نتنياهو بين المطرقة الامريكية وسنديان عقيدته اليمينية
بقلم ممدوح نوفل في 04/12/1997
اشغل تنفيذ اتفاق الخليل، الذي وقعه نتنياهو في 15/1/ 1997وشهد عليه زعماء دوليين واقليمين، الادارة الامريكية ودول السوق الاوروبية وروسيا وعدد من الدول العربية والفلسطينيين احد عشر شهرا بالتمام والكمال. وبذل جميع المعنيين باستمرارعملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي ساعات طويلة وجهودا كبيرة، لاقناع نتنياهو وحكومته تنفيذ بنوده المتعلقة بمراحل الانسحاب واعادة انتشار القوات الاسرائيلية في ريف الضفة الغربية. الا ان جهودهم وضمنها زيارة وزيرة الخارجية الامريكية وعدد من وزراء دول السوق الاوروبية المشتركة للمنطقة، لم تسفرعن اية نتيجة ملموسة سوى اعلان الحكومة الاسرائيلية يوم30 تشرين الثاني “أكتوبر” الماضي من جانب واحد عن استعدادها “من حيث المبدأ” تنفيذ هذا الالتزام. فهل قرر اخيرا نتنياهو وأركان حكومته احترام توقيعهم على اتفاق الخليل وتنفيذ التزاماتهم بشروط، وقرروا تقدير مواقف القوى الدولية واحترام جهودها وبخاصة جهود الادارة الامريكية الحريصة على بقاء رمق حياة في عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي؟ ام انهم قرروا تغيير تكتيكه واستبدال خطابهم الرفضاوي الفج بخطاب دبلوماسي أقل صراحة ووقاحة وأخف استفزازا للآخرين؟
اعتقد ان تجربة الفلسطينيين والعرب والعالم 18 شهرا مع نتنياهو تؤكد وجود تناقض متواصل بين أقواله وأفعاله. وتجعل من الصعب، ان لم يكن من المستحيل، ان يصدق احد بأنه سيلتزم بمقترحاته الجديدة. اما سهولة التصويت عليها في مجلس الوزراء وسرعة اتخاذ القرار فيبعث على الريبة والشك عند كل العارفين تركيبة حكومة نتنياهو. وتصويت 16 وزير لصالح المبادرة مقابل معارضة وزيرين فقط، يؤكد بان نتنياهو أقنعهم بأن اقتراحه ليس مطروح للتنفيذ بل لاغراض تكتيكية صرفة. أما الاتصالات الفلسطينية الاسرائيلية التي تمت مؤخرا فقد بينت بأن “مبادرة نتنياهو” عبارة عن أفكار أولية عامة، تنطلق من مفهوم الليكود الغريب للتبادلية. حقوق الطرف الفلسطيني فيها مبهمة وغامضة بشكل مقصود علما بانها واضحة في الاتفاقات. اما شروط تنفيذها، قبل بلورتها، فمحددة بدقة وكلها لا علاقة لها بنصوص الاتفاقات وبعضها خرق صريح لها. والمبادرة مربوطة سلفا بشروط تعجيزية، أخطرها مطالبة الطرف الفلسطيني غض النظرعن بناء احياء استيطانية جديدة والقفز، حتى، عن “ال Time Out” الوقت المستقطع الذي طرحته الوزيرة اولبرايت، مع وعد بعدم بناء مستوطنات جديدة..والغاء الميثاق الوطني الفلسطيني “الملغى اصلا”. ومحاربة الارهاب وفق مفهوم نتنياهو وما يشتهيه، وهو لن يرضى بأقل من حرب اهلية فلسطينية. ومطالبة الطرف الفلسطيني بالموافقة على فتح اتفاق الخليل وملحقاته، والتسليم سلفا بالغاء المرحلة الثالثة من انسحاب القوات الاسرائيلية من ريف الضفة الغربية، والموافقة على ربطها بالانتهاء من مفاوضات الحل النهائي والاتفاق حول قضاياها “الحدود، القدس، الاستيطان، المياه، اللاجئين، العلاقات الامنية المستقبلية”، والاتفاق في عهد نتنياهو حول هذه القضايا الكبرى قد يستغرق سنوات طويلة ان لم يكن مستحيل.
وتوقيت طرح المبادرة، وتفاصيل قرار حكومة نتنياهو وحيثيات اتخاذه تظّهر عددا من الحقائق: أولها ان “مبادرة نتنياهو” وتوجهات حكومته مناورة سياسية شديدة الوضوح لمن يريد ان يراها كما هي. وتؤكد عدم حصول تغيير جوهري في قناعات التكتل اليميني الاسرائيلي الحاكم، المعادية لعملية السلام ولاتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات. وأن هدفها لا يتعدى المحافظة، اولا وقبل كل شيء، على وحدة الحكومة الاسرائيلية، ووحدة الائتلاف الحاكم وبقائه ممسكا بزمام السلطة في اسرائيل من الآن وحتى عام 2000. والهروب من الضغوط الدولية وبخاصة الامريكية التي يتعرض لها. ولعل تصريح “ميخائيل كلاينر” احد “قادة جبهة اسرائيل الكبرى” كاف لتأكيد ذلك. حيث قال “بعد قرار الحكومة لا حاجة لحجب الثقة عنها، فما حصل لا يعدو كونه كلاما في الهواء ولن يحصل أي انسحاب لقواتنا من المناطق”. ويبدو ان نتنياهو واركان حكومته أدركوا متأخرين بأن مواقفهم الايدلوجية العلنية الجامدة التي اعتمدوها في تحركاتهم السياسية، ودفعتهم لرفض فكرة الانسحاب من “أرض الميعاد” بفجاجة، ورفض تنفيذ اتفاقات دولية وقعوا بعضها، ووقعها زعماء دوليين حلفاء لاسرائيل، عقّدت الموقف السياسي الاسرائيلي على الصعيدين الدولي والاقليمي، وعزلتها عن اصدقاء حقيقيين مخلصين لها، وعلى رأسهم اركان الادارة الامريكية. وعمّقت الانقسام داخل المجتمع الاسرائيلي. وبدأت تعرض مصالح اسرائيل العليا الاقتصادية والسياسية لاخطار حقيقة متعددة ومتنوعة. كما بدأت تؤثر سلبا ايضا على استراتيجيات اصدقائها ومصالحهم الحيوية في المنطقة. ناهيك عن ان وقائع الحياة اثبت ان مواقفهم الايدلوجية شبه الموحدة لا تصلح لتحصين حكومتهم في مواجهة الضغوط الخارجية والداخلية التي باتت تتعرض لها دون انقطاع. ولم تستطع تصليب وحدة الحكومة وضعضعت الائتلاف الحاكم، ولم تبقيهما في منأى عن التأثيرات الدولية الخارجية، ونفرّت قسما من جمهورها من حولها، وأفقدتها جزء هاما من رصيدها الشعبي.
والحقيقة الثانية التي اظهرتها مبادرة نتنياهو وتوقيتها وتفاعلاتها الدولية هي ان حديث الدول الكبرى عن سيادة مبادئ العدل وحقوق الانسان، والدفاع عن الاتفاقات الدولية وحماية قرارات الشرعية الدولية..الخ لا يعبر بالضرورة عن حقيقة مواقفها في العلاقات الدولية. وان الايمان الحقيقي بهذه المبادئ “ان وجد”، فلا يكفي لاعتمادها كاس لمعالجة قضايا الشرق الاوسط. ولتحريك القوى الدولية، وبخاصة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها دول السوق الاوروبية المشتركة للدفاع عنها في مواجه الموقف الاسرائيلي عندما ينتهكها. وان حركتها الجدية تتناسب دوما طردا مع حالة مصالحها. فالضغوط الامريكية على نتنياهو لم تمارس باشكالها العملية والعلنية الا بعد ان ألحقت سياسته اضرارا ملموسة بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ومست بصورة مباشرة دورها القيادي والمقرر للوضع الدولي كقطب اوحد. وأعتقد بان هذه الضغوط ومعها ضغوط اوروبا وروسيا والصين ما كان لها ان تمارس لو ان الفلسطينين انساقوا في الشهورالاخيرة وراء مناورات وألاعيب نتنياهو السياسية. او تجاوبت الدول العربية مع الرغبة الامريكية في محاصرة العراق، وحضروا قمة الدوحة الاقتصادية، وتفاعلوا مع اهداف وتوجهات عقدها في الموعد الذي عقدت فيه.
والحقيقة الثالثة تقول، مهما كانت نوايا نتنياهو من مناورته السياسية، فمجرد اعلانه اللفظي عن استعداده المبدئي للانسحاب من اجزاء ،حتما ستكون ضئيلة، من الضفة الغربية يبين بان وضع اسرائيل في مرحلة ما بعد حرب الباردة وانطلاق عملية السلام ليس كما كان قبلهما. ومؤشرعلى تراجع الفكرالاصولي اليميني الاسرائيلي أمام الوقائع التي صنعتها حركة التاريخ على امتداد نصف قرن من الصراع الايدلوجي والدامي مع العرب. فمجرد قبول “دعاة ارض الميعاد وارض اسرائيل الكبرى” نظريا بمبدأ التخلي عن أجزاء منها، وتسليمها “للاغيار” يهز اسس ومرتكزات الفكر الصهيوني الاصولي. اما تنفيذه ولو بصورة جزئية فيكرس سابقة في تاريخ اليميين الاسرائيلي تفتح الطريق لخطوات أخرى تتلوها لاحقا طال الزمن او قصر. اما تفاعل نتنياهو واركان حكومته مع الضغوط الامريكية والدولية “الخفيفة” فهو مؤشرعلى ان المصالح الاقتصادية والسياسية لليهود داخل وخارج اسرائيل لها تأثير قوي في القرار السياسي الاسرائيلي، وقادرة على اضعاف المواقف الايدلوجية والعقائد الجامدة ودفعها للتراجع. ومؤشر على امكانية تحويل مناورة نتنياهو التكتيكية الى مصيدة يجري حشره مع اركانه فيها وعدم اخراجهم منها الا بعد دفع استحقاقات مشاركتهم في عملية السلام. ولا شك في ان الكيفية التي يتعامل بها الفلسطينين والعرب الصراع مع مناورة نتنياهو حاسم في ذلك.
واذا كانت مبادرة نتنياهو ليست مطروحة للتنفيذ، وغير مقبولة من الفلسطينيين، فشدة وضوح الحقوق الفلسطينية كما نص عليها اتفاق الخليل وملاحقه، وفجاجة خروقات نتنياهو لها، وتمسك الفلسطينيين بها ومآزرة الدول العربية لهم، وضعت نتنياهو واركان حكومته بين المطرقة الامريكية والدولية وسنديان قناعاتهم الايدلوجية التي بدأت بالتفسخ البطيء والتآكل التدريجي لانتمائها لعصور قديمة، وفشلها اقامة اسرائيل الكبرى. واعترافهم بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. واعتقد بان الاخراج السيء لمبادرة نتنياهو، واتقان الفلسطينيون ادارة دفة الصراع في الاسابيع والشهور القليلة القادمة، واصرارهم بعناد شديد على رفض فتح الاتفاقات التي تم التوقيع عليها، وتمسكهم بأخذ كامل حقوقهم المنصوص عليها في اتفاق الخليل وما سبقه من اتفاقات اخرى، ونجاحهم في شحن قوة الدفع الدولية والعربية الضاغطة على اسرائيل بطاقة اضافية، كفيل بابقاء نتنياهو في الموقع الصعب الذي يقف فيه. وسيضطر لاحقا اختيار احد الخيارين لا ثالث لهما: اما الذهاب الى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة دون ضمان نتائجها، او الالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين كما هي، والتكيف مع المتغيرات الدولية والاقليمية، ومع الحقائق الموجودة على الارض وضمنها وجود 3.5 مليون فلسطيني على أرض فلسطين التاريخية ولا ارض لهم غيرها.
والواضح ان شتاء الشرق الاوسط سيكون هذا العام ساخن سياسيا أكثر من الاعوام السابقة. وسيعيش الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني على وقع مبادرة، والاصح، مناورة نتنياهو وردود الافعال الداخلية والخارجية عليها، لاسيما وانه قرراعتمادها قاعدة لشن هجوم سياسي معاكس. واذا كانت مصالح الادارة الامريكية وحرصها على عدم تدهورعلاقاتها مع اسرائيل ستدفعها للتعاطي الايجابي مع مناورة نتنياهو، فالمصالح الفلسطينية العليا تفرض على القيادة تحاشي الصدام مع الادارة الامريكية في هذه الفترة الدقيقة، والحرص على بقاء الضغط الامريكي والاوروبي مسلط على رقبة نتنياهو وحكومته. ولا تعارض بين تمسك الفلسطينيين بحقوقهم الواردة في الاتفاقات والرد على مناورة نتنياهو بمواقف واقعية تحّول مناورته الى ورطة حقيقية. وآمل ان لا تخطئ بعض أطراف المعارضة الفلسطينية من جديد، وان لا تقوم باعمال يوظفها نتنياهو ضدها وضد القيادة الفلسطينية وضد مصالح الشعب الفلسطيني. فعملية عسكرية واحدة تنفذها المعارضة في هذه الفترة في القدس او تل ابيب ضد اهداف مدنية اسرائيلية تكفي لانقاذ نتنياهو من الغرق وتخرجة من مأزقه الراهن .