نشوء وتطور اشكالية العلاقة بين السلطة ومنظمة التحرير
بقلم ممدوح نوفل في 23/08/1997
بعد تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية في ايار 1994وعبورها الوطن، تعرضت علاقتها باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لمد وجزر. وتمر الان في حالة من عدم التوازن وتحتاج الى علاج فوري وسريع. وبديهي القول ان المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تأثرت وستظل تتأثر لفترة طويلة بصحة وسلامة هذه العلاقة وباعتلالها ايضا. فهما الجسمان القيادان للفلسطينيين داخل وخارج الوطن. واعتلال اوضاع القيادة ينعكس مباشرة على مصالح الشعب. ويفرض على الباحثين والمفكرين الحريصين على اختزال الزمن وتقليص عذابات الفلسطينيين، وان يعملوا على منع الاشكالية من التفاقم والتدهور، والحد من سلبياتها قدر المستطاع تمهيدا لمعالجة بطريقة ديمقراطية وواقعية وموضوعية مجردة من الاعتبارات الحزبية والذاتية الضيقة. تمييز العوامل الذاتية عن الموضوعية التي تسببت في خلق هذه الاشكالية، وعطلت معالجتها جذريا للان. وتمكين القيادة الفلسطينية من ادارة الصراع بفعالية اكبر وانتاجية أعلى.
وهذا البحث يركز حول انبعاث فكرة السلطة الوطنية وعودة الروح لها، وظروف تشكيلها وآلية القرارالدولي الفلسطيني الذي مكّنها من الظهور لحيزالوجود وفرض الذات بعدما تجاوزتها الحياة عشرون عاما، ويساعد في تشخيص بعض مظاهرها النافرة. وأن فهم الازمة، والاحاطة “باشكالية”علاقتها الحالية بالمنظمة، واستشفاف آفاقها المستقبلية يتطلب، كمااعتقد استرجاع رصد الاحداث والمواقف والمناقشات الداخلية التي دارت حول تشكيل السلطة وحول علاقتها بالمنظمة
مرحلة الاهداف وظهور فكرة السلطة الوطنية
بعد حرب اكتوبر 1973 ظهرت في سماء المنطقة تحركات دولية كان هدفها المعلن السعي لايجاد حلول سياسية للنزاع الفلسطيني العربي- الاسرائيلي. في حينه طرح الاتحاد السوفيتي “سابقا” وبعض القادة العرب على قيادة المنظمة فكرتين: الاولى استثمار ورقة الاعتراف بالقرارين 242و338، والثانية مرحلة الاهداف الوطنية الفلسطينية، وتمييز المباشر والمرحلي عن تاريخي والاستراتيجي، فذلك كما قالوا يساعد الفلسطينيين على المشاركة في البحث عن حلول سياسية لقضايا المنطقة. في حينه رفضت قيادة م ت ف الفكرة الاولى بالاجماع. اما الثانية فرفضها البعض ولقيت استحسانا عند آخرون، وهي اصلا كانت مطروحة بصيغة واخرى من قبل بعض المفكرين. وظهر في الساحة الفلسطينية تيار واقعي داخل “حركة فتح، الجبهة الديمقراطية، الحزب الشيوعي، والمستقلون” تبنى فكرة مرحلة الاهداف الوطنية الفلسطينية وراح يدعو لها بحماس.
بعد صراع فكري وسياسي عميق امتد قرابة عام، تخلله بعض الاستفزازات المسلحة، عزز التيار الواقعي مواقعه في الحركة الفلسطينية. وتحول من تيار يمثل الاقلية الى تيار الاغلبية. ونجح في تحويل اطروحاته الى سياسة عامة لمنظمة التحرير. لاحقا اقر المجلس الوطني الفلسطيني 1974برنامج “النقاط العشر”،عرف “ببرنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”.
في حينه اعتقدت قيادة م ت ف بان الظروف والاوضاع الدولية مهيأة لقيام السلطة الوطنية على جزء من الارض خلال وقت قصير. وتصور المعارضون دعاة “تحرير فلسطين من النهر للبحر” بان اسرائيل وامريكا سوف تقدمان للفلسطينيين “دويلة مسخ في الضفة والقطاع على طبق من ذهب” لاحقا اكدت الاحداث خطأ هذا الفكر التبسيطي. ومسار حركة التاريخ اوضح بأن “قطبي الحرب الباردة” لم يكونا جاديّن في حل صراعات المنطقة المستفحلة. ويسعيان لتوظيفها في خدمة استراتيجياتهما الدولية وتعزيز نفوذهما ومواقعهما فيها. وبينت بأن أهل المنطقة أنفسهم لم يكونوا ناضجين لحلول جدية، فلم يستطع برنامج “السلطة الوطنية” شق طريقه للحياة، ولم يرَ النور خلال فترة السبعينات والثمانينات. ونسيه أصحابه خلال الصراعات والحروب التي وقعت في لبنان، وكانوا طرفا رئيسيا فيها.
اتفاق اوسلو اقام السلطة على الارض
أواخر عام 1991 غادر الفلسطينيون والاسرائيليون، وباقي اطراف الصراع ميادين القتال، ووافقوا على مبادرة الرئيس بوش التي اطلقها في 6/آذار/1991. وتخلوا عن الفكر الحربي لحل نزاعاتهم. وتوجهوا بمساعدة دولية “امريكية بالأساس” لغرف المفاوضات في مدريد وواشنطن. وفي 18/آب/1993 توصل سرا ممثلوا م ت ف والحكومة الاسرائيلية في اوسلو لاتفاق “اعلان المبادىء حول ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية” المعروف “باتفاق اوسلو”. ومع الاعلان عن الاتفاق 8/9/1993عادت الروح لفكرة “السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”، وعاد الصراع الفلسطيني الداخلي للظهور حولها. ونص الاتفاق تحت بند هدف المفاوضات “أن هدف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ضمن عملية السلام الحالية في الشرق الاوسط هومن بين أمور أخرى، اقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية -المجلس المنتخب- للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، وتؤدي الى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الامن 242و338″. في حينه كانت الخلية الفلسطينية التي أدارت مفاوضات اوسلو بحاجة، لاعتبارات معنوية وسياسية داخلية، مقاربة نص الاتفاق حول السلطة مع نص قرار المجلس الوطني. وحاولت تثبيت “السلطة الوطنية الفلسطينية” بدلا “حكومة ذاتية انتقالية” لتقول لشعبها وللمعارضة الفلسطينية بأنها لم تخرج عن قرارات المجلس التي وافقوا عليها. لكن محاولتها جوبهت بالرفض، وثبت النص كما طرحه الجانب الاسرائيلي. وبعد اتفاق طابا وافق رابين على التسمية الفلسطينية وعلى استخدام كلمة وزارة ووزراء.
بعد توقيع اتفاق اوسلو” في حديقة البيت الابيض 13/9/93، وتمهيدا للاعلان عن تشكيل السلطة عقدت القيادة الفلسطينية سلسلة اجتماعات قاطعتها حركة حماس، وجميع القوى الفلسطينية التي عارضت الاتفاق. وقيل للمجتمعين :” في عام 1974 اتخذ المجلس الوطني الفلسطيني قرارا بتشكيل السلطة الوطنية المستقلة على أي جزء من الاراضي الفلسطينية التي يتم تحريرها. والان وبعد عشرون عاما بات بامكاننا تشكيلها”. وطرحت عدة أسئلة منها : كيف وعلى أية أسس نشكل هذا الجسم القيادي الجديد؟ هل نجعل اللجنة التنفيذية هي السلطة ونبقيها كما هي ؟ هل نضيف للتنفيذية عددا من قيادات الداخل؟ وكيف نضيفهم بدون عقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني؟ هل نشكل السلطة من خارج التنفيذية ونحافظ على تنفيذية المنظمة كمرجعية ؟ وما هو دور المنظمة بعد قيام السلطة؟ وكيف نحل التعارض القادم بين الجسمين؟ وهل نحافظ على ثقل رئيس اللجنة التنفيذية خارج السلطة أم نزجه فيها؟ واظن ان هذه الاسئلة وسواها بحاجة للنقاش من جديد في ضوء التجربة العملية،وتفاقم الاشكالية بين المنظمة والسلطة.
خلال النقاش ابدى البعض تخوفه على دور ووجود المنظمة بعد تشكيل السلطة. وأكد الجميع اهمية المحافظة على مكانة المنظمة ككيان سياسي وكمؤسسة، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين داخل وخارج الارض المحتلة. وأجمعوا على ان السلطة ليست بديلة للمنظمة، وبعد انتخابها ستكون ممثلة لسكان الضفة والقطاع فقط ولفترة زمنية انتقالية، حددها الاتفاق خمس سنوات فقط، ومهامها محصورة في ادارة الوظائف والمجالات التي نص عليها الاتفاق فقط. واتفاق اوسلو بالكاد عالج اوضاع غزة واريحا، والقضايا الاساسية مؤجلة لمفاوضات المرحلة النهائية. والمنظمة هي السلطة العليا لكل الشعب الفلسطيني، لها مكاتب تمثيلية وسفارات وسفراء معتمدين في معظم دول العالم لا يحق للسلطة الحاقها بها. في سياق البحث والنقاش طرحت آراء أخرى منها: أن تكون من قيادات الداخل فقط، لا يدخلها أعضاء التنفيذية، نشكلها من التنفيذية أساسا مع اضافات محدودة من الداخل، نشكلها من التكنوقراط والكفاءات والاخصائيين، غير سياسية. أصوات قليلة دعت لتفويض رئيس اللجنة التنفيذية بتشكيلها وفقا لما يراه مناسبا. وكان واضحا ان الحاضرين من التنفيذية ضد الفصل بين الجسمين، ومع تشكيلها من التنفيذية كاساس، وان يستكمل عددها بشخصيات من الداخل، وأن يكون ابوعمار بصفته رئيس التنفيذية رئيسا لها.
وبالمقابل برز اتجاه آخر من الداخل ومن المستقلين دعى لفصل تشكيل والمهام الجسمين عب بعضهما. وشددوا على ضرورة تقليص عدد أعضاء التنفيذية في السلطة، إذا كان لابد من مشاركتهم فيها، وان لايكون ابوعمار من ضمنهم، ويحافظ على ثقله السياسي والمعنوي في إطار م ت ف باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب. وكان واضحا ان المستقلين من الداخل هم الأكثر جرأة في نقد الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وفي تشخيص الأمراض التي تنخر جسم القيادة الفلسطينية ومؤسساتها. حيث اكثروا الحديث عن مضار الفئوية والفصائلية في العمل الفلسطيني، وأظهروا مخاطر سحبها على تشكيلة السلطة. وذكّروا بما فعلته هذه الظواهر المرضية في الانتفاضة. وقالوا: التفرد بالقرار يتعارض مع الديمقراطية، والفئوية تتعارض مع الوحدة الوطنية ومع الديمقراطية. ومرحلة الدولة تختلف عن مرحلة الثورة .
في نهاية المناقشات تقرر تشكيل لجنة مصغرة من الاتجاهات السياسية التي برزت في الاجتماع. كلفت رفع توصيات محددة للقيادة الفلسطينية. بتاريخ 2/10/93 رفعت اللجنة 13 توصية اساسية. وعلق اعضائها على مصير توصياتهم:”نعرف بان مصيرها لن يكون احسن من مصير قرارات المجلس الوطني وباقي الهيئات القيادية التي تتبخر عادة بعد صدورها”. ونصت توصياتها على: 1) يتم تشكيلها من الداخل والخارج. على اساس الكفائة والاختصاص، وتكون التنفيذية مرجعيتها السياسية والتنظيمية في كل المراحل .2) أن تكون انتقالية لحين الانتخابات، وتنفيذية للوظائف المحددة لها، والشاملة لكل المجالات( الامن الصحة، التعليم، الصناعة، الزراعة، المالية…الخ) باستثناء الدفاع والخارجية. وتبقى هاتان الوظيفتان مرتبطتان بتنفيذية المنظمة. 3) أن يسمى هذا الجسم الجديد (السلطة الوطنية) وعدم التعامل مع الاسم الإسرائيلي الوارد في الاتفاق (سلطة مجلس الحكم الذاتي الانتقالي المؤقت ). تمتد سلطاتها على كل الاراضي الفلسطينية التي سيتم الانسحاب منها. 4) بقاء كيانية م ت ف وتنفيذيتها بارزة، وتأكيد دورها في كل المراحل وكل مجالات العمل. أما بشأن مشاركة أعضاء التنفيذية في السلطة فقد انقسمت اللجنة ورفعت للقيادة رأيين: الأول “الأكثرية” أن يبقى الثقل الرئيسي للتنفيذية خارج السلطة ويدخلها عدد محدود واقل الممكن، لا يزيد عن ثلث أعضاء السلطة. أما الثاني “الأقلية” فقد دعى لعدم دخول أي عضو من التنفيذية في السلطة، وان يقتصر تشكيلها على التكنوقراط الفلسطيني، المعروفين بولائهم المطلق للمنظمة وبنزاهتهم ويتمتعون بسمعة شعبية طيبة. 6) وضع خطة عمل للسلطة وللجنة التنفيذية للفترة الانتقالية تعرضا على المجلس المركزي للمصادقة عليهما في اول اجتماع له.
خلال مناقشة التوصيات أبدى معظم أعضاء التنفيذية عدم ارتياحهم، للتوصية التي تقول بالفصل الكامل بين اللجنة التنفيذية والسلطة الوطنية.، ودافعوا عن مشاركة التنفيذية في السلطة وضرورة أن يترأسها ابوعمار. وانتهت اجتماعات القيادة في حينه دون اتخاذ قرار محدد. ولخص رئيسها حصيلة المناقشات بالقول: “القرار من صلاحيات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، ومعنا الوقت لمزيد من المشاورات والاتصالات مع إخواننا العرب وبعض الأصدقاء. و كان واضحا للعارفين بدواخل البيت الفلسطيني ان ابوعمار يريد تأجيل تشكيل السلطة ريثما يتأكد من التزام اسرائيل بالاتفاقات، ولابقائها ورقة بيدة يستخدمها مع اكثر من طرف فلسطيني ودولي وفي اكثرمن اتجاه.
عشية انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني عقدت اللجنة التنفيذية يوم 9/10/93 اجتماعا ناقشت فيها موضوع تشكيل السلطة، وبقية القضايا. وأقرت الدفع في المجلس المركزي باتجاه تشكيل السلطة من الداخل والخارج، وتكون سياسية ويترأسها ابوعمار، ويشارك فيها أعضاء من اللجنة التنفيذية لم يحدد عددهم. يوم 10 /10/93 بدا المجلس المركزي دورة أعماله بحضور 83 عضوا من أصل 110 أعضاء شارك فيها عدد كبير من المدعوين بلغ عددهم ما يقارب ضعفي عدد أعضاء المجلس. جاءوا من مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بما في ذلك إسرائيل. ورغم كثرة النقاط المدرجة على جدول الأعمال، إلا أن الجميع عاملين ومراقبين كانوا يدركون بأن المجلس المركزي مدعو لإقرارنقطتين أساسيتين: الأولى الموافقة على اتفاق اوسلو، والثانية اتخاذ قرار تشكيل السلطة الوطنية. في المناقشات أبدى عدد من الأعضاء وبخاصة المستقلين تخوفا حقيقيا على مصير المنظمة بعد تشكيل السلطة. وبرز في المجلس عدة اتجاهات. بعد ومناقشات استغرقت يومين كاملين، صوت أعضاء المجلس على اتفاق إعلان المبادئ أمام وسائل الاعلام. وكانت النتيجة 63مع ، 8 ضده، 9 ممتنع، وخرج ثلاثة عند التصويت. بعد المصادقة على الاتفاق وافق المجلس بأغلبية 68 على “إقامة السلطة الوطنية على كل الأراضي التي ينسحب عنها الاحتلال. ويفوض المجلس اللجنة التنفيذية وفقا لقرار المجلس المجلس الوطني تشكيل هذه السلطة من الداخل والخارج وتكون م ت ف مرجعيتها، ويترأسها رئيس اللجنة التنفيذية”.
في حينه لم يتعجل ابوعمار في تشكيل السلطة ورغب الاعلان عن تشكيلها على ارض الوطن. وأخّر قراره إلى ما بعد توقيع بروتوكولات القاهرة في أيار 1994. ولم يعلن اسماء اعضائها الا بعد اصرار اسرائيل على تسلم الاسماء قبل دخول الدفعة الاولى من افراد الشرطة. وسلمها لاحقاعلى دفعات، وحينها تهالك بعض أعضاء التنفيذية على دخولها، وفضل آخرون الانتظار.
الاشكالية لها وجهان موضوعي وذاتي
نظريا كان الخلاف في القيادة الفلسطينية يدور حول افضل صيغ وأسس وأشكال بناء السلطة الوطنية، إلا أنه واقعيا كان يخفي صراعا على السلطة والمواقع الشخصية والتنظيمية. فالكل كان يدرك أن انتقال مركز ثقل الحركة والنشاط السياسي من الداخل للخرج يعني تراجع دور المنظمة. وقيام السلطة الوطنية وترؤس ابوعمار لها يعني انتقال ثقل القرار الفلسطيني لهذه الهيئة، توليها قيادة العمل الفلسطيني، لاسيما وان العالم سيرمي بثقله لصالح تكريس دور الجسم الجديد. في حينه بشر البعض بانتهاء المنظمة من الناحية العملية، وقالوا “دعونا نحضّر في غزة واريحا مراسم التشييع” ولا نظلم أحدا إذا قلنا بأن تشكيل السلطة تم على ذات الأسس التي بنيت عليها تنفيذية المنظمة. فالتدقيق في أسماء وانتماءات أعضاء السلطة الاولى والثانية، يبين طغيان الفصائلية والاعتبارات الحزبية والسياسة على أسس تشكيلها. وتكاد تكون من لون سياسي واحد، واقرب إلى سلطة الحزب الواحد. مليئة بالسياسيين وناقصة أخصائيين وخبراء في شتى مجالات العمل المنوطة بها. وهذا التوجه مثل من البداية عنصرا من عناصر الاشكالية، وضيق الى حد ما قاعدتها الشعبية. ومع تشكيل السلطة الوطنية وتواجدها على ارض غزة أريحا وتوليها عددا محدودا من المجالات في الضفة والقطاع دخلت علاقتها مع المنظمة حيزها الرسمي والعملي الملموس، ونمت بذور المشكلات على السطح العلاقة. ولعل ميلاد هذه العلاقة بصورة غير طبيعية “قيسرية” وترعرعها في ظل أجواء ومأزومة داخليا وخارجيا ساهم في تغذيتها وتواصل نموها. اما عدم توضيح الرؤية الفلسطينية للعلاقة بين الجسمين وبقائها ملتبسة فقد اضعف الوضع المعنوي للمنظمة، وأثار تساؤلات شعبية وفصائلية عن مصيرها.
لاشك في أن الفكر السياسي الفلسطيني، وكل الحركة الفلسطينية، واجهت منذ اوسلو، وتشكيل السلطة معضلات فكرية وتنظيمية موضوعية كثيرة ومتنوعة، ومسائل لها ابعادها الفصائلية، اشير لبعضها اعلاه، بعضها خطير لا يمكن تجاهله عند بحث الاشكالية القائمة منها:
1) نشوء تناقض حقيقي بين التزام المنظمة التحرير والسلطة بالاتفاقات الموقعة مع الحكومة الإسرائيلية، وبين قدرة المنظمة، بأسسها واهدافها ومهامها الاساسية الاستمرار كإطار قيادي يلتزم بموجب الميثاق “قبل الغائه” بتنظيم المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وقيادة النضال الوطني حتى العودة وبناء الدولة المستقلة، في وقت تلزم الاتفاقات المنظمة والسلطة بالتزامات تحد من حركتها باتجاه هذه المهمات. وبوقف التعبئة والحملات العدائية ضد إسرائيل، والحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنات والمستوطنين، ووقف العنف بكل أنواعه، ومعاقبة كل الأفراد والجماعات الذين يمارسونه..الخ في وقت لم تقدم الاتفاقات التي تم التوصل لها حلولا مرضية لأي من تجمعات وقطاعات الشعب الفلسطيني.
2) في دورة غزة “ربيع 1996″ شطب المجلس الوطني بنود الميثاق المتعارضة مع الاتفاقات والتي كانت تتحدث عن الكفاح المسلح اسلوبا للتحرير، وبقيت المنظمة للان بدون ميثاق. وشطب تلك البنود لم يحظى باجماع قوى المنظمة او هي خارجها، ولم يستفتى الشعب حول الموضوع. صحيح ان ميثاق المنظمة هرم وشاخ قبل الغائه، وكان بحاجة لتطوير منذ زمن، ووصفه ابوعمار قبل سنوت “بالكادوك”، الا ان بقاء المنظمة دون ميثاق يجعلها اشبه بباخرة تبحر في بحر هائج دون بوصلة تحدد لها اتجاه حركتها. ويخطئ من يعتقد بأن تسريع تمويت المنظمة يمنح الحياة للسلطة ويطيل عمرها، ويعزز مكانتها، ويسرع تحويلها لبديل مقبول. فانتفاء مبرر وجود المنظمة رهن بقيام الدولة المستقلة وليس السلطة، فهي للآن وطن اللاجئين.. وبعد الدولة يمكنها القيام بدور ما شبيه بدور المؤتمر اليهودي العالمي مثلا.
3) صحيح ان مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت، الا ان الاتفاقات ومسيرة المفاوضات لم تعالج قضايا “اللاجئين، القدس، الحدود، النازحين، المستوطنين والمستوطنات، المياه، ومستقبل العلاقات..الخ. وصعود الليكود للسلطة ومواصلة رفضه الالتزام عمليا بأسس السلام العادل وبالاتفاقات التي انبثقت عنها. وهذه االمعادلة تنعش ليس فقط القوى والافكارالمتطرفة، بل وتحيى الافكار والدوفع التي وقفت خلف تأسيس م ت ف، وقد تدفع بقطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين، يوما ما، الى ادارة الظهر للمنظمة التي نعرفها، اذا لم تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار ولم تعالج الحلول السياسية قضاياهم بصورة مرضية. وقد يتوجهون للبحث ولو “بعد زمن “عن صيغة بديلة يعبرون فيها عن انفسهم وعن تطلعاتهم، ويتحركون من خلالها لاستعادة حقوقه المغتصبة.
4) يستطيع كل مراقب محايد لتطور العلاقة بين الجسمين القول بان السلطة الوطنية نمت على حساب دور ووجود منظمة التحرير، وحلت في كثير من الاعمال والمهام الداخلية والخارجية محلها والشواهد على ذلك كثيرة ولا داعي لسردها. واي تكن الدوافع والأسباب الذاتية التي تدفع الآن بالعديد من القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار المنظمة، واستذكار لجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي، والإصرارعلى إحياء دورها القيادي بعد ان غيب اسمها ودورها قرابة 3 سنوات. فالثابت أن تدهور واهتراء أوضاع المنظمة وشلها عن الحركة وتعطيل عمل مؤسساتها اضعف السلطة في نظر الشعب الفلسطيني ونظر القوى الصديقة ولم يقويها في مواجهة الإسرائيليين. وافقدها مرجعيتها، وفقدت الجهة المعنية عن مسائلتها ومحاسبتها دوريا. اعتقد بأن اظهار دور السلطة وتطويره كاطار قيادي يصب في صالح النضال الفلسطيني العام، ويخدم هدف بناء الدولة المستقلة على الارض الفلسطينية، ويضع اللبنات الاساسية لعبور مرحلة التحول من حالة الثورة لحالة الدولة، الا ان الاستعجال في تمويت المنظمة يلحق اضرارا بوحدة الشعب ويعرضها للانقسام بين داخل وخارج. ويفقد حركة النضال الفلسطيني لاستكمال انتزاع الحقوق المشروعة الاطار الموحد للطاقات الشعبية، في وقت هي في امس الحاجة له. فالسلطة لا يمكنها ان تكون بيتا يتسع لجميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية الفلسطينية اقله خلال المرحلة الانتقالية. ولايمكنها ايضا ان تكون اطارا قادرا على تعبأة طاقات الشعب داخل الوطن وخارجه وتفعيلها في مواجهة الاحتلال. فلا الاتفاقات تسمح لها بذلك، ولا هي وكاطار وكوزراء قادرين على ذلك. فلديهم من “الخروب سدة ملانة” ومن العمل الوزاري ما يزيد عن طاقاتهم…ومسار المفاوضات وتلاعب اسرائيل بالاتفاقات، لم يشجع الشعب اعتماد السلطة الوطنية كبديل او كوريث كامل للمنظمة يعتمد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى والاساسية.
5) اكدت التجربة بان دمج مؤسسات المنظمة بمؤسسات السلطة لم يفعل دور هيئات الجسمين. وبصرف النظر عن خلفية الفكرية والسياسية والتنظيمية التي قادت الى دمج هيئات الجسمين، فالعمل ثلاث سنوات بهذه الصيغة بينت أن دخول أعضاء التنفيذية في الوزارة لم يكن مصدر تنشيط وتفعيل لدور السلطة بمقدار ما كان مصدر ارباك لها وتهميش وإضعاف لدور اللجنة التنفيذية. ناهيك عن كونه أبقى العديد من المهام الوطنية الكبرى مهملة ولم تجد من يهتم بها ويتابعها. وذات الشيء ينطبق على الغاء اجتماعات اللجنة التنفيذية ودمجها هي والوفد المفاوض والسلطة “الوزارة” في اطار واحد سمي”الاجتماع الدوري للقيادة الفلسطينية”. اما استيعاب الكوادر القيادية الاولى للمنظمات والاتحادات الشعبية والسفارات في وظائف رسمية في مختلف اجهزة السلطة، مع احتفاظهم بماهمهم السابقة، فالواضح انه اضعفها وحولها الى هياكل خاوية، والحق اضرارا واسعة بمهمة تفعيل هذه القواعد الشعبية في الدفاع عن قضايا جمهورها وعن السلطة والمنظمة. ورحم الله ايام التحركات الطلابية والعمالية الفلسطينية في العالمين الغربي والعربي خلال فترة حصار بيروت، واثناء “الزنقات” الكثيرة التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية.
اعتقد ان القيادة الفلسطينية اخطأت حين اعتقدت بان الاتفاقات ستفرز تدريجيا انتهاء دور المنظمة. وان السلطة هي بديلها ووريثها. وعندما اعتقدت بأن التعجيل في تسليم الورثة والراية للسطة يساعد في خلق البديل وتأهيله لتولي دفة قيادة الشعب الفلسطيني كله،على غرار ما فعل بن غوريون بالوكالة اليهودية بعد قيام دولة اسرائيل. صحيح انه منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن لم يصدر تصريح رسمي أو شخصي من أي مسؤول فلسطيني او هيئة قيادية فلسطينية يمس وجود م ت ف أو ينتقص من دور أي من هيئاتها التشريعية أو التنفيذية. إلا أن “الاعمال ليست بالنيات” ومن يدقق في الاوضاع القيادية للمنظمة، وفي حالة مؤسساتها التشريعية والتنفيذية وبأوضاع المنظمات والاتحادات الشعبية منذ اتفاق اوسلو، يخرج بانطباع بان القيادة الفلسطينية، وقعت في اوهام حول عملية السلام، وتصورت انها ستسير في خط مستقيم، واعتقدت بان لم يعد هناك حاجة وطنية لتفعيل المؤسسات القيادة والوسيطة للمنظمة.
لا شك في ان استمرار الاشكالية القائمة بين المنظمة والسلطة سوف يعجل في وفاة منظمة التحرير، وعندها لن يكون العالم حريصا على بقاء م ت ف على قيد الحياة، كما لن يكون بحاجة لترسيم الوفاة ليسير خلف جنازتها. وأظن “ولو ان اغلب الظن اثم” بان لا احد من اللاجئين او النازحين او من مناضلي م ت ف مدنيين وعسكريين احياء او شهداء سيتقدم في الدنيا او الآخرة لتقديم العزاء الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية.
المراجع: محاضر اجتماعات المجلس المركزي
• محاضر اجتماعات القيادة الفلسطينية
• كتاب الانقلاب ـ دار الشرق /عمان
• كتاب قصة اتفاق واسلو (طبخة اوسلو)/ الاهلية للنشر
• مذكرات شخصية .