وقائع ليلة اعلان الاستقلال وقيام الدولة
بقلم ممدوح نوفل في 10/11/1997
الحلقة الاولى
حلم الفلسطينيين بالدولة طويل ومليء بالألم والأمل
بعد عشرين عاما من المعاناة من القهر والمعاناة، إنفجر الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة اواخر عام 1987 في إنتفاضة عارمة في وجه الإحتلال. وأطلقت القيادة الفلسطينية عام 1988 مبادرة سلام قبلت فيها لاول مرة فكرة تقسيم فلسطين. وتبنت شعار “دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية”، ووافقت على قراري مجلس الامن الدولي 242 و 338 كأساس لحل الصراع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي. وأعلن المجلس الوطني الفلسطيني من الجزائر في الخامس عشر من تشرين أول 1988 “اكتوبر” استقلال فلسطين، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967.
وبعد ايام قليلة تحل الذكرى التاسعة لاعلان الاستقلال واعلان قيام الدولة الفسطينية. وبصرف النظر عن طريقة استقبال الشعب الفلسطيني وبخاصة الاجئون والنازحون لها يبقى ذاك الاعلان حدثا هاما في تاريخ الشعب الفلسطيني ومستقبله يستحق التوقف امامه وتفحص آفاقه المستقبلية.
لقد عانى شعب فلسطين وقيادته السابقة والحالية عذابات كثيرة كبيرة من أجل ان تكون لهم دولة مستقلة ذات سيادة اسوة بشعوب الارض الا ان حلمهم ما زال بعيد المنال وطريقه طويلة.
وإنطلاقا من قناعتي بأن الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، وسواه من أحداث تلك الفترة، هي أحداث تاريخية هامة في حياة الشعب الفلسطيني وحياة المنطقة العربية كلها، فقد قررت في حينه، جريا على عادة قديمة، كتابة الوقائع الكاملة لتلك الأحداث، ودونت وقائعها أولا بأول. ولآن اضع اقساما منها بيد القارئ، وآمل ان أتمكن من وضعها كاملة خلال وقت قصير بين يديه ليستخلص ما يريد، وليصدر حكمه العادل على النضال الفلسطيني في تلك المرحلة. وسيجد القارئ في هذه الدراسة لوحة حية تبين طبيعة الفرح وحجم المعاناة والصراع مع الذات ومع الآخرين، الذي عاشته القيادة الفلسطينية ليلة اعلان الاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية . وفي سياق التوثيق حرصت على إبقاء الحقيقة المتعلقة بالمواقف والآراء كما هي، رغم معرفتي بأنها جارحة احيانا، وكل ما قمت به هو تصوير لبعض لاحداث والوقائع كما حصلت وحاولت ان اكون اشبه بآلة كميرا التصوير قبل ان تتدخل الجهود البشرية لعمل الرتوش هنا وهناك لتجميل الصورة او تقبيحها، فكلا العملين تشويه، للتاريخ ولنضال الشعب الفلسطيني وعذاباته.
من المعروف انه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمة الدول العربية في فلسطين عام 1948 اكملت الحركة الصهيونية العالمية، بتخطيط مسبق وبتواطئ مع سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، تنفيذ المرحلة الاولى من مشروعها “اقامة دولة يهودية كبرى في الشرق الوسط “. واقامت في فلسطين دولة اسرائيل على أجزاء كبيرة من ارض لا تملكها، تزيد مساحتها بكثير على ما خصصه لها قرار التقسيم رقم 181 الذي صدر عن مجلس الامن الدولي عام 1947. وجاء قرار التقسيم قرار التقسيم في حينه كاشارة لبدء جيش الوكالة اليهودية، متنوع ومتعدد التشكيلات قوات الهجانا، الارغون، وشتيرن، بشن هجمات واسعة على القرى العربية لارغام سكانها على الرحيل من ديارهم وهجرة وطنهم. وتحول بعضها وبخاصة ماقامت بها قوات الارغون بقيادة مناحم بيغن الى مذابح ومجازر بشعة بحق المدنيين.
بعد قيام دولة إسرائيل ظل الفلسطينيون والعرب متمسكين بحقوقهم التاريخية في فلسطين. ورفضوا الصلح مع إسرائيل أو الإعتراف بها او التعامل معها. ورفضوا تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. وفي عام 1967 نفذت الحركة الصهيونية المرحلة الثانية من مشروعها الكبير، واحتلت بتواطئ ودعم امريكي مباشر بقية الاراضي الفلسطينية “الضفة الغربية”، وكل شبة جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية. ورغم حالة الانهيار المعنوي والعسكري التي سيطرت على الاوضاع الرسمية العربية بعد هزيمة 1967، رفض العرب، بزعامة جمال عبد الناصر، في مؤتمر الخرطوم “29/8/1967″ التسليم بنتائج تلك الهزيمة المرة. وظلوا متمسكين بموقفهم الرافض للصلح والاعتراف باسرائيل وللمفاوضات المباشرة معها. وفقد الشعب الفلسطيني ثقته بدور الانظمة العربية وجيوشها في تحرير فلسطين، وتبلور نضاله المستقل في حركة وطنية فلسطينية مسلحة. خاضت نضالا مريرا من اجل تحرير الوطن السليب، وتحرير ارادة م ت ف واستقلالية القرار الفلسطيني، وتكريسها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
ومنذ 1948وحتى عام 1988 رفض الفلسطينيون كل الحلول الدولية المجحفة التي عرضت عليهم. ورفضوا إعتماد المفاوضات كوسيلة لحل نزاعهم مع اسرائيل. وظلوا متمسكين بشعار تحرير فلسطين واقامة الدولة المستقلة وعودة اللاجئين الى ديارهم. ومن أجل هذا الهدف القومي الكبير خاضت الدول العربية خلال ثلث قرن اربعة حروب كبيرة ضد اسرائيل (1956، 1967، 1973، 1982) قدمت فيها شعوبها تضحيات جسيمة، ودفعت الكثير من قوتها اليومي ومن تقدمها العلمي والاجتماعي والصناعي وازدهارها الاقتصادي. وعلى إمتداد نصف قرن من الزمن 1947لم يفقد اللاجئون الفلسطينيون الأمل بتحرير أرضهم وبالعودة الى مدنهم وقراهم وبناء دولتهم اسوة بشعوب الارض. وعانى الشعب الفلسطيني داخل وطنه وخارجه من الظلم والقهر ما لم يعانيه شعب آخر. وصلت في بعض الأحيان وفي بعض المواقع حدود الإبادة الجماعية، كي لا تقوم في المنطقة دولة فلسطينية وكي تقوم على أرضهم دولة “للأغيار” من اليهود القادمين من شتى أنحاء المعمورة.
من أجل تحرير فلسطين وقيام الدولة المستقلة، عانى كل الشعب الفلسطيني كل أشكال وصنوف الذبح والقتل والتعذيب، ووصلت حدود الأبادة الحقيقية في بعض الأحيان وفي بعض المواقع والمناطق، كالتي حصلت في دير ياسين، وكفر قاسم، وقبية، والمخيمات الفلسطينية في لبنان. وعانى من الظلم والقهر ما لم يعانيه شعب آخر. قرابة مليون شردوا من ديارهم عامي 48 67، حتى لا تكون هناك دولة فلسطينية، وحتى تقوم على أرضهم دولة للأغيار القادمين من شتى أنحاء المعمورة. وربع القرن الأخير يمكن بحق تسميته فترة الآلام والآمال الفلسطينية. فلم يعاني شعب آخر من شعوب الارض ما عاناه شعب فلسطين. آلآم المعاناة طالت الشعب بأسره.لم ينج أحدا منها وهذا لم يحصل في التاريخ من قبل. كل الشعب، نسائه وشيوخه ورجاله طالهم شيء من العذاب. فمن لم يقتل بالرصاص داسته الدبابات أو مات بالبلطات أو تحت السياط. ومن لم يمت بالبلطات تناثرت أشلاءه في الهواء، أو إنطمرت في أعماق الأرض مع شظايا القذائف والصواريخ مختلفة العيارات. ومن لم تقتله الصواريخ قتلته سياط التعذيب. ومن لم يمت تحت التعذيب، مات غرقا أو مسموما أو دفع للانتحار. حقا “ومن لم يمت بالسيف مات بالكندرة”. ومن لم يمت على الأرض مات في الجو. ومن لم تدفن أشلائه في الأرض، راحت مع الريح، أو دفنت في أعناق وأعماق الوحوش والطيور الكاسرة. كل صنوف الموت جربها شعب فلسطين. في ربع القرن الأخير فقط كل تكنولوجيا العصر سخرت لموته. العلم برمته وظف لقتله، وقتل طموحه في العودة والإستقلال وفي إقامة دولته المستقلة أسوة بشعوب الأرض. عددوا كل صنوف الموت المعروفة تجدوا فلسطينيا ما مات فيها.
كل الشعب بملايينه الستة أو السبعة والله أعلم بعدده..عانوا. من لم يعاني الموت عانى التشريد والحرمان من الوطن. ومن لم يعاني التشريد عانى الشوق للأهل المشردين في شتى بقاع الارض، وحرم قبل موته القديم أو القادم من اللقاء بهم، جيل ورث الموت والعذاب والأمل وورثه لجيل آخر. من سبق أخذ نصيبه ومضى ومعه الآلام، لكنه لم يضيع الآمال. فقد سلم الموت للجيل اللاحق ومعه مفتاح الحياة. سلمه العذاب لكنه كان ملفوفا بباقة من ورود الأمل بالدولة والعودة والاستقلال. ومن لم يعاني هذا وذلك عانى الغربة في داره وأرضه. ومن لم يذق طعم هذا العذاب، ضربه الجلاد المحتل بالسوط أو البسطار. سلبه أرضه، ولم يسلم عرضه. آه كم من إمرأة فلسطينية هتك عرضها، أو قتلت مع جنينها، أو أصيبت بمس من الجنون، وكان ذنبها الوحيد أنها فلسطينية تحب بلدها. وتحب الحرية، وتحب الأستقلال. تحب هواء بلادها تماما كحبها لزوجها أو طلفها أو لنفسها. وكم من طفل فلسطيني قتل دون ذنب إقترفه سوى أنه فلسطيني يراه البعض خطرا على حاضره ومستقبله.
مليون ونصف، مليونان، ثلاثة، أربعة، خمسة، خمسة ونصف، ستة سبعة عانوا الآلام والعذاب. ومن لم يعاني ما تم ذكره من صنوف الموت والقهر عانى فوق أرضه عذابات السجون والمعتقلات. سجون واسعة وكبيرة تتسع للآلاف دخلها أبناء فلسطين، وأخرى بالكاد تتسع لانسان واحد. مئات حشروا في غرفة واحدة حتى باتوا مصفوفين ومرتبين فوق بعضهم البعض كما ترتب الأشياء الجامدة. ومن لم ينزف جرحه تلفت أعصابه فشاب و شاخ مبكرا والبعض دفع للانتحار.. ومن لم يمت جوعا، عانى عذابات الجوع. ومن لم يعاني هذا كله حرقته شمس الارض وحرارتها وهو “داخل صهريج” أو وهو يقف تحتها أو فوقها من أجل لقمة العيش. دلوني على صنف من صنوف الآلام والمعاناة والعذاب أدلكم على فرد أو عائلة أو حمولة أو عشيرة أو قرية أو مدينة أو مخيم فلسطيني عاشها وعانى منها. ولكن دلوني أيضا على بطولة خارقة صنعها الانسان منذ قدم التاريخ فردا أو مجموعات أدلكم على فلسطينية وفلسطيني أو فلسطينيين قاموا بما هو أعظم منها. بالأمل والأصرار والتصميم والعزيمة قاتل الفلسطيني ضد قهر الطبيعة وغضبها المتكرر والمتنوع. قاوم إرادة القدر واستطاع الصمود والنجاة. بالأمل والأصرار قاتل الانسان الظالم كما قاتل الطبيعة، وخرج من قتاله وصراعه مع البشر كما خرج في معركته ضد قوة الطبيعة وضد ظلمها له. في فترة ما كان الحلم والأمل سيفه الوحيد في مواجهة الأقدار والطبيعة والطامعين بأرضه. به صارع ظلم العالم له. شعب بكامله قاتل وصمد وعاش بفعل بذرة الأمل المتجددة في داخله. كانت الطبيعة ضده والقدر ضده. وكان الانسان ضده بما في ذلك “بعض إخوانه من العرب” إلا أنه لم ييأس ولم يستسلم .
لم يتردد الفلسطينيون من جانبهم في حمل كل صنوف الأسلحة التي توفرت لهم ليستخدموها ضد الأعداء. بعضهم تمنى الموت ليخلص من العذاب. ولكنه لم يتردد في صنع الموت للأعداء. قاتل بالحلم وبالأمل وبالقلم. بالحجر قاوم، إستخدم المدفع، قذف القنابل والصواريخ، فجر العبوات، ودفع لخطف الطائرات. سلب ونهب خدع وقتل وقاتل. عمل كل ذلك، الصحيح منه والخطأ من أجل أن يبقى على قيد الحياة. ومن أجل إنتزاع الحياة ذهب للموت وفجر نفسه مكرها او يائسا. لديه قناعة راسخة، طالما أنا حي وموجود طالما أنا المنتصر. المهم أن لا أفنى، المهم أن لا أموت. المهم أن لا أضيع في دهاليز الصهيونية والاستعمار والعرب والفرنج والعجم. من بقائي ووجودي أصنع المستقبل. ثقته بنفسه كبيرة وهي التي تدفعه للتعلق بالحياة وبها يكبر معه الأمل. واجه أعدائه مباشرة وجها لوجه بالكلام. بالصمت عذبهم وأذاقهم الامرين. بصق في وجه جلاديه. كفر بالأديان وآمن بالخرافات وبالمعجزات وكل الغيبيات. واجه الأعداء بكل الاساليب، وصنع من أبسط الاشياء أسلحة فتاكة لا تقهر. نعم “بالكف قاوم المخرز”، “وإرتفعت عينه على الحاجب”. حول الحجر الى قوة فاقت قوة وفعالية فرق عسكرية جرارة. بإختصار تحمل ما تحمله البشر، وما لم يتحمله بشر، وصنع قدره بكل السبل وآخرها كانت إنتفاضته بالحجv . هذا في الربع الأخير من الزمن الذي نحيا، أما عما سبق فالحديث متشعب وطويل وعنه حدث ولا حرج. كتب عنه الكثير ولا داعي للتكرار رغم أن هناك الكثير مما يمكن أن يضاف ويقال. منذ بدء الخليقة وحتى الآن كانت أرضه مسرحا للصراعات. وعلى مر العصور والقرون كان الفلسطيني شعبا وأرضا مستهدفا، وكان يصارع ويقاوم من أجل الاستقلال والحياة الحرة المزدهرة. موقفه واحد منذ كان يتكلم لغة غير اللغة العربية ولا زال بعد أن تعربت لغته.
كل هذه الذكريات التاريخية والمشاهد الحية، مرت ليلة إعلان الاستقلال وقبلها بأيام، كشريط سينمائي في ذهن معظم اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني والآلاف الأخرى من الفليسطينيين.
الشارع الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، إبتهج في 15 نوفمبر 88 لأعلان قيام دولة فلسطين. ورأى في هذا الاعلان تحقيق لحلمه، ولحلم الآباء والأجداد وحلم الشهداء وحلم المستقبل. ولكنه لم يخدع الذات، ولم يوهم النفس، نظر للاعلان عن قيام الدولة على أنه ترسيم داخلي فلسطيني للهدف، ونظّر له بإ عتباره مشروع نضالي يحتاج الى وقت ونضال طويل لاستكمال شروطه. أسسه متوفرة منذ قديم الزمان، ولكن شروط قيامه كحقيقة واقعة على الأرض غير متوفرة بعد. أما شروط طرحه كإعلان رسمي فقط فتوفرت في نوفمبر 88 فقط. والانتفاضة هي التي وفرت الشروط الفلسطينية والعربية والدولية الملائمة لطرحه. وفي حينه كان الأمل معلقا على الانتفاضة في تحويل الاعلان الى بنيان قائم على الأرض.