الاسس الامريكية لاحياء عملية السلام جيدة لكن تنفيذها هو الاهم
بقلم ممدوح نوفل في 12/08/1997
(2)
فور وصوله للمنطقة، شرع “دينس روس” منسق عملية السلام في الشرق الاوسط في عقد اجتماعات مكثفة مع المسؤولين الفلسطينيين والاسرائيليين للبحث في سبل احياء التنسيق الامني الجدي والفعال، بين اجهزة الامن الفلسطينية والاسرائيلية. باعتبارها المهمة الاساسية التي حددتها له وزيرة الخارجية الامريكية قبل زيارتها المرتقبة للمنطقة اواخر الشهر الجاري. وفي اللقاءات التي عقدها في رام الله مع اركان السلطة الفلسطينية، اكد روس ان اولبرايت عاقدة العزم على انقاذ عملية السلام، واخرجها من مأزقها واعطائها دفعة قوية للامام. واكد التزام الادارة الامريكية بالدفاع عن الاتفاقات التي تم التوصل لها، وبأنها لا تفصل الامن عن القضايا السياسية الاخرى، وان الشروع في معالجة الموضوع مقدمة لبحث بقية قضايا صنع السلام الاخرى. بالمقابل ابدى الجانب الفلسطيني استعداده التام لاستئناف الاجتماعات الامنية الثلاثية ـ امريكية فلسطينية اسرائيلية ـ موضحا مفهومه للامن الشامل، الذي يقوم على حفظ امن الطرفين، وان التنسيق الامني الفلسطيني الاسرائيلي يجب ان يكون جزء من عملية سلمية متكاملة، وانه لا يمكن نزع الامن من بعده السياسي، ولا فصل الامن عن السلام. ولا الفصل بين ضرورات التعاون والتنسيق الامني وضرورة الالتزام الكامل بتنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الحكومة الاسرائيلية ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. وشدد على وقف الاستيطان، وتنفيذ كل استحقاقات المرحلة الانتقالية.
ووفقا لهذا المفهوم، ووفقا لتوجهات وزيرة الخارجية الامريكية بمعالجة ازمة العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية، وازمة عملية السلام بصورة شاملة، لم يمانع الجانب الفلسطيني من استناف التنسيق الامني قبل وصول وزيرة الخارجية للمنطقة. طالما ان الاسس التي طرحتها رزمة واحدة متكاملة، وتتضمن موقفا امريكيا ايجابيا من الاستيطان السبب الرئيسي الاول في توتير العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وفي تعطل التعاون التنسيق الامني، وتتضمن ايضا التمسك بالاتفاقات الموقعة بين الطرفين والعمل على التزام كل الاطراف بتنفيذ كل نصوصها. وبالفعل شرعت اجهزة امن الطرفين في عقد اجتماعاتها بمشاركة امريكية، ويفترض لهذه الاجتماعات ان تتواصل لحين وصول السيدة اولبرايت للمنطق. ومن المشكوك فيه ان يوافق نتياهو، رغم ادعائه الحرص على تفعيل التنسيق الامني، على انضمام دول السوق الاوروبية للاجتماعات الامنية المشتركة .
بهذا التجاوب الفلسطيني السريع، يمكن القول بان الجانب الفلسطيني اعطى لدينس روس ما طلبه، وسهل عليه النجاح في مهمته التحضيرية التي قدم من اجلها. ويفترض ان تكون عقدة الامن قد حلت بصورة او اخرى، ولم يعد بامكان نتنياهو وبعض اركان الادارة الامريكية، اعتمادها كذريعة لتعطيل زيارة اولبرايت للمنطقة. فليس مفجروا سوق محنا يهودا وحدهم الذين لم يرتاحوا لتوجهات الادارة الامريكية بتفعيل دورها واحياء عملية السلام. فتنياهو واركان اليمين الاسرائيلي يشاركوهم ذات الموقف، ويقفون معهم في صف المتضررين من صنع السلام والاستقرار في المنطقة.
وكل متابع للموقف الامريكي منذ انفجار محنا يهودا وحتى الان يخرج بانطباع بان الادارة الامريكية عقدت العزم..؟ على وضع المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية على نار حامية. اما من يراجع مواقفها المعلنة فقد يخرج باستنتاج بان ادارة كلينتون بدأت تنحو ذات المنحى الحازم الذي سارت عليه ادارة بوش بيكر اواخر عهدها لحماية السلام ومعالجة المواقف المعطلة لحركتها. فهل ستنجح وزيرة الخارجية الامريكية في بعث الحياة من جديد في عملية السلام بعد ان بقيت شهور طويلة مجمدة في براد حفظ الاموات بانتظار من يشيعها رسميا الى مثواها الاخير..؟ وهل سوف تتمكن من الزام نتنياهو بتنفيذ ما لم ينفذ من الاتفاقات ؟ وهل سوف تبقى اولبرايت متمسكة بالاسس التي حددتها لانقاذ عملية السلام وبخاصة المتعلقة بالاستيطان ؟
لا ادري اذا كانت السيدة اولبرايت صانعة معجزات، ومن النوعية البشرية القادرة على احياء الاموات. الا ان الاخذ بالحكمة القائلة “الاعمال ليست بالنوايا، وتقاس بنتائجها” يوصل لاستنتاج لا يبعث على التفاؤل اطلاقا. فأي تكن تكن الحكمة السياسية والدبلوماسية التي دفعت بالسيدة اولبرايت لتاخير زيارتها للمنطقة فترة ثمانية أشهر، وللتردد والامتناع عن الدخول الشخصي والمباشر في معالجة قضاياه المعقدة، يثير الشكوك في النوايا. وحتى في حال افتراض حسن النوايا، فالواضح ان عملية القتل المتعمدة التي حصلت لعملية السلام، على يد اليمين الاسرائيلي، خلال فترة جمود الحركة الدبلوماسية الامريكية، يعقّد على وزيرة الخارجية الامريكية انجاز مهمتها التي حددتها لنفسها. ويجعلها اشبه بحالة المنقذ الذي ترك طفلا يسبح في بحر هائج وتأخرعن مساعدته ومنع الآخرون من انقاذه فلفظ انفاسه وغرق، وراح بعدها يتهم اهل الطفل بالتسبب في الوفاه، ويقوم بحركات متنوعه موهما بانه سيعيد له الحياة .
فخلال انشغال الخارجية الامريكية شهور طويلة ـ طيلة عهد اولبرايت ـ بامور دولية اخرى، واهمالها لاوضاع عملية السلام في الشرق الاوسط، تم هدر وقتا ثمينا من عمر عملية السلام. وجرت مياه كثيرة في قنوات اعداء عملية السلام والمعارضين للاتفاقات التي انبثقت عنها. وتراكمت جبال من الاشكالات الجديدة ومن العداوات بين اطراف النزاع. وتوترت العلاقات بين القيادتين السياسيتين الفلسطينية والاسرائيلية. وانقطعت علاقات الود والسلام والامن التي كانت قائمة بين الطرفين في عهد رابين وبيريز. وحلت محلها الشكوك في النوايا والاهداف، وتبادل الطرفان اتهامات من العيار الثقيل. وتكرست قناعات عند الجانب الفلسطيني قيادة وشعب بان نتنياهو يريد ليس فقط وقف مشروع السلام الشرق اوسطي عند الحدود التي وصلها، بل وايضا شطب كل الاتفاقات التي تم التوصل لها، وتدمير السلطة الفلسطينية، واعادة عقارب الزمن الفلسطيني والعربي الاسرائيلي الى عهد ما قبل مؤتمرمدريد واتفاق اوسلو، واجراءات نتنياهو فور وقوع عملية التفجير في سوق محنا يهودا في القدس دليله الاخير على ذلك.
ولا اتجنى على الادارة الامريكية اذا قلت بأنها المسؤولة اولا عن تراكم كما هائلا من التطورات السلبية في المنطقة، وفي اوضاع عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي. فقد استغل المتطرفون من الجانبين، وبخاصة على الضفة الاسرائيلية، اعداء صنع السلام، والمعارضون للاتفاقات التي تم التوصل لها تعطل عربة السلام، وتدهور العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية، وتآكل فوائد عملية السلام، وغياب الرعاية الامريكية، وفشل الوساطات الاقليمية والدولية. وتصرفوا وكأن عملية السلام قد انتهت. ونجحوا في تحسين مواقعهم، وفي الترويج لمواقفهم. وراكمو مزيد من القوى، واصبحوا اكثر قوة وتنظيم، واكبر قدرة على التعطيل والتخريب. وزرعوا كثيرا من الالغام والعبوات الناسفة على طريق السلام. واعتقد بان تفجير احداها، بصورة محكمة، في سوق محنا يهودا في القدس يوم 30/7/1997 وراح ضحيتها قرابة 200 من المدنيين الابرياء شاهد حي على ذلك. ودليل ملموس على تطور قدراتهم وامكاناتهم الفنية والتخطيطية، وأظن انهم لن يترددوا عن تفجير عبوات اخرى اذا نجحت اولبرايت في تحريك عملية السلام خطوات نوعية للامام، وايضا اذا تمادى نتنياهو في المس بالمقدسات الاسلامية اماكن ومعتقدات.
لاشك في ان الادارة الامريكية هي الجهة الدولية الوحيدة القادرة على التأثير في القرارالاسرائيلي، وذلك ليس فقط بحكم كونها القطب الاوحد في هذه المرحلة الذي يقرر فيها وجهة السياسة الدولية، بل والاهم بسبب طبيعة العلاقة التاريخية بين اسرائيل، حكومة وشعبا واحزابا، بالولايات المتحدة الامريكية. فالشارع الاسرائيلي حساس اتجاه هذه العلاقة ويتأثر بالمواقف والمصالح الامريكية ويتفاعل معها بسرعة. وكل الحكومات والاحزاب الاسرائيلية تحرص بصورة عامة على تجنب التصادم مع البيت الابيض وتسعى لكسب وده باستمرار. الا ان المشكلة لا تكمن في قدرة الولايات المتحدة على الثأثيرعلى مواقف نتنياهو بل في مدى استعداد البيت الابيض لاستخدام اوراق الضغط الكثيرة المتوفرة بين يديه.وزيارة اولبرايت للمنطقة في هذا الوقت بالذات واطروحات الادارة الامريكية عن الامن الاسرائيلي تعيد لذهن الشعب الفلسطيني صورة حالة المنطقة بعد فوز الليكود، ودوافع ونتائج التحرك الامريكي اواخر ايلول الماضي.
فالمعلوم ان ادارة الرئيس كلينتون لم تتحرك في حينه الا بعد وقوع اشتباكات مسلحة مباشرة واسعة “معركة النفق” بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، وبعد سقوط ضحايا كثيرة مدنيين وعسكريين في صفوفهما. واذا كان ذاك التحرك انتج في حينه اتفاق الخليل الذي لم يلتزم به نتنياهو، وأعاد التنسيق الامني بين الطرفين الى مجراه الطبيعي وادخلت في حينه عليه تحسينات تمثلت بمشاركة جهاز المخابرات الامريكية ال c I a ، فكل الدلائل تشير الى ان الحركة الامريكية الجديدة تتركز على أمرين فقط من الامور الاساسية التي طرحتها اولبرايت وساندها كلينتون. الاول عودة التنسيق الامني الفلسطيني الاسرائيلي الى سابق عهده دون مقابل ودون شروط مسبقة، والضغط على السلطة للقيام بمهام الامن وفقا لرؤية أجهزة الامن الاسرائيلية، وبما يرضي نتنياهو ويقنعه بجدية محاربة السلطة الفلسطينية للارهاب. والواضح ان اقناع نتنياهو اقرب للمستحيل فحبال الامن عنده طويله كحبال السحرة، اولها معروف وآخرها مجهول. تبدا بالقضاء على التطرف والارهاب وقد يكون نهايتها الطلب من الفلسطينيين تسليمه ارض الميعاد خالية من السكان.. اما الامر الثاني فلن يتعدى حدود استئناف المفاوضات حول كل القضايا دون استثناء، بدء من قضايا الحل النهائي ـ القدس المستوطنات الاجئين الحدود المياه ـ التي لا أفق لاي حلحلة او حل لها في عهد الليكود، وانتهاء بالقضايا التي اتفق عليها ولم يلتزم نتنياهو بتنفيذها، بما في ذلك تلك التي وردت في اتفاق الخليل. اي عودة التفاوض على ما تم الاتفاق علية، والتفاوض من جديد حول تنفيذ ما لم ينفذ منها. وأظن ان نتنياهو سوف يدخل في مساومات معقدة جدا قبل ان يتراجع عن قراره بوقف مستحقات السلطة من الضرائب التي تجبيها اسرائيل عن المواد المستوردة من الخارج للاسواق الفلسطينية، والتي تمثل جزءا من مهما من موازنة السلطة. اما تركيز الرئيس كلينتون واولبرايت في هذا الوقت بالذات على الشروع في مفاوضات الحل النهائي كمخرج لازمة المفاوضات، وقفزهما بصيغة واخرى عن استذكار استحقاقات المرحلة الانتقالية التي لم ينفذها نتنياهو حتى الان فهو كلام حق يراد به باطل. وحيلة دبلوماسية تضليلية مكشوفة، وبابا للتهرب الامريكي من الضغط على نتنياهو وتهريبه من دفع استحقاقات المرحلة الانتقالية. وحديث الرئيس كلينتون وحديث وزيرة خارجيته عن حق اسرائيل والاسرائيلين في الحصول امنهم والعمل على ضمانه، وتناسيهما اية اشارة الى امن الفلسطينيين الذي ينتهك كل ساعة هو البداية .
وكل من يراجع مواقف الادارة الامركية في الفترة الاولى من حكم كلينتون، وما انقضى من الفترة الثانية يخرج باستنتاج بان هذه الادارة لم تمارس اي نوع من الضغط الجدي على الحكومات الاسرائيلية، وان ضغوطها كانت تنصب دوما على الطرف الفلسطيني والاطراف العربية الاخرى. اما من يراجع تاريخ مسيرة السلام في عهد كلينتون ت اولبرايت فلا يمكنه الا ان يقول اعان الله الفلسطينيين على تحمل الضغوط الامريكية التي سيتعرضون لها خلال الاسابيع والشهور القليلة القادمة، واعانهم على تحمل العذابات التي سيتعرضون لها طيلة فترة حكم نتنياهو .