بانتظار اللقاءات العربية الامريكية في واشنطن ونيويورك

بقلم ممدوح نوفل في 16/09/1997

ما العمل بعد زيارة اولبرايت للمنطقة

بعد طول انتظار جاءت الوزيرة اولبرايت للمنطقة، ومكثت فيها اسبوعا كاملا. التقت خلاله مع زعماء المنطقة. والقت على مسامعهم عددا من النصائح والارشادات وذكرتهم بواجباتهم وطالبتهم تنفيذها. وغادرت دون ان تترك بصماتها على حالة عملية السلام المنهارة ولا على الاوضاع المتفجرة. ويسجل لها انها التقت مع عدد من الاطفال الفلسطينين والاسرائيلين، وخاطبت الشعبين مباشرة وقالت صراحة ما عندها. وما قالته لا يتعدى جملة من المبادئ العامة حول التعايش والسلام تنقصها آليات التنفيذ، لا تسمن ولا تغني من جوع الممنوعين معن العمل، ولا توقف نزف الدماء، ولا دموع ذوي الضحايا الابرياء، وتصلح للحفظ في أرشيف تاريخ المنطقة. ويسجل لها ايضا بانها اكتفت بعرض رؤيتها لحل المسائل المختلف حولها بكثير من الوضوح وقليل من التوازن. طالبت بلغة حازمة الطرف الفلسطيني، الضعيف المعتدى عليه، الصمت عن حقوقه لحين قيامه بعدد كبير من الخطوات الداخلية والامنية العملية المحددة. بعضها يمس الكرامة، ويفتح شهية نتنياهو على توسيع قائمة مطالبه وزيادة عدد شروطه، والاستمرار في محاولات املاء مواقفه على الفلسطينيين بما في ذلك التدخل في صياغة مواقف السلطة وصياغة علاقاتها الوطنية الداخلية. اما الطرف الاسرائيلي الجاني والمعتدي فطالبته بنعومة وخجل شديدين عدم القيام ببعض الخطوات الاستفزازية الاضافية وبالتراجع عن خطوات لا مبرر لها وتندرج في خانة الانتقام من الشعب الفلسطيني. وختمت رحلتها بالقول بانها غير راضية عن النتائج البسيطة التي حققتها. وترجمت موقفها بقرار انفعالي خلاصته “عدم العودة للمنطقة اذا لم يتخذ قادتها قرارات صعبة” ولم تقل لنا من الذي أغضبها..وكأن نتنياهو وشارون وهنغبي وايتان سيرتعبون من “حردها” سيتراجعون عن مواقفهم المدمرة لعملية السلام وسيذرفون الدموع شوقا لرؤيتها اذا طالت غيبتها..!
فهل قررت اولبرايت نفض يدها لفترة جديدة من الملف الفلسطيني الاسرائيلي، بعد ان فشلت في اعادة الثقة المفقودة بين الطرفين، ولم تنجح في انتزاع موافقتهما على استئناف المفاوضات؟ وهل قررت الوزيرة اعادة ملف المفاوضات السورية الاسرائيلية مرة أخرى للحفظ في الارشيف، كما كان على امتداد فترة حكم نتنياهو؟ وترك الاطراف تدمر بعضها بعد ان اكتشفت بأن بحور الشرق الاوسط وتلطخ وتشوه كل من يقترب منها، وآثرت التريث ريثما تكسر امواجها الهائجة بعضها بعضا؟ أم انها عادت لبلادها وهي واثقة من ان قادة المنطقة لا يتحملون غضبها وسيتخذون آجلا اوعاجلا القرارات الصعبة التي طالبتهم بها ؟
يعتقد البعض ان من المبكر اطلاق احكام نهائية بشأن نتائج زيارة الوزيرة اولبرايت للمنطقة، ويطالبون عدم اعطاء اجابات حاسمة على الاسئلة التي اثارتها. فالتصريحاتها العلنية، وما اتفقت عليه مع الفلسطينيين والاسرائيليين والسوريين في الغرف المغلقة تشير الى ان مهمتها لم تنتهي، وانها عاقدة العزم على متابعة جهودها ولكن بأسلوب يختلف عن اسلوب سلفيها الوزيرين، كريستوفر وبيكر، اللذين علاجا الازمات التي مرت بها عملية السلام من خلال تكثيف الزيارات، والقيام بجولات مكوكية بين تل ابيب والعواصم العربية. اعتقد بان التلخيص الموضوعي لمجمل ما قالته وقامت به السيدة اولبرايت يقول بانها استطلعت الحدود الدنيا والقصوى لمواقف الاطراف، وتركت الباب مفتوحا على كل الاحتمالات. وهذا الاستخلاص يعطي لكلا الطرفين المتشائمين والمتفائلين الحق في التمسك بوجهة نظرة بضعة اسابيع قليلة. فالسيدة اولبرايت لم تقل كلمتها الاخيرة، ولم تعلن انتهاء مهمتها. قالت بانها غير راضية عما سمعته من الاطراف. وبدلا من المكوث في المنطقة فترة أطول، وتكليف نفسها مشقة القيام بجولات مكوكية لاستكمال مهمتها، آثرت الجلوس معهم من جديد كل على انفراد في واشنطن ونيويورك. واتفقت مع الفلسطينيين والاسرائيليين والسوريين على ارسال ممثلين رفعي المستوى الى واشنطن قبل نهاية الشهر الجاري لاستكمال المباحثات. وأعطتهم فرصة قصيرة لدراسة افكارها قبل اعطاء اجابات نهائية. ومنحت نفسها فرصة لمناقشة ما سمعته في المنطقة وما استخلصته مع اركان الادارة الامريكية، ومراقبة من بعيد تفاعلات اطروحاتها عند مختلف الاطراف. لم تقل ما ستفعل اذا لم يتخذ القادة قرارات صعبة ولم يعدلوا مواقفهم. لكنها مارست ضغوطها عليهم بنسب متفاوته. وانذرتهم بان عليهم تعديل مواقفهم قبل وصولهم امريكا. وطالبتهم بموائمة مواقفهم مع اطروحاتها قبل ان تقول كلمتها النهائية وتقرر ما ستفعل. وألمحت بانها لن تحزن كثيرا اذا استمروا في تصلبهم ودمروا بعضهم بعضا كما فعل اهل البوسنة والهرسك.
اعتقد بان الاسابيع القليلة القادمة حاسمة ستتحدد الادارة الامريكية خلالها توجهاتها وخطواتها العملية من مواقف اطراف الصراع. وبالتالي تقرير حالة عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي لفترة طويلة، وتحديد طبيعة الوجهة التي ستسير فيها العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية والسورية الاسرائيلية. واذا كان لا خلاف بين العرب على ان الادارة الامريكية الحالية كانت وستبقى منحازة لجانب اسرائيل لاعتبارات كثيرة، وان الوزيرة اولبرايت استخدمت معيارين في التعامل مواقف العرب والاسرائيليين، فاني اعتقد بان الموقع الدولي المقرر للادارة الامريكية، تفرض على الفلسطينيين والعرب معالجة الموقف الامريكي الداعم والمنحاز لاسرائيل ببراجماتية سياسية شديدة، تنطلق من فهم دقيق لموازين القوى الدولية والاقليمية في هذه المرحلة، وليس من منطلقات ايدلوجية مبدئية تستند للقناعة الذاتية بعدالة القضية والحقوق ووضوح الظلم..الخ ومن المفيد لهم رؤية عدم تطابق المواقف الامريكية والاسرائيلية حول عدد من القضايا السياسية التي تناولتها المباحثات. فزيارة اولبرايت اكدت انحياز ادارة الرئيس كلينتون لاسرائيل بشكل واسع وكبير، لكنه ليس مطلق، ولا يمكنها مجاراة كل مواقف نتنياهو المتطرفة، ولا قدرة لها على تأييد، بشكل مفضوح، كل ما يريد ان يفعله بعملية السلام. صحيح ان وزيرة الخارجية الامريكية دعمت بقوة مطالب نتنياهو المتعلقة بالامن، وبالغت في الضغط على الفلسطينيين من اجل تلبيتها، وقالت لهم بان حركة حماس هي عدوكم الرئيسي..الخ. الا انها رفضت دعم رغباته في تغيير اسس وقواعد عملية السلام، واكدت من جديد تمسكها بالاساسي منها وخاصة بمبدأ الارض مقابل السلام. ورفضت التجاوب مع توجهاته نحو شطب الاتفاقات الموقعة بين الطرفين وعدم تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية وطالبته بتنفيذها. ورفضت مسايرته في موضوع الاستيطان، حين قالت لا يجوز لاي طرف ان يقوم باجراءات من جانب واحد تؤثر سلفا على نتنائج مفاوضات الحل النهائي، وطالبته بتجميدة ولو مؤقتا ولفترة قصيرة. ورفضت تلبية رغبته في اغلاق ملف المرحلة الانتقالية والدخول مباشرة في مفاوضات حول قضتيا الحل النهائي، واكدت ضرورة متابعة المفاوضات على مسارين في وقت واحد الاول يخصص لقضايا الحل النهائي والاخر للمرحلة الانتقالية.
ويفترض ان لا يكون هناك خلاف عربي على ان ايدلوجية ومصالح اطراف الائتلاف الحاكم في اسرائيل تحول دون سيادة العقلانية والواقعية في سياسة الحكومة الاسرائيلية. فهي تعتقد ان بامكانها، بالاستناد لميوعة الموقف الامريكي المضمونة، الصمود في مواجهة الضغوط الخارجية. وتراهن على ان العرب لا يثبتون على موقف وانهم غدا يوافقون على ما يرفضوه اليوم. وان باستطاعة اسرائيل بقوتها العسكرية لجم مواقف العرب اذا حاولوا التمرد على هذه القاعدة. ويخطئ من يتوهم بان رسل نتنياهو سوف يتوجهون لواشنطن ونيويورك في الايام القادمة وفي نيتهم التراجع عن جوهر المواقف التي سمعتها اولبرايت من نتنياهو في القدس، وبخاصة المتعلقة بتجميد الاستيطان فترة طويلة، وباعادة الانتشار وتأجيل الانسحاب من الريف الفلسطيني وربطة بمفاوضات الحل النهائي، ورفض استئناف المفاوضات على المسار السوري الاسرائيلي من حيث توقفت، ويعتقدون ان بامكانهم الالتفاف حول الموضوع عبر لبنان. وأظن انهم سيذهبون ومعهم اكثر من مشروع، بما في ذلك طلب موافقة الادارة الامريكية على قيام الجيش الاسرائيلي بعمل عسكري واسع في لبنان، متذرعين بعدم قدرتهم على الاستمرار في تحمل الخسائر الكبيرة التي تلحق بهم في جنوبه. ينتهي كما يتصورون بفصل المسار اللبناني عن السوري، وخروج الجيش الاسرائلي من الجنوب بعد فرض ترتيبات عسكرية وامنية كفيلة بحفظ سلامة المدن والقرى الاسرائيلية في الجليل.
لا شك في ان تعتنت نتنياهو احرج الى حد ما مواقف الوزيرة اولبرايت اثناء لقاءاتها مع الاطراف العربية. ويتسبب في احراج مواقف الادارة الامريكية في الامم المتحدة وفي علاقاتها مع حلفائها الاوروبيين. وأظن بان ما سيحمله المبعوثين الاسرائيليين لواشنطن سيزيد من هذا الاحراج. وستجد الادارة الامريكية نفسها اما احد خيارين: اما ممارسة ضغوط جدية على نتنياهو، كما طلب وايزمن رئيس دولته، او ترك الازمة تأخذ مداها الكامل بما في ذلك تفجير عملية السلام وانفجار الاوضاع في المنطقة على نطاق واسع.
ولعل من المفيد للفلسطينيين والعرب عند تحديد الاستخلاصات من زيارة اولبرايت للمنطقة، وقبل ذهاب وفودهم لواشنطن ونيويورك ان يوحدوا مواقفهم كما وحدوها خلال وجدودها في المنطقة. وان يتذكروا بأن مواقف وزيرة الخارجية الامريكية كانت وما زالت محكومة لعوامل امريكية داخلية، وبموازين القوى بين اطراف الصراع وليس بمبادئ العدل وحقوق الانسان. وبانها كانت تتحدث في رام الله والقاهرة ودمشق والرياض وعمان للصحافة حول قضايا المنطقة وعينها الاولى تتجه نحو الكميرات المسلطة عليها اما الثانية فكانت تتجه نحو مواقف الكونغرس واللوبي الصهيوني الامريكي. كان جسمها في المنطقة لكن ذهنها كان يتركز حول ما ستواجهه وما ستسمعه عندما تعود لبلادها وتقابل انصار اسرائيل. واظن بان الوفود العربية ستسمع في لقاءاتها القادمة في واشنطن ونيويورك نصائح وارشادات جديدة وقد تكون مقرونة بضغوط مباشرة مع اطروحات نتنياهو، والقبول بالفتات الذي سيقدمه لهم. وقد تكون مغلفة باعتذارات عن عدم قدرة الادارة الامريكية على ممارسة ضغوط كبيرة على حكومة نتنياهو. وسوف يضاف كلام امريكي مبالغ فيه عن ردود فعل اللوبي الامريكي المساند لاسرائيل. وقد تتغير لغة الكلام كليا مع الفلسطينيين والسوريين اذا فجر المتطرفون عبوة في احدى المدن الاسرائيلية، او تصاعدت حدة الاشتباكات الدائرة في جنوب لبنان. واعتقد بان العومل التي تحكمت بمواقف اولبرايت اثناء وجودها في المنطقة ومنعتها من ممارسة ضغوط جدية على حكومة نتنياو لم تتبدل ولن خلال الاسابيع المحدودة التي تفصلنا عن اللقاءات. وآمل ان تؤكد السيدة اولبرايت للشعب الفلسطيني ولاطفال الفلسطين الذين خاطبتهم مباشرة ما هو عكس ذلك، وان تبين لهم بانها عاقدة العازم على المساعدة في صنع مستقبل افضل لاطفال الشرق الاوسط .