تعطل عملية السلام يستوجب اجراء تغيير في الأولويات الفلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 02/11/1997
قبل الاتفاق على موعد لقاء واشنطن الجديد 3/10/1997 بين وزيرة الخارجية الاسرائيلية “ليفي” وأمين سر اللجنة التنفيذية “ابومازن”، حاولت الوزيرة اولبرايت ومنسق عملية السلام روس، عبر الهاتف، اقناع الجانب الفلسطيني بان يرافق ابومازن رؤساء عدد من اللجان الفرعية، ذكر منهما: المطار، الممر الآمن، والميناء، واللجنة الامنية. في حينه رفض رئيس السلطة الوطنية، وبعض أعضاء لجنة المفاوضات، فكرة نقل مفاوضات اللجان الفرعية لواشنطن. وتم التاكيد، للوزيرة اولبرايت، بان الجانب الفلسطيني مستعد لمواصلة المفاوضات في المنطقة، ليل نهار، حول هذه القضايا الفرعية. وان بالامكان التوصل لاتفاقات حولها كلها، في ايام معدودة، اذا صدقت نوايا الحكومة الاسرائيلية، والتزمت بنصوص اتفاق الخليل وملحقاته. وشدد الجانب الفلسطيني على ضرورة عدم اغراق لقاء واشنطن في قضايا لم تكن مدرجة على جدول اعمالها اصلا، حسب الاتفاق مع الوزيرة اولبرايت. وأصر على بقائه محصورا في نقاطه الاربع وهي: تنفيذ استحقاقي اعادة انتشار القوات الاسرائيلية في ريف الضفة الغربية اللذين استحقا في آذار وايلول الماضيين. تجميد الاستيطان وفق تعبير اولبرايت ” “Time Out، والاتفاق على ترجمات هذا الوقت المستقطع، او التجميد المؤقت. الدخول في مفاوضات الحل النهائي والاتفاق على جدول اعمالها وكيفية تناول قضاياها. والرابعة تنظيم العلاقات التعاون الامني بين الطرفين ومحاربة الارهاب.
وامام اصرار الجانب الفلسطيني على اعطاء الاولوية لمسألتي الاستيطان واعادة الانتشار ابتدع روس فكرة تسيير المحادثات في مسارين برعاية الوزيرة اولبرايت مباشرة. الاول يتركزعلى قضايا المرحلة الانتقالية المعتبرة اساسية عند الفلسطينيين، والثاني يتناول المسائل الفرعية التي تبحثها اللجان الفلسطينية الاسرائيلية التسع. وقرر من جانب واحد دعوة الطرفين الى واشنطن وفقا لصيغته، وطالبهم بتشكيل وفودهما بما يتناسب والعمل وفقها. في حينه لم تعترض القيادة الفلسطينية على اقتراح روس، لكنها تمسكت بموقفها العادل، وحسمت موقفها ورفضت دخول مفاوضات الحل النهائي قبل تنفيذ اتفاقات المرحلة الانتقالية. ولم تتجاوب مع تعديلات روس لجدول اعمال اللقاء. واصرت على فصل مكان اجتماعات المسارين.
ولم تلتزم باوامره وامتنعت عن ارسال رؤساء اللجان التي طلبها. وخولت ابومازن بكامل الصلاحيات للبت في القضايا الاساسية التي لم يخول بها الوزير ليفي. وشددت على عدم الدخول في بحث قضايا الحل النهائي قبل تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية.
وبالتمعن في ظروف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، ودوافع تمسكهما بمواقفهما يمكن القول بأن لقاء واشنطن، الذي لم يحضر له دينس روس جيدا، سيكون أقرب لحوار الطرشان، وسيدور في حلقة مفرغة. فالرجلان مخولان بالتوصل لاتفاقات حول قضايا غير القضايا المخول بها احدهم. وساذج من يعتقد بان الوزير ليفي سيحصل خلال وجوده في واشنطن على صلاحيات البت بتجميد الاستيطان، والبت في مساحة وتوقيت الانسحاب الاسرائيلي من الريف الفلسطيني. فقرار حكومته واضح في رفض الالتزام بهما، ولم يخوله بأكثر من مناقشتها والحديث عنهما. ولا اظن بانها ستغير موقفها خلال وجوده في واشنطن. لاسيما وان ادارة كلينتون ـ اولبرايت، وان تكن راغبة في تحقيق تقدم حقيقي في كل القضايا المتعلقة بالمرحلة الانتقالية قبل دخول مفاوضات الحل النهائي، لكنها ولاعتبارات متعددة ومتنوعة، ليست في وارد اسناد رغباتها بممارسة ضغوط جدية قوية على نتنياهو وحكومته، كالتي مارستها ادارة بوش – بيكرعلى حكومة شاميرعام 1992. والواضح انها لا تعير الزمن اهتماما كبيرا. وتجزئة مواضيع البحث وتفريخ مسارات جديدة، لا يتعارض مع توجهها القائم على استمرار عملية السلام ولو شكليا. ولا يمس دورها في التفرد برعاية العملية. فهي ليست في عجلة من أمرها كما الفلسطينيين. فمصالحها في المنطقة مؤمنة، وليس هناك من مزاحم لها. وتقف على ابواب التحضير لانتخابات الكونغرس، ولا ترغب في التصادم مع اللوبي الاسرائيلي في امريكا. ولا تتعرض لضغوط عربية ودولية موازية لضغوط اللوبي الاسرائيلي داخل وخارج الكونغرس. ومن يدقق في مواقف “روس” وتصريحات اولبرايت يستنتج بانهما سيرضيان بالقليل الذي سيقدمه الوزير ليفي لابومازن، وسوف يمارسان ضغوطا قوية على الجانب الفلسطيني للقبول به، تحت شعار قليل من الشيء خير من عدمه.
اعتقد بان الوقت قد حان لاعتراف الجانب الفلسطيني بخطئ تقديراته لاهداف وابعاد الحركة الامريكية الجديدة التي بدأت، بعد سبات طويل، بزيارة الوزيرة اولبرايت للمنطقة بداية ايلول الماضي “سبتمبر”. حين اعتقد البعض بانها وزيرة قوية، وامرأة لا تقبل الفشل. وبانها حسمت امرها وشمرت عن ساعديها، وقررت الدفاع عن الاتفاقات التي وقعت برعاية امريكية. وستمارس ضغوطا جدية قوية على حكومة نتنياهو لالزامها تنفيذ ما لم ينفذ من اتفاق الخليل، وبخاصة وقف التوسع في الاستيطان ومصادرة الاراضي، واعادة انتشار القوات الاسرائيلية وانسحابها من مساحات جديدة من اراضي الضفة الغربية. فتصرفها حيال لقاء واشنطن وتبدل موقفها نسفت تماما تلك التقديرات، وبينت حقيقة قدراتها في مجال العمل مع اسرائيل.
وبصرف النظر عن ردود الفعل الادارة الامريكية على الموقف الفلسطيني العادل، وعن الخطوات اللاحقة التي ستقوم بها لمنع انهيار المفاوضات، فان فشل لقاء واشنطن صار شبه مؤكد. ومسؤولية ذلك تقع على عاتق حكومة نتنياهو أولا، التي تريد اخضاع العالم لمشيئتها. ومنسق عملية السلام “روس” ثانيا، الذي لم يحضر للاجتماع جيدا. والوزيرة اولبرايت ثالثا التي لم تدقق جيدا في اعمال مبعوثها، ولم تدافع عن مواقفها واقتراحتها. اما النتائج المباشر للفشل فستكون تعميق أزمة عملية السلام ودفعها لحافة الانفجار. ونمو الشكوك الفلسطينية في صدق النوايا الامريكية وجديتها تجاه انجاح المفاوضات وانقاذ عملية السلام، والشك في مصداقية كلام ووعود الوزيرة اولبرايت. وزيادة حدة التوتر بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، وزيادة مساحة عدم الثقة بين الجانبين. وانفتاح علاقات الطرفين واوضاع المنطقة على كل الاحتمالات. ويمكن القول بان هذه النتائج الدراماتيكية “غير المفاجئة” زادت مازق القيادة الفلسطينية عمقا واتساعا، وحشرتها في زاوية ضيقة، ووضعتها امام خيارات قليلة محددة. وتفرض عليها اتخاذ قرارات وتوجهات صعبة وواضحة، بعضها يتعلق باستمرار مشاركتها في المفاوضات وفقا للقاعدة التي ثبتها نتنياهو وقبلت بها اولبرايت. وبعضها الآخر يطال حاضر ومستقبل علاقتها بحكومة نتياهو.
واذا كانت تجربة 16 شهرا من المفاوضات في عهد الليكود بينت بان تجميد المفاوضات وتعليقها او الانسحاب منها يفقد الفلسطينيين امكانية استثمار بعض الطاقات العربية والدولية، ويخدم مواقف نتنياهو، ويسهل عليه تحقيق طموحه ورغبته في تعطيل دورالرعاة، والتخلص من اتفاق اوسلو، ودفع الفلسطينيين للانسحاب من المفاوضات، ودفن عملية السلام برمتها..الخ فتراجع الفلسطينيون عن مواقفهم وقبولهم الذهاب لمفاوضات الحل النهائي، قبل الزام حكومة نتنياهو تنفيذ استحقاقات اتفاقات الخليل “مرحلتي الانسحاب وتجميد الاستيطان”، يسهل عليه تحقيق ذات الطموح والرغبة وبخسائر اقل. ويفتح شهيته على تنازلات فلسطينية اضافية، ويخلق اوهام محلية واقليمية ودولية حول حالة عملية السلام. وأظن انها تريح الادارة الامريكية وبعض العرب وكل الشهود على الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وتعفيهم جميعا من تحمل مسؤولياتهم ازاء اتفاقات شهدوا عليها.
لقد وصف رئيس السلطة الفلسطينية مفاوضات واشنطن قبل بدئها “بالمضيعة للوقت”. ويمكن اضافة، بان لا داعي لانتظار الفلسطينيين نتائج اجتماعات واشنطن حتى يقرروا ما سيفعلون. فالنتائج باتت معروفة سلفا، وقدر الفلسطينيين ومصالحهم تفرض عليهم، في ظل الاوضاع العربية والدولية السائدة، ان لا يتحملوا مسؤولية دفن عملية السلام، وان لا يخرجوا من ملعبها قبل الآخرين. وان يتحلوا بالصبر، ويلعبوا في الوقت الضائع، وان يستمروا في تضييع بعض الوقت مع المفاوضين الاسرائيليين، وفي الذهاب لواشنطن واستقبال الوفود والمبعوثين من مختلف دول العالم..الخ . وهم في كل الاحوال ليسوا ملزمين بالتنازل عن حقوقهم الواردة في الاتفاقات، او التفريط بحقوقهم الوطنية الاساسية التي لم تتناولها المفاوضات حتى الآن. والتمسك بحقوقهم وعدم تحل مسؤولية تدمير عملية السلام لا يعني يأي حال من الاحوال البقاء في حالة الانتظار. فالقيادة الفلسطينية لم تكن ملزمة قبل لقاء واشنطن، وليست ملزمة الآن، بابقاء جدول أولوياتها كما كانت مرتبة منذ اتفاق اوسلو وحتى الان. حيث كيّفت الاوضاع الداخلية الفلسطينية والعلاقات الخارجية على مقاس متطلبات عملية السلام. وأبقت مسألة تفعيلها، وهموم المفاوضات، ومشاكل الوفود المفاوضة في قمة جدول اعمالها.
اعتقد بأن المصلحة الوطنية، بما في ذلك تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، باتت تفرض على القيادة الفلسطينية اعادة النظر فورا في ترتيب الاولويات الوطنية. ووضع مسألة البناء الداخلي، وتعزيز تماسك وتصليب الجبهة الداخلية في رأس مهام عملها اليومي من الآن وحتى نهاية عهد الليكود عام 2000. والعمل على حشد طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة لمواجهة الاحداث والتطورات النوعية المتوقعة على صعيد العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية، والمنطقة حبلى بتطورات كبيرة. والوضح ان ضعف الجبهة الفلسطينية الداخلية يبدد الكثير من الطاقات، ويضعف موقف المفاوض الفلسطيني، ويشجع نتنياهوعلى المضي في مواقفه العنصرية المعادية للفلسطينيين والعرب كشعوب، ولصنع السلام معهم.
وبعد لقاء واشنطن يخطئ من يراهن على التحركات الامريكية والدولية التي تهب على المنطقة، بين فترة واخرى، في انقاذ عملية السلام، والزام نتنياهو بتنفيذ الاتفاقات التي وقعتها حكومته وحكومة العمل مع الفلسطينيين. واذا كان نتياهو وأركان حكومته ما زالوا يولون الرأي العام العالمي المؤيد لاستقرار اوضاع المنطقة بعض الاهتمام الشكلي، ويظهرون بمظهر الحريص على صنع السلام مع العرب، فعلى العرب عامة وبخاصة الفلسطينيون ان يدركوا بأن حتى مثل هذا الحرص الشكلي سوف يتلاشا ويتبخر اكثر فأكثر بتناسب طردي مع احتدام الصراعات الاسرائيلية الداخلية ومع اقتراب موعد الانتخابات، وتزايد حاجة نتنياهو للمتطرفين. وسوف يستبدل بعد شهور قليلة بمواقف نظرية وعملية اكثر عدوانية ضد السلطة الفلسطينية، وضد دول عربية الاخرى. ولعل من المفيد للعرب ان لا يتعاملوا مع التحذير الروسي من عمل عسكري اسرائيلي واسع في لبنان كما تعامل اهل القرية في “قصة راعي الغنم والذ ئب”. وذات الشيء ينطبق على التعامل مع نتائج وانعكاسات التهديدات الاسرائيلية الموجهة ضد ايران. فمصلحة نتنياهو ومعتقداته الفكرية لا تتعارض مع افتعال الازمات الكبيرة والصغيرة هنا اوهناك، خاصة اذا ضمن تحقيق بعض النجاح فيها. فمثل هذه الازمات تشد المتطرفين الاسرائيليين من حوله، وتعزز تماسك الجبهة الداخلية حسب وجهة نظره. وتشبع عنجهيته ورغباته العدوانية. وذات الشيء سيكون مفعول ونتائج اية عمليات عسكرية فلسطينية تنفذ في هذا الوقت بالذات ضد اهداف مدنية اسرائيلية.
اعتقد بان نتائج مفاوضات واشنطن المعروفة سلفا، ووصول عملية السلام التي عرفناها الى نهايتها، واصرار نتنياهو على تبديد مناخ السلام من كل ارجاء المنطقة، وتمنّع الادارة الامريكية والعالم عن وضع حد لتهوره، باتت تستدعي عقد قمة عربية بأسرع وقت ممكن ووضع استراتيجية موحدة لمواجهة تهور نتنياهو، والقيام بتحركات منسقة وموحدة لتعطيل اندفاعه نحو زج المنطقة في صراعات دموية جديدة. اما على الصعيد الفلسطيني فأظن بأن التفكير في تشكيل “قيادة طوارئ وطنية عليا” والدخول فورا في حوار وطني شامل غير الحوار الذي عرفناه حتى الآن، خير من الانشغال في تعديل او تغيير وزاري شكلي مثلا.