه مجحفا بالحقوق العربية والفلسطينية. وفي قمة الخرطوم التي عقدت بعد تلك الهزيمة (29/8/67 الى 1/9/67) رفعوا شعار لا صلح ولا إعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل. وتمسكوا بشعار تحرير فلسطين، وكل الأراضي العربية المحتلة، سابقا وحديثا. وواصلوا الحديث عن تدمير دولة اسرائيل. ورفعوا القيود التي فرضوها على الحركة الوطنية الفلسطينية. وراحوا يتحدثون عن حرب التحرير الشعبية، وعن تصعيد الكفاح الفلسطيني المسلح. وشجع بعضهم الاحزاب والحركات الفلسطينية السياسية على تبني الكفاح المسلح. واطلقوا العنان للفدائيين الفلسطينيين ليقوموا بما يمكن القيام به من اعمال عسكرية ضد اسرائيل. وظل الاعتراف بدولة سرائيل أحد أكبر المحرمات الفلسطينية والعربية على المستويين الشعبي والرسمي. وأصبح ذكر فلسطين واللاجئين مقرونا بظلم العالم للشعب الفلسطيني، وبجرح الكرامة القومية للشعوب العربية والأسلامية. وخلال تلك الفترة صعد نجم حركة فتح باعتبارها حركة تتبنى الكفاح المسلح. وتصالحت قيادتها مع نظام عبد الناصر، ونقلت ثقل وجودها العسكري والسياسي شبه السري من سوريا ولبنان وغزة الى الاغوار الاردنية. وراحت تمارس نشاطها العسكري بصورة علنية.