الادارة الامريكية وسبل انقاذ عملية السلام من الانهيار

بقلم ممدوح نوفل في 11/01/1998

تجمع القوى الاقليمية والدولية المعنية بصنع السلام في الشرق الاوسط على ان عملية السلام تعاني منذ فترة ازمة مميتة. وهي الان في حالة تآكل، ومقعدة عن الحركة، وتوشك على الانهيار. والشواهد على ذلك كثيرة، فقبل سقوط حزب العمل في الانتخابات الاسرائيلية عام 1996 اصيبت بشلل كامل على المسار السوري الاسرائيلي، وملحقه اللبناني الاسرائيلي. وبعد فوز الليكود في تلك الانتخابات، وقع تبدل في اسرائيل لم تكن الادارة الامريكية ترغب فيه، ووقع انقلاب على روح عملية السلام واسسها، وعلى الاتفاقات التي انبثقت عنها، وعلى كل استحقاقاتها ومتطلبات تواصلها. ولاحقا انتقلت عدوى الشلل “الجزئي” الى جسد المسار الفلسطيني الاسرائيلي. وبدلا من رفع اليقظة واعلان الاستنفار في البيت الابيض والخارجية وأروقة الكونغرس الامريكي، ازاء نتائج هذا التبدل استقبل رئيس الحكومة الاسرائيلية في الكونغرس بالترحاب الشديد، وقوبل كلامه بالتصفيق الحار، رغم انه أكد عزمه على تغيير معالم عملية السلام، وانتقد اسسها وقواعدها التي سارت عليها.ورفع شعارالامن مقابل السلام، وتجاهل شعارالارض مقابل السلام الذي تتبنته الادارة الامريكية،وبنيت عليه العلمية برمتها.
لاحقا اعترفت اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية بان عام 1997 كان عاما سيئا لعملية السلام، ولم تبين الاسباب، ولم تحدد المسؤوليات. ولم تعتبر اتفاق الخليل الذي تم التوصل اليه في15/1/1997انجازا. ولم تعترف بان تركها المفاوضات شهورا طويلة، بعد اتفاق الخليل دون رعاية، ساهم في تدهور العلاقة بين الطرفين الفلسطيني ـ الاسرائيلي. ولم تطرح تصورها لكيفة اخراج عملية السلام من مأزقها وتحسين اوضاعها، ومنعها من ان تسوء اكثر. ولاحقا أيد الرئيس عرفات تقييمها لكنه حمل حكومة الليكود المسؤولية، وقال بان انقاذ العملية يتوقف على سلوك نتنياهو العملي تجاه تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وركز على تنفيذ نصوص اتفاق الخليل وملحقاته المتعلقة بمراحل الانسحاب واعادة الانتشار الثلاث ـ استحقت اثنتان منها ـ وتشغيل المطار، واستكمال بناء الميناء، واطلاق سراح المعتقلين. ولا يستطيع نتنياهو، ولا منسق عملية السلام دينس روس، واكثر القوى تفاؤلا جلب اتفاق الخليل كشاهد لتفنيد الادعاء بان عملية السلام التي عرفناها قبل فوز الليكود في الانتخابات تجمدت عام 1987. فهذا الانجاز اليتيم تحوّل بعد توقيعه الى شاهد ادعاء جديد على حكومة الليكود وضد عدم التزامها بالاتفاقات التي توقعها، حتى لو شهد عليها الرئيس كلينتون. وأصبح شاهدا ايضا على ضعف الدور الامريكي في رعاية عملية السلام .
ووقائع الحياة السياسية في المنطقة، تؤكد بان اتفاق الخليل وملحقه كان وما يزال عنصر توتير للعلاقات الفلسطينية الاسرائلية. ومصدر ازعاج للعلاقات الامريكية الاسرائيلية. فنشاطات المنسق الامريكي الذي لا يمل، ولقاءات الوزيرة اولبرايت المتكررة مع الطرفين الفلسطيني والاسرائلي بقيت دون نتائج، ولم تفلح في ترجمته على الارض. واكدت المفاوضات تحوّله من قوة دافعة ايجابية للعملية السلمية، الى قوة سلبية جذبت حركتها للوراء، وصارت عامل تشكيك بمستقبل المفاوضات، ولعل اقرار اولبرايت ضمنيا بهذه الحقائق المؤلمة دفعها لعدم تكرار زيارتها للمنطقة، وعدم ذكر الاتفاق كانجاز.
في حينه استغل نتنياهو تلكوء اولبرايت في متابعة تنفيذ الاتفاق، وأصدر أوامره الصريحة، في آذار 1997، للجرافات للصعود الى جبل ابوغنيم لبناء حي استيطاني ضخم هناك. فتوقفت المفاوضات، وتجمدت عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي. وبدل ارغامه على انزال الجرافات عن الجبل، تساهلت الادارة الامريكية معه ولم تلزمه بتنفيذ المرحلة الاولى من اعادة الانتشار، التي استحقت في الاسبوع الاول من آذار 1997. وتهرب نتنياهو لاحقا من الالتزام بتنفيذ المرحلة الثانية التي استحقت في ايلول 97. واخترق بجرأة من جديد المفهوم الامريكي لصنع السلام في المنطقة، وقلبه على رأسا على عقب. وبدلا من تركيز “اولبرايت وروس” دورهما على معالجة أزمة الثقة التي نشأت بين الطرفين جمدا حركتهما، ولم يعطيا المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية الجهد المطلوب ولا الوقت الاضافي الضروري. واشغلت اولبرايت نفسها عدة شهور في قضايا دولية أخرى غير متفجرة.
في حينه صدرت تصريحات عن الخارجية الامريكية بينت عدم موافقتها على مواقف نتنياهو. وأظهر علنا الرئيس كلينتون انزعاجه من مواقف الحكومة الاسرائيلية. وسرب مسؤولون امريكيون حديثا خلاصته بان الكيمياء لم تتفاعل بين كلينتون ونتنياهو. وبدلا من الضغط على نتنياهو للتكيف والتفاعل مع الموقف الامريكي، طالبت الادارة الامريكية العرب الصبرعلى نتنياهو، وتقدير اوضاعه وظروفه الداخلية. وأقصى ما قامت به هو اعتذار الرئيس كلينتون عن لقاء نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة الامريكية. ولاحقا حاول روس انجاح سياسة نتنياهو، وتمرير منهجيته الضارة بدلا من احباطها. وحاول اقناع الفلسطينيين بالذهاب لمفاوضات الحل النهائي قبل استكمال تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية. الا أن رئيس السلطة الفلسطينية رفضها بشدة، باعتبارها تتعارض مع أسس وقواعد عملية السلام، ومع روح ونصوص الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وتمسك بالحقوق الفلسطينية الواردة فيها.
موضوعيا، لا أحد يستطيع انكار الكثير من النجاحات الدبلوماسية الباهرة التي حققتها الدبلوماسية الامريكية في عهد الرئيس كلينتون في أكثر من جزء من العالم. على أرضه سلم الاتحاد السوفيتي “سابقا” بهزيمته. ووافقت الدول الاوروبية وروسيا والمانيا واليابان مكرهين على تهميش دورهم، وتهميش دور الامم المتحدة، التي ينتمون اليها. ووافقت على تفرد الادارة الامريكية في معالجة النزاع العربي الاسرائيلي وفق استراتيجيتها الكونية. ولكن بالمقابل لا أحد يستطيع “تغطية شمس الشرق الاوسط الساطعة بالغربال”. فالنجاحات الهامة التي حققتها الادارة الامريكية في المنطقة في مرحلة الوفاق الدولي تبخرت. ولا اتجنى على الادارة الامريكية، اذا قلت أنها في عهد الرئيس كلينتون ـ كريستوفرـ اولبرايت مسؤولة، اولا عن خسارة عملية السلام عامين كاملين ثمينين من عمرها، فهي الراعي الاوحد لها، الذي رفض بشدة اشراك آخرين في تحمل المسؤولية عن مصيرها. ومسؤولة ثانيا عن تراكم كم هائل من التطورات السلبية في المنطقة، وفقدان الشعوب العربية ثقتها بعملية السلام وبمستقبلها. ومسؤولة عن صب مياه كثيرة في قنوات أعداء عملية السلام والمعارضين من الطرفين للاتفاقات التي انبثقت عنها، وتمكينهم تعزيز مواقعهم في صفوف الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. فقد استثمروا تآكل فوائد عملية السلام، وتعطل قطار السلام عن الحركة، وتدهور العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية. واستغلوا غياب الرعاية الامريكية للعملية، وتبادلوا المنافع والادوار وتمكموا من تقوية مواقفهم، دون حاجة لتنسيق مباشر بينهم.
وتدرك الادارة الامريكية بان دورها في رعاية عملية السلام بات أعقد واصعب مما كانت عليه قبل الازمة السياسية الجديدة التي فجرتها استقالة “دافيد ليفي” وزير الخارجية الاسرائيلية. وبصرف النظر عن دوافع نتنياهو في دفع وزير خارجيته للاستقالة، وعن الدوافع الذاتية والحزبية التي دفعت ليفي لتقديم استقالته، فالواضح ان حكومة نتنياهو مالت أكثر نحو التطرف، وباتت حركتها باتجاه السلام مع الفلسطينيين مقيدة اكثر من اي وقت مضى بتوجهات المتطرفين داخل الليكود وفي الشارع. وان قدرة رئيسها ـ هذا اذا اقتنع ـ على التكيف مع الرغبات الامريكية في تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية باتت أضعف من قبل، فهمه الرئيسي ينصب الآن على لملمة اوضاع التحالف الحاكم، ومواجهة المعارضة الاسرائيلية، والبقاء في سدة الحكم اطول فترة زمنية ممكنة. وهذا يتحقق فقط اذا استجاب جكومة الليكود لمطالب المتطرفين وطليعتهم المستوطنين، ودعاة عدم الانسحاب من “الارض المقدسة التي وهبها الرب لبني اسرائيل”، وصادر أراضي جديدة، ووسع الاستيطان.
واذا كانت عملية السلام قد استنزفت، وبالكاد تستطيع بقواها الذاتية البقاء على قيد الحياة، فلا شك أن ثمة أخطاء امريكية كثيرة أرتكبت ساهمت في وصولها لهذه الحالة المأساوية. وكي تستطيع واشنطن معالجة هذه الاخطاء، وانقاذ عملية السلام، يلزمها حسب وجهة النظر الفلسطينية، اولا وقبل كل شيء الاعتراف باخطائها، والعمل على تصحيحها بالاستفادة من الدروس الثمينة للتجربة. لقد ظهرت ادارة كلينتون امام دول العالم وشعوب المنطقة وكأنها فقدت البوصلة الضرورية لتوجيه حركة قطار السلام باتجاه محطته التالية على محطة اوسلو، ولا تعطي للزمن قيمة في حل الاشكالات وفي تعقيدها، وتصرفها يوحي بانها تريد تقطيعه وليس استثماره. وتبدو الآن امام جميع شعوب الشرق الاوسط كقوة عظمى فقدت زمام المبادرة، ولا حول ولا قوة لها تمكنها من انقاذ مصداقيتها. ولديها تفسير ضيق جدا لدورها كراعية لعملية السلام، حصرته بشكل أساسي في الامور ذات طابع اجرائي بدلا من الدفع باتجاه معالجة القضايا الجوهرية. وتظهر الادارة الامريكية وكأنها لا تملك رؤيا سياسية واضحة وقادرة على تأمين شبكة مصالحها وتوسيعها في المنطقة، وغير موفقة في توجيه السياسة الدولية وادارتها بنجاح. وهذا المظهر مس هيبتها الدولية، واضعف قدرتها في التاثيرعلى مواقف اطراف النزاع، وافقد عملية السلام ديناميكيتها. والواضح ان انقاذ عملية السلام من حالتها الراهنة يتطلب بداية ان تقتنع ادارة كلينتون بان صنع السلام والاستقرار في المنطقة مصلحة امريكية ودولية قبل ان تكون عربية او اسرائيلية. فالتجربة تؤكد بان كل الادارات الامريكية السابقة عندما حزمت مواقفها تجاه الصراع العربي الاسرائيلي، تقدمت باقتراحاتها الخاصة. وفرضت مواقفها على الاطراف عندما تعرضت مصالحها الجوهرية للخطر. هكذا تصرفت عام 1956ـ1957 عندما فرضت على بن غوريون سحب قواته من سيناء وقطاع غزة. وعندما نجح كيسنجر بعد حرب اكتوبر عام 1973 في دفع اسرائيل على الانسحاب من مساحات مهمة من الاراضي العربية. وعندما ضغط ريغان على بيغن واجبره على سحب قواته بسرعة من بيروت عام 1982، وحين الزم بوش شامير بالسكوت على سقوط الصواريخ العراقية فوق اسرائيل عام 1991، ومنعه من الانتقام من العراق. واذا كانت عملية السلام قد دفعت في السابق غاليا ثمن تردد الراعي الامريكي في طرح وجهة نظره الخاصة في المسائل الشائكة، فالواضح ان استحقاقات المرحلة القادمة لا تسمح باستمرار هذا الدورالامريكي الضعيف المتردد.
واخراج المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من جمودها يفرض علي السيدة اولبرايت استعادة زمام المبادرة، والانتقال من اسلوب ادارة أزمة الصراع العربي الاسرائيلي الى العمل على حلها. وتقديم اقتراحات محددة وحلول عملية ملموسة للقضايا الشائكة، تقنع الاطراف بان استمرار المشاركة في عملية السلام فيه منافع. وتتطلب من الادارة الامريكية افهام جميع الاطراف بان العودة لمرحلة ما قبل انطلاق عملية السلام له ثمنه. وتطمئنهم الى ان اهدافهم الرئيسية والاكثر أهمية قابلة للتحقيق حتى لو تأخرت قليلا. ولعل استبدال منسق عملية السلام الحالي بمنسق آخر يساعد في ذلك، لاسيما وانه يتحمل قسطا كبيرا عن تدهور الرعاية الامريكية للعملية، ولان طرفي الصراع باتا يتصرفان وفي ذهنهما صورة مسبقة عن مواقفه، ومعرفة دقيقة بحدود مناوراته وتكتيكاته، ولا نذيع سرا اذا قلنا بان الطرف الفلسطيني لم يعد يجد في زياراته للمنطقة اية فائدة عملية. والخارجية الامريكية مطالبة ايضا باعادة الاعتبار للقيمة الكبرى للزمن، وفرض احترامها بدقة وبخاصة المواعيد المحددة في الاتفاقات، التي لم يوليها روس ما تستحق من اهتمام. فرمال الشرق متحركة ورياحه تهب دون انتظام. ولا احد يستطيع معرفة متى ستهب العاصفة القوية القادرة على الاطاحة نهائيا بعملية السلام، وبجهود الادارة الامريكية. فامام عملية السلام تواريخ ومواعيد حاسمة في تحديد مستقبلها برمته.
لا شك في ان افساح الادراة الامريكية في المجال لحلفائها الاوروبيين ليمارسوا قناعاتهم، ويتخذوا ما يرتأونه من مواقف واجراءات ضد الطرف او الاطراف التي تعرض استقرار المنطقة للخطر يخفف الأعباء والمسؤوليات عنها. ويسهم في انقاذ عملية السلام، ويعطيها قوة دفع جديدة تساعدها على تجاوز العقبات الكبيرة التي تقف في طريق تقدمها. في عهد حزب العمل اثبت الفلسطينيون والاسرائيليون بانهم ليسوا بحاجة لدور حاسم وحازم من الولايات المتحدة او من اي طرف آخر، اما في عهد الليكود فوقائع 18 شهرا من المفاوضات ومن تعثرها تؤكد ضرورة ان يكون هناك طرف ثالث. وهذا يفرض على الادارة الامريكية تطوير مفهومها للرعاية، ودخولها كشريك كامل، على غرار ما حصل في المفاوضات المصرية الاسرائيلية قبل وبعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد. والحاجة لدور الطرف الثالث بات امر حيويا لانقاذ عملية السلام ولتزويدها بقوة دفع جديدة تمكنها من تجاوز ما ينتظرها في هذا العام من صعوبات كبيرة. ويجب ان لا يقتصر دوره على المجال الامني كما هو حاصل الآن، بل وايضا في جميع المواضيع الاخرى المطروحة على مائدة المفاوضات. وأظن بانها سوف تكبر وتزداد في الشهور القادمة وكلما اقترب الطرفان من استحقاق الانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق الخليل، ووعند دخولهما في المفاوضات حول قضايا الحل النهائي. لقد تحدثت الوزيرة اولبرايت مع الاوروبيين أكثر من مرة حول امكانية اطلاق مبادرة أمريكية اوروربية مشتركة اعتقد بان حالة عملية السلام تقول حان أوانها. وليس من مصلحة للادارة الامريكية في التجاوب مع مواقف نتنياهو المتشنجة من الدور المصري، فوقائع حياة عملية السلام في المنطقة منذ بدايتها، في عهد السادات وحتى الان، تؤكد بانه كان دوما ايجابيا، هدفه ايجاد حلول جذرية عادلة ودائمة لقضايا الصراع. واستبعاد الدور المصري او استعدائه كما يفعل نتنياهو في هذه الفترة يلحق اضرارا بعملية السلام، ويعرقل تقدمها للامام.
وفي هذا السياق يمكن القول، اذا كان الانحياز الامريكي احيانا لصالح الموقف الاسرائيلي يمكن استيعابه من قبل اقسام من الفلسطينيين، وفهم خلفياته ودوافعه، فوقائع تجربة 6 سنوات من عملية صنع السلام في المنطقة اثبتت بأنه ضار اذا كان شاملا وتجاوز حدوده، واذا تحول الى اذلال للطرف الفلسطيني، ودلال مفرط للمتطرفين الاسرائيليين. وبينت التجربة ايضا ان تواصله حول كل القضايا وفي كل الاوقات غير مفيد لعملية السلام، ولا للادارة الامريكية. ويشجع نتنياهو على الاستهتار بدور الراعي الامريكي، وبكل القوى الدولية الاخرى وبالشراكة مع الفلسطينيين، وبالاتفاقات الموقعة معهم. ولا يساعده على الخروج من قمقمه الايدلوجي، والتخلص من نزواته العنجهية المتطرفة. ولا يسهم في الحد من تصاعد التطرف داخل المجتمع الاسرائيلي وفي المنطقة ككل. وتخطئ اولبرايت اذا استمرت في الصمت على عدم تجاوب نتنياهو مع مقترحها العملي الوحيد الذي طرحته، وقالت فيه TIME OUT للاستيطان. فصمتها يفقدها مصداقيتها، ويضعف دورها اللاحق، ويلحق اذى كبيرا بهيبة الادارة الامريكية ككل. ويخطئ اركان البيت الابيض اذا تجاوبوا مع رغبات نتنياهو الخادعة بالقفز عن قضايا المرحلة الانتقالية، والذهاب فورا لبحث قضايا الحل النهائي. فهذه الخطوة تقود الى هدر الوقت، وزج عملية السلام في متاهات لا يمكنها الخروج منها بسلام. وتشبه حالة انسان تائه كاد يقتله الظمأ في الصحراء فراح يتوغل فيها اكثر فاكثر ركضا وراء سراب. فمن المستحيل التوصل مع حكومة ليكودية متطرفة، وبهذه التركيبة، الى اتفاقات حول القدس واللاجئين والاستيطان والحدود. ودعوة الادارة الامريكية لتخفيف وتقليل انحيازها لجانب الطرف الاسرائيلي، لا تعني بالضرورة تصادمها الحتمي مع نتنياهو وحكومته. فاذا كانت ادارة كلينتون غير راغبة في ممارسة الضغط على نتنياهو ولها اسبابها الخاصة بعدم التصادم مباشرة مع حكومة الليكود، فبامكانها رفع الحظر الذي فرضته على دور مؤسسات الامم المتحدة في عملية السلام، وتسهيل الطريق امام مشاركتها بفعالية في صنع الاستقرار في المنطقة، بما في ذلك التفكير في ارسال قوات لحفظ الامن والسلام على الحدود الفاصلة بين اسرائيل واراضي الدولة الفلسطينية التي سيعلن عن قيامها منتصف العام القادم.
وفي سياق الحديث عن دور الادارة الامريكية في ابقاء عملية السلام على قيد الحياة، وتعطيل او تاجيل انفجار الاوضاع، لا بد من التأكيد على استمرار الدعم الاقتصادي للفلسطينيين، فتحسين الاوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتسهيل حياة الناس اليومية، يزود شرايين عملية السلام بدماء الحياة، وعكس ذلك يجففها. والكل يعرف بان الاقتصاد الفلسطيني بحاجة الى كم هائل من الاستثمارات والمعونة لمنعه من للانهيار. فتواصل دعم الدول المانحة في السنوات القادمة ضروري وتشجيع الاستثمار من الداخل والخارج ضروري ايضا. ومحاربة الفساد في اجهزة السلطة الفلسطينية والانتهاء من وضع التشريعات اللازمة لتنظيم الحياة، ووقف انتهاك حقوق الانسان، وتعزيز الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني، ضرورة لا غنى عنها، لتحقيق لمنع انفجار الاوضاع، ولاستمرار عملية السلام.
ان اخراج عملية السلام من المأزق الذي تقف فيه الآن، ومعها السياسية الامريكية، ليس بالامر المستحيل، وكان يمكن ان يكون اسهل، لو تم العمل له قبل عام بشكل اكثف وافعل، وقبل تفاقم الازمة السياسية في اسرائيل. فالادارة الامريكية تبقى رغم كل اخطائها الجهة الدولية الوحيدة القادرة على التأثير في القرارالاسرائيلي، وذلك ليس فقط بحكم كونها القطب الاوحد في هذه المرحلة الذي يقرر وجهة السياسة الدولية، بل والاهم بسبب طبيعة العلاقة التاريخية لاسرائيل، حكومة وشعبا واحزابا، بالولايات المتحدة الامريكية. فالشارع الاسرائيلي حساس اتجاه هذه العلاقة ويتأثر بالمواقف والمصالح الامريكية ويتفاعل معها بسرعة. وكل الحكومات والاحزاب الاسرائيلية تحرص بصورة عامة على تجنب التصادم مع البيت الابيض وتسعى لكسب وده باستمرار. والمشكلة لا تكمن في قدرة الولايات المتحدة على الثأثيرعلى مواقف نتنياهو بل في اتخاذ القرار بالقيام بهذا الدور، وفي مدى استعداد البيت الابيض لاستخدام اوراق الضغط الكثيرة المتوفرة بين يديها. ومشكلة ادارة كلينتون تكمن في ان اسرائيل حليفها الاول في المنطقة هو الذي يتمرد على سياستها وليس العرب. تمرد الرئيس العراقي صدام حسين على الادارة الامريكية فحصل ما حصل، وتمرد الرئيس الليبي معمر القذافي فحصل ما حصل ايضا. وتمرد نتنياهو فلم يحصل اي شيء يقنع العرب بعدالة السياسية الامريكية. لقد سنحت الفرصة للادارة الامريكية، اكثر من مرة، لان تصطدم مباشرة بجدار المراوغة والنفاق الذي بناه نتنياهو حول موقفه، واتيح لها ان تشهد بنفسها مرارا كيف ان نتنياهو يحبط الدبلوماسية الامريكية، ويفقدها مصداقيتها، الا ان ادارة كلينتون تغاضت عن كل ذلك، وتركت الحكومة الاسرائيلية تنشغل بالتفوق العسكري، وبالتوسع في الاستيطان بدلا من انشغالها الجدي في البحث عن سلام دائم مع العرب والفلسطينيين. لقد اضاعت الوزيرة اولبرايت عاما كاملا “1997” من الجهد تجاه صنع السلام في هذه المنطقة المتوترة من العالم، زارت خلاله، مرة واحدة، عددا من دوله، ووجهت خطابات مباشرة للشعوب المتورطة في النزاع..الخ فهل ستغير اسلوبها، وتنهضب مهامها في عام 1998 بشكل أفضل وأفعل، أم انها ستضطر لزيارة المنطقة لاطفاء الحرائق الكبيرة والصغيرة المرشحة للاشتعال في أكثر من زاوية من زواياها ؟؟